مدارات

افتتاحية "الثقافة الجديدة": ثورة اكتوبر... مائة عام وما زالت الراية ترفرف!

تمر على البشرية في هذا العام، 2017، الذكرى المئوية الاولى، لقيام ثورة أكتوبر العظمى في روسيا القيصرية، تلك الثورة التي غيّرت مجرى التأريخ العالمي.
وبغض النظر عن الاختلافات في تقييم المآل الذي آل إليه النظام المنبثق من ثورة أكتوبر، قلّ من لا يتفق في أن هذه الثورة كانت احد اهم احداث القرن العشرين. فقد طبعت بصماتها على الاتجاهات الأساسية لتطور عالمنا خلال القرن العشرين الذي انقضى معظمه في ظل القطبية الثنائية للاشتراكية والرأسمالية. فالمؤرخ الماركسي الراحل أريك هوبسباومEric Hobsbawm ختم آخر أعماله بعنوان مثير: "عصر التطرفات"، راسماً صورة القرن العشرين بأنه قرن أكتوبر، القرن القصير الذي ابتدأ، برأيه، متأخراً في 1917، وانتهى مبكراً في 1991، سنة صعود يلتسن، مثلما ان القرن التاسع عشر كان قرن الثورة الفرنسية.
ورغم تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي في بداية التسعينات من القرن العشرين إلا أن ما طرحته ثورة أكتوبر من أهداف نبيلة وما تركته من إرث عظيم ما زال يمثل تراثا حيا في وجدان كل المناضلين من اجل الاشتراكية والسلام والعدالة الاجتماعية والديمقراطية ينبغي عليهم دراسته بشكل نقدي، مادي - جدلي - وتاريخي والتخلي عن إصدار الأحكام الجاهزة حول الثورة والوقوع في أسر جلد الذات أو إسباغ القداسة على بعض قاداتها أو التعامل معها خارج سياقها التاريخي الملموس وتحميلها بكل الممارسات والخطايا والجرائم التي ارتكبت في ما بعد، والتي جاءت متناقضة مع مبادئ وأهداف الثورة حين اندلاعها.
جاءت ثورة أكتوبر تعبيراً عن تفجّر تناقضات الرأسمالية في إحدى اضعف حلقاتها. وهي لهذا كانت ثورة حقيقية انطلقت من أعماق المجتمع الروسي بمشاركة واسعة من جماهير الفلاحين المسحوقة في الريف والطبقة العاملة النشيطة في المدن وأقسام واسعة من الفئات الوسطى الحضرية والمثقفين.
ان انتصار ثورة أكتوبر، بيّن جملة حقائق من بينها، بل ربما أهمها، أن الرأسمالية ليست الأفق النهائي للبشرية. كما ان سقوط مشروع بناء الاشتراكية في بلد او مجموعة بلدان لا يعني موت الفكرة ذاتها. فقد دللت ثورة أكتوبر على قدرة البشر، الطامحين الى التحرر والعيش في مجتمع مغاير للمجتمع القائم على علاقات الاستغلال، على اجتراح الخطوة الصعبة الأولى في هذا الاتجاه. وإن الاشتراكية كمشروع للتحرر الإنساني، لن تتبلور إلا كتتويج واستكمال لما سبقها من نضالات وخبرات وتجارب متراكمة، على طريق التحرر الإنساني، هذا الطريق الذي افتتحته الثورة الفرنسية في عصرنا الحديث وأغنته، نوعيا، ثورة أكتوبر العظمى.
ومن جهة اخرى فان الانهيار الذي حصل بحد ذاته هو حدث مأساوي ولكن له ميزة إيجابية، ان صح القول، هي أنه اسهم في دك أسوار الجمود العقائدي، وحرر العقول من قيود "الايديولوجية" (بمعناها السلبي) ما اعطى دفعا قويا للنقاش والحوار، وفتح الأبواب أمام انطلاقة كبرى للفكر للتجوال في رحاب البحث والتقصي والاستكشاف، حيث يلاحظ المرء هذا الكم الهائل من الدراسات والأبحاث والمناقشات الساخنة والاجتهادات غير المألوفة والاستنتاجات "المفاجئة".
وعلى الرغم مما بذل من جهود من طرف جهات متنوعة في محاولات للإجابة على الاسئلة التي طرحها الإنهيار، إلا ان النقاش مع ذلك يظل مفتوحا، بل تتزايد الحاجة اليوم في ظل معركة فكرية صاخبة، محلية وإقليمية وكونية الطابع، لإعمال العقل الجمعي للتفكير في هذه القضايا التي تتخذ ابعادا واستحقاقات تخص جميع قوى اليسار والديمقراطية والاشتراكية والسلام والعدالة الاجتماعية بل وكل المناضلين من اجل بديل يتجاوز الرأسمالية ولا ينحصر في افقها أو يخضع لآليات ومنطق ادماجها وهيمنتها.
إن هذا الخيار وإنضاج شروط تحقيقه يظل عملية نضالية معقدة مفتوحة الآفاق، سيرورة قد تطول آمادها، وسيكون محصلة لنضال فكري وسياسي عميقين، ونتاجا لنضالات قوى سياسية واجتماعية وتحالفات واسعة متغيرة.
كما أن اختيار هذا الشكل للنضال أو ذاك لتحقيق بناء هذا البديل، أهم مسألة للتكتيك والإستراتيجية. ولا يمكن حل هذه المسألة مسبقا، في هدوء المكاتب، ولا يعطى الجواب عنها إلا:
- تطور الحركة نفسها.
- ومراعاة الخبرة التي كدستها الجماهير.
- وأخيرا، الظروف الوطنية الملموسة.
وإذ تؤكد الماركسية على هذه المبادئ المنهجية المتعلقة بأشكال النضال وتكتيكاته الملموسة، فإنها تؤكد في الوقت ذاته على بحث قضية أشكال النضال الملموسة في إطارها التاريخي الملموس. وبهذا الصدد أكد قائد ثورة اكتوبر، (لينين)، على أن طرح "هذه المسألة خارج الظروف التاريخية الحسية، يعني جهل ألف باء المادية الديالكتيكية …. إن محاولة الرد بنعم أو لا، حين تطرح مسألة تقييم وسيلة معينة للنضال، دون أن تبحث بالتفصيل الظروف الحسية للحركة في درجة التطور التي بلغتها، يعني التخلي تماما عن الصعيد الماركسي".
وبعد هذا كله لا بد من طرح السؤال الاستراتيجي: هل يمكن وهل يجب ان يظل المرء ماركسيا بعد هذا الزلزال العظيم؟
يبدو لنا ان هذا السؤال هو في حد ذاته تعبير عن منطق مقلوب. فالسؤال الذي ينبغي ان يسأل هو: هل يمكن ان لا نكون ماركسيين بالنظر الى الاوضاع الراهنة والانهيار الذي حصل؟
ان جوهر الخطأ المتضمن في السؤال السابق يكمن في ربط الماركسية بالاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي: قيامه ومصيره. غير ان المنطق المعمق، يقضي بأن تربط الماركسية بتناقضات الرأسمالية. فالماركسية كفكر وكحركة تاريخية نبعت تاريخيا وتنبع منطقيا من قلب هذه التناقضات الرأسمالية، وما دامت هذه التناقضات موجودة تكون الماركسية اداة ومنهجا لكشفها بالنسبة للماركسيين عموما وبالتالي بلورة بديل يمثل قطيعة جذرية مع "النموذج" الرأسمالي.
ونختتم حديثنا بالتأكيد على أنه ورغم اللحظات المشوبة بمشاعر مختلطة بين حلم مؤجل وأمل آت إلا أن مجرد استذكار هذا الحدث بعد مئة عام من وقوعه، والذي غيّر العالم لأكثر من سبعين عاما إنما يعني أن هذه الثورة ومبادئها الكبرى في: السلم والخبز والأرض لم تتسربل بالنسيان، فما زال بيرق النضال ضد الاستغلال والظلم والعسف يرفرف، رغم كل الضجيج بـ"نهاية التاريخ" و"نهاية الآيديولوجيا".
إن التجربة الملموسة أكدت ان التخلي عن الخيار الذي دافعت عنه ثورة أكتوبر ضار ومدّمر معاً؛ لأنه لا يبقي لنا سوى البربرية والحروب، والفقر والجوع والاستغلال والاستقطاب الاجتماعي، والتفكك والتشظي المجتمعي وهيمنة القوى البيروقراطية - الطفيلية – الكومبرادورية – الطفيلية والريعية. وهنا يقبع خطر الردح الذي تعالى بعد الانهيار، والقائم أساساً على شطب هذا الخيار لأنه يشكل قطيعة بنيوية مع النظام الرأسمالي.
المجد لثورة أكتوبر العظمى في مئويتها الاولى!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 394
تشرين الثاني 2017