مدارات

الاقتصاد السياسي للاصلاح الاقتصادي في العراق/ 6-7 / د.صالح ياسر

القضية الخامسة: رسملة القطاع الزراعي وتحويل الارض الى سلعة

   يدعو " القانون" الى"تشجيع الاستثمار في قطاع الزراعة وتوفير المدخلات الاساسية والكافية واصلاح التشريعات والاجراءات ذات الصلة بالاراضي وطرق استخدامها".

   اذا دفعنا هذه الفقرة الى نهايتها المنطقية وربطناها بمفهوم "الاصلاح الاقتصادي" الوارد في الفقرة (1)-اولا والتي تنص على التالي: " إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وفقاً لمبادئ الاقتصاد الحديثة ومتطلبات التحول لاقتصاد السوق، وضمان توسيع قاعدة الإنتاج من خلال اعتماد آليات السوق وتحرير التجارة الخارجية والداخلية وضمان المنافسة العادلة" لامكننا تسجيل الملاحظات التالية:

- بث الرسملة على مختلف جوانب الاقتصاد الوطني. ولتحقيق ذلك لا بد من " تدمير " أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالي أو رسملتها بقوة الأمر الواقع. ويتجلى هذه الترسمل واضحا عندما نعود للوسائل التي تتجلى بخلق الأرضية لرسملة القطاع الزراعي بدأ من " تدمير " الإنتاج السلعي الصغير (مزرعة العائلة) الى تأسيس الشركات المساهمة الى إيجار أراضي الدولة للشركات الزراعية مرورا بمحاولات إخراج الدولة من أي نشاط في القطاع الزراعي.

- تسعى الوسائل أعلاه أيضا لـ "تحرير" الأرض ذاتها كسلعة لصالح كبار الملاك والرأسمالية الزراعية، يقابله تحول أعداد كبيرة من فقراء وصغار الفلاحين إلى أشباه بـروليتـاريا. فما وارد في الفقرة المشار اليها اعلاه من " اصلاح التشريعات والاجراءات ذات الصلة بالاراضي وطرق استخدامها" يدلل على هذا الاستنتاج.

- وإذا كانت هذه الوسائل مقبولة ومشروعة من وجهة نظر صائغي "القانون" إلا أنها تقع في تناقض مع واقع القطاع الزراعي الذي ما زال القطاع الاقتصادي الأكثر توفيرا لفرص العمل ". فتطبيق الوسائل أعلاه، وهي رأسمالية طبعا يستلزم اعتماد " أساليب الزراعة الحديثة " التي هي أساليب تركز بالأساس على التكنولوجيا والعمالة الماهرة وبالتالي سيؤدي ذلك الى بلترة قطاعات واسعة من سكان الريف، وعندها لن يكون القطاع الزراعي هو " القطاع الاقتصادي الأكثر توفيرا لفرص العمل " في الاقتصاد العراقي.

- ويعني ذلك ان " القانون " يراهن على اعتماد سياسات تقوم على مبدأ العمل حسب آليات المنافسة في سوق ما زالت قيد التشكل وغير مقننة مما سيؤدي إلى الآثار التالية:

  • هجرة آلاف الفلاحين المستبعدين عن الإنتاج الريفي إلى أحياء عشوائية، وستظهر مجددا نماذج من "مدن الصفيح" التي ستفضي أيضا الى إعادة إنتاج الفقر والتهميش بمديات جديدة بكل ما يحمله ذلك من مخاطر اجتماعية على السلم الأهلي.
  • تهميش نسبة متصاعدة من الفلاحين لصالح التركيز على إثراء أقلية.
  • انتقال الفقر من الريف إلى المدن: أحياء عشوائية ، بطالة ، أعمال غير ثابتة وما يرافق ذلك كله من مشكلات اجتماعية.

   ويمكن القول ان مقاربة " القانون " للإشكالية الزراعية في العراق ليست مقاربة أصيلة بل هي ترتكن الى نمط التطور في البلدان الراسمالية المتطورة بالأساس. ولكن لا بد من التأكيد هنا على استحالة تكرار هذا النموذج لجملة أسباب لا يتسع المجال للدخول في تفاصيلها بل فقط الإشارة الى اختلافها عن تجربتنا من حيث الظروف والشروط. طبعا قد يجادل المدافعون عن رسملة القطاع الزراعي قائلين: إن المسألة الزراعية في أوروبا قد وجدت الحل في الهجرة من الريف، فلماذا لا تكرر بلداننا هذا النموذج بفارق زمني قدره قرن أو قرنان؟ ولكن هؤلاء ينسون أن الصناعة والخدمات الحضرية في القرن التاسع عشر كانت تحتاج إلى أيدٍ عاملة أكثر، وأن الفائض عن حاجتها قد هاجر إلى الأمريكيتين. و " العالم الثالث " اليوم لا يملك هذه الفرصة، وإذا كان عليه أن يكون منافساً كما يفرضون عليه، فإن عليه اللجوء إلى التقنيات الحديثة التي لا تحتاج لأيدي عاملة كثيرة. إن الاستقطاب الناتج عن التوسع العالمي لرأس المال، يمنع بلدان " الجنوب " من تكرار نموذج " الشمال " بفارق زمني.

   يتضح مما سبق كله، وعلى ضوء الأزمة المزمنة والهيكلية التي تعيشها الزراعة والريف العراقي الناجمة عن سياسات النظام المقبور والسياسات الاقتصادية التي اعتمدها الاحتلال وأيضا انعدام وجود إستراتيجية تنموية عند القوى التي قادت العملية السياسية خلال الفترة بعد 2003 وفي ظل السياسات الحكومية الحالية، يتضح الاتجاه الواضح لتمايز الفلاحين وإفقار فئات واسعة منهم من الشرائح الوسطى والصغيرة. وهذا يخلق أرضية لطرح بديل فلاحى ديموقراطى لا بد من تدشين نقاش بشأنه لبلورة عناصره.

*******

القضايا المفقودة في " القانون "

   اضافة الى الملاحظات السابقة فانه يمكن الاشارة الى ان "القانون" افتقد أية إشارة الى جملة من القضايا ومن بينها وأهمها القطاع الصناعي التحويلي. وإذا كان الحديث يدور عن " رؤيا اقتصادية " جديدة من خلال تطبيق "اصلاح اقتصادي شامل" فلا بد من ان يكون في صلب مهمات هذا الاصلاح ورهاناته إيلاء الاهتمام المطلوب للقطاع الصناعي التحويلي. فلا مجال لـ " تنويع الموارد الاقتصادية وتحسين الكفاءة في إدارة الموارد الطبيعية" و " إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي لزيادة الإنتاجية وضمان المنافسة" كما أشار "القانون" بدون تحديد دور للقطاع الصناعي التحويلي. لا بد إذن من إطار استراتيجي لشروط التغيير في التخصص الإنتاجي والسلعي بحيث يتفق هذا التغيير وتتفق خياراته مع أهداف التنمية الصناعية وتساعد بالتالي على تعزيز البنية التكنولوجية والقدرة الوطنية على استثمار التكنولوجيا مع تجديدها وعلى تعزيز البنية الصناعية وتكاملها الرأسي وترابطها مع بقية القطاعات الاقتصادية. إن هذا يؤكد (إن كانت هناك حاجة للتأكيد) الحاجة الملحة إلى رؤيا متكاملة للتحديث التكنولوجي والتطوير في القطاع الصناعي إجمالا وفي كل من فروعه الرئيسية على أساس النظر إلى هذا القطاع بمجمله أي بمكونيه العام والخاص واية اشكال اخرى.

   ويهمنا هنا طرح التساؤل التالي: ألا تطرح المشاكل التكنولوجية البحتة والصناعية العامة والحاجة التاريخية الملحة إلى الإصلاح بل التغيير التكنولوجي والصناعي في القطاعين الصناعيين العام والخاص، باتجاه تفعيل النمو والتنمية وترقية التخصص الصناعي والاقتصادي، على صناع القرار الاقتصادي في بلادنا مهمة التعاون الوثيق والتنسيق الفكري والتخطيطي لوضع رؤيا وسياسة استراتيجية وطنية تكنولوجية ورؤيا وسياسة إستراتيجية وطنية صناعية يتحدد فيها دور كل من القطاع العام والقطاع الخاص ومسؤوليته؟.

   الخلاصة: "القانون" ورقة طافحة بالايدولوجيا، وهي بالتالي لا تصلح ان تكون رؤية اقتصادية تدعي أنها تستهدف بناء معالجات رصينة وليس ممارسة دور تخدير الوعي وتبسيط المشكلات البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد والمجتمع في لحظة تطوره الملموسة.

   وربما يمكن ان نغامر بطرح استنتاج قوامه ان نقطة مقتل "القانون" هي أن صائغيه مصرون على انه يمثل "رؤية جديدة". ولكن كما معروف فان " الرؤية الجديدة " عادة ما تقترن بالسعي لبناء " إستراتيجية جديدة " في حين ان "القانون" يركز الجهد عند بلورة " سياسات "، أو صياغة تكتيكات. ولهذا السبب جاءت صيغة "القانون" الحالية مرتبكة الصياغات، وغير واضحة المهمات، ومتعددة المرجعيات، بما لا يساعد على تحقيق مهمة الاصلاح الوارد في المادة الاولى والتي تنص على "إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي". فالصيغة المطروحة في "القانون" ستساهم في الابقاء على البنية الراهنة واعادة انتاجها في "ظروف افضل".

   وفي هذه اللحظات المتوترة والمفتوحة على كل الاحتمالات تواجه البلاد في الحقل الاقتصادي مشكلة الخيارات التنموية بين تلك القادرة على التغلب على الازمة البنيوية المتفاقمة وتلك التي تسعى لاعادة انتاج الواقع الراهن بل وتابيده. وبهذا المعنى فان الحديث عن الاصلاح الاقتصادي المطلوب ليس حديثا فنيا هو حديث عن خيارات اقتصادية – سياسية مركبة. وفي الواقع نحن الان امام خيارين كبيرين كل واحد منهما يعبر عن نمط تنموي محدد.

***************