مدارات

مجلة الثقافة الجديدة ـ كلمة العدد 360 أيلول2013

الحزب الشيوعي العراقي
مركز الإتصالات الإعلامية ( ماتع )

خلال عدة اسابيع حصلت تطورات في مناطق متناثرة: اندلاع تظاهرات كبرى في (ميدان تقسيم) في إسطنبول (أيار 2013)، وتخلي أمير قطر عن الحكم لابنه ولي العهد (حزيران)، واعتصامات جماهيرية مليونية ضد حكم الرئيس المصري محمد مرسي انتهت بالإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين في (30 حزيران – 3 يوليو)، ويبدو ان ما يجمع هذه التطورات مشترك واحد يتمثل في فقدان تيار الاسلام السياسي المبادرة الاستراتيجية ودخوله مرحلة التراجع.
وفي مثل هذه اللحظات العاصفة لا يجوز حصر الامور في نقاش "اكاديمي" حول تسمية ما جرى في مصر في 30 حزيران 2013 بكونه انقلابا عسكريا أطاح برئيس منتخب، أم تدخلا عسكريا جاء استجابة للإرادة الشعبية، وأدى إليه الفشل المتراكم للرئيس المعزول محمد مرسي، قد تتنوع المقاربات والتحليلات في وصف ماحدث في هذا اليوم والأيام التي تلته ولكن يمكن القول ان ما حدث كان بمثابة موجة جديدة لما جرى في 25 يناير/كانون الثاني 2011، انها الموجة الثالثة من الانتفاضة المصرية، الموجة الأولى أدت الى خلع مبارك ومحاكمته ولكن تم إجهاضها ومنع تجذرها بسبب استحواذ جماعة الإخوان عليها، رغم عدم مشاركتهم في الدعوة إليها أو صنعها، والموجة الثانية استغرقت عاما ونيف، ظل فيها الصراع محتدما حول مضمون الانتفاضة وأفقها في ظل تعاظم البطالة (32٪ من هم في العمر الانتاجي أكثرهم من حاملي المؤهلات العليا والمتوسطة)، وارتفاع الديون الخارجية من 34 مليار إلى 45 مليار دولار، وارتفاع الدين المحلي بمقدار 365 مليار جنيه خلال حكم مرسي، كما وصلت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر إلى أكثر من 50 ٪ من السكان.
هكذا إذن، وبعد اكثر من عام من المعارك، قامت الموجة الثالثة لتصحيح مسار الانتفاضة المصرية واستعادتها من القوى التي تآمرت عليها لسرقتها – اي الانتفاضة - وركوب موجتها، وفي هذه الموجة تكون مصر قد طوت صفحة "الإخوان"، وفي العودة إلى التجربة السياسية خلال فترة حكم الاخوان فإن ابرز عناوينها كانت تتمثل بنزعة احتكار السلطة والرغبة بالتفرد فيها واستبعاد الآخرين، بمن في ذلك من كانوا في موقع "الحليف" أو "الصديق".
لقد تم خلع "الأخوان" عن الحكم بإرادة الشعب والدور النشيط للنخب الثقافية ودعم الجيش، وانفتح أمام مصر الطريق الى المستقبل، لكن الاتجاه لم يتحدد بوضوح حتى الآن بل هناك ثمة سيناريوهات تلوح في الافق، وبيّن مسار الانتفاضة الشعبية خلال السنوات الثلاث الاخيرة انه لا طريق امام قوى الانتفاضة التي واصلت نضالها وتحدياتها رغم كل الصعوبات أن تستمر في ضغطها باتجاه تحقيق أهداف الانتفاضة الشعبية متجنبة الحلول الوسط مع القوى التي تعرقل مسار الانتفاضة عبر الالتفاف عليها من خلال محاولاتها الحثيثة لإجراء مجرد تغير في النظام القديم وليس تغيير النظام ذاته، نعم ما جرى في مصر، كما في بلدان عربية أخرى، يشير إلى أن "السلطة الجديدة" لم تغير كثيرا من بنية الدولة أو الاقتصاد، ولم تحقق أيضا أمرا من مطالب الطبقات الشعبية والنخب الثقافية التي انتفضت، وأنها ظلت تراوغ من أجل الحفاظ على البنية ذاتها، في الاقتصاد، ومع تعديل هامشي في شكل السلطة السياسية، وقد اوحى ذلك الوضع بأن الانتفاضات قد أُجهضت، أو أنه قد جرى الالتفاف عليها، أو أنها سرقت.
ولكن ما جرى خلال الاسابيع الاخيرة أكد على ضرورة تجنب تقييم الانتفاضة الشعبية ومآلاتها من خلال "ثقب" النتائج التي أحرزتها قوى الاسلام السياسي في الانتخابات التي جرت في العديد من البلدان التي شهدت الانتفاضات الشعبية ومنها مصر وكأن الامور قد حسمت لصالح الأخوان بمسمياتهم المختلفة، ونسيان القضية الاهم وهي أن هذه الانتفاضات ساهمت في تفكيك النظام الريعي – الطفيلي - الكومبرادوري الذي هيمن لعقود وبالتالي فتحت الأفق لمعركة البدائل، بين اولئك الذين يريدون تغييرا في النظام (في البناء الفوقي فقط) وأولئك الذين يريدون تغيير النظام بكامله (تغيير القاعدة الاقتصادية والبناء الفوقي المرافق لها)، وقد عبرت احداث 30 حزيران 2013 وما تلاها والتي شهدتها مصر عن نزعة التغيير هذه، وتبين التجربة أن حصر أفق الانتفاضة الشعبية في حدود تغيير شكل النظم السياسية بتشكيل "دولة ديمقراطية" لن يكون كافيا، لأن الحل الحقيقي يشير إلى أنه ليس من إمكانية لبناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية دون بناء اقتصاد منتج أي تجاوز طابعه الريعي – الخدماتي الراهن، وتحقيق مطالب الطبقات الشعبية، وهنا الفرق بين الفهم السياسوي للانتفاضة والفهم الاقتصادي - السياسي لها، فهذا الخيار الأخير يفرض إعادة بناء كلية المجتمع لا تغيير شكل السلطة فقط.
ما زال امام المنتفضين والجماهير العريضة مشوارا غير قصير، مليء بالصراعات بين من يريدون الاستحواذ متطفلين على ثمار نضال الجماهير التي اكتوت بسياسات الائتلاف الطبقي البيروقراطي – الطفيلي – الكومبرادوري وثارت ضده وفككته، ومن يريدون السير بالحراك الجماهيري الى نهايته المظفرة، عبر إنضاجه، وإقامة البديل المنشود، البديل المدني الديمقراطي الذي تتحقق في ظله العدالة الاجتماعية.
وإذ نؤكد على اهمية التحولات في مصر ودروسها، نود الاشارة ايضا الى ان الاوضاع في بلادنا تشهد تدهورا مقلقا على جميع المستويات، وخصوصا الأمنية، وتتعاظم المخاطر وتتعمق وتتفاقم الأزمة البنيوية العميقة، على مختلف الصعد مما يضع على جدول الاعمال حقيقة ان البلاد تحتاج الى تغييرات بنيوية عميقة وليس "إصلاحات" ترقيعية، كما اخذت تتنامى مظاهر حراك جماهيري واحتجاجات متنوعة حول قضايا مختلفة، بما في ذلك الحراك الذي شهده الوسط الثقافي حيث برزت آراء في هذا الوسط تعقد مقارنات بين موقف المثقفين في مصر الذي اشرنا اليه اعلاه ومواقفهم في العراق منتقدة الأخيرين، ومن هنا أهمية التأكيد الخاص والاستثنائي، في هذه المرحلة المضطربة والمفتوحة، على أهمية دور المثقفين والمبدعين في تثبيت التوجهات والخيارات الوطنية والديمقراطية الكبرى والدفاع عنها، والرهان المستمر على قدرة النخبة الوطنية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والسياسية في مجال بلورة الرؤى، وصياغة الأفكار وإنتاج التصورات وممارسة دورها التنويري بشأن كبريات القضايا التي تواجه بلادنا.
إن مهمة النخب الثقافية، بالتعاون مع مختلف اوساط المجتمع الاخرى المعنية بالتغيير، تجسيد في مسؤوليتها بالدفاع عن قضايا شعبنا وثقافته الوطنية والديمقراطية، ومشاركتها النشيطة في الحراك المجتمعي وفي مقاومة الاستبداد والعسف وتعرية نظام المحاصصات الطائفية - الاثنية، بأشكال مختلفة من خلال المساهمة الفعالة في معركة القوى المناضلة من أجل دولة ديمقراطية عصرية بديلة لدولة الطوائف ومحاصصاتها.
وإذ نؤكد على تجنب الاستنساخ في التجارب إلا اننا نود الاشارة الى ان تجربة النخب الثقافية المصرية في الانتفاضة الشعبية في مصر جديرة بالتأمل والاستفادة من دروسها وبما يتناسب وظروفنا الملموسة، فقد لعب المثقفون هناك ومنذ اندلاع الانتفاضة في يناير 2013 دورا رياديا ونشيطا وكانوا في مقدمة مقتحمي دروب الانتفاضة الوعرة، ممارسين بلا كلل دورهم التنويري الشجاع من اجل ان تصل الانتفاضة الشعبية الى مبتغاها متمثلا في: الديمقراطية والكرامة والحرية والسلام والعدالة الاجتماعية، وهو ما تحتاجه بلادنا التي تعيش اليوم مرحلة عاصفة ومضطربة وخطيرة ومفتوحة على مختلف الاحتمالات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة (الثقافة الجديدة)
العدد 360 أيلول 2013