مدارات

نحن بحاجة لأكتوبر جديد* / فرج اطميزه

نشكركم جزيل الشكر على تلبية دعوتنا ومشاركتكم احتفالية مئوية ثورة اكتوبر الاشتراكية المجيدة
"البارحة كان مبكراً، وغداً سيكون متأخراً، اليوم يجب ان ننجز الثورة"، لم تكن عبارة فلاديمير لينين اشارة لتقدير اللحظة التاريخية فقط، بل كانت كذلك على حد تعبير الصحافي الامريكي جون ريد، عشرة ايام هزت العالم، وقد هزت العالم حقاً.
وكأن الزمن في ثورة اكتوبر حمل اكثر من الظروف الموضوعية، واكثر من الصدفة التاريخية، فقد جاءت ثورة اكتوبر في خضم الحرب العالمية الاولى، التي لم تكن سوى تعبير عن تنافس استعماري على العالم، الجنود يموتون مجاناً، ويدفعون زيفا وكذبا الى المعارك باسم شرف الامم المستعمرة وحضارتها، للدفاع عن مصالح البرجوازية الصناعية فيها. جاءت الثورة البلشفية لتسحب روسيا من حرب على هذه الشاكلة وتطرح شعار السلام العالمي والتحرر والعدالة والمساواة.
ولقد حظيت الشعوب العربية باهتمام كبير في انطلاقة ثورة اكتوبر، وترجم الى اللغة العربية ونشر بين الشعوب العربية نداء مجلس مفوضي الشعب " الى جميع المسلمين الكادحين في روسيا وفي الشرق" والذي جاء فيه: " نظموا حياتكم القومية بحرية وبلا عائق. فلكم الحق في ذلك واعلموا ان حقوقكم مثل حقوق شعوب روسيا يحميها كل بأس الثورة وهيئاتها، سوفياتات نواب العمال والجنود والفلاحين".
كما جاءت ثورة اكتوبر بعد خمسة ايام من وعد بلفور المشؤوم، وكأنها كانت الرد التاريخي لمعسكر حمل هموم الشرق، ودافع عن مصالحه بصواريخه وطائراته وجامعاته ومؤسساته الثقافية. الشيوعيون كشفوا، وحدهم للعرب وللعالم اسرار سايكس بيكو، وفي ذلك كانوا على حد تعبير الشاعر التشيلي بابلوا نيرودا، فضة الارض النقية.
ثورة اكتوبر لم تكن تعني ولادة قطب سياسي جديد فقط، او معسكر شرقي فقط، بل كانت تعني ولادة معسكر ايديولوجي جديد، قراءة جديدة للحياة وللسعادة البشرية خالية من جنون الربح والاستغلال والفردانية، نسخة ارقى من الفن والمسرح والموسيقى والادب، هي باختصار المنظومة البشرية التي تاه عصرنا اليوم عنها كثيراً.
عمال العالم في الماضي والحاضر مدينون بالكثير لثورة اكتوبر، فعيدهم سوفيتي النشأة في اليوم الأول من آيار، في واقعة حدثت على اراضي الغرب المتوحش، تنصلت منها الولايات المتحدة الامريكية الى يومنا هذا، واخفت جريمتها كما تحاول اخفاء جرائمها اليوم في سوريا وبلادنا قاطبة. عمال اوربا نفسها مدينون لثورة اكتوبر، فكل الضمانات الاجتماعية التي قدمتها الدولة الرأسمالية في الغرب كانت قلقا من انتشار الايديولوجيا العادلة التي تجسدت في ثورة اكتوبر وشبح كارل ماركس الذي اجتاح اوربا. جميع الموظفين في قطاعات المصارف الاوربية والتكنولوجيا والمصانع والخدمات الذين يعملون لساعات محددة، وبضمانات صحية وتعليمية مدينون لثورة اكتوبر قبل الدين لحكوماتهم المتربصة لنهش لحومهم.
وللعرب حصة من الدين لثورة اكتوبر، التهديدات الصادقة لخروتشوف في العدوان الثلاثي لم تكن حماية للقاهرة فقط، كانت كذلك دفاعا عن فدانات الفلاحين وزراعتهم والمصانع الحكومية التي اسسها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، كما كانت تماماً الرؤوس النووية الروسية في كوبا دفاعا عن مزارع قصب السكر عند رفاقنا في النضال في الجنوب الغربي من كوكبنا. اكتوبر المرجع في هزيمة اليانكي في فيتنام، اكتوبر المرجع في الثورة الفلسطينية، اكتوبر المرجع لباتريس لوممبا ولنيلسون مانديلا، اكتوبر المرجع في انتصار مصر في اكتوبرها الخاص، الذي سرقه السادات. عندما يحمل العالم ديناً بهذا الحجم لثورة، بافكارها وبسلاحها، فكان من الطبيعي ان نحتفل بها، الآن هنا وهناك وهناك.
انهار الاتحاد السوفيتي ولم تنهر اكتوبر. بعد الانهيار الكبير تفرد الكاوبوي المتوحش في العالم، فاحتل العراق، وقتل الافغان، وفكك يوغسلافيا، وامتص دماء السلاف بالتآمر مع بوريس يلتسين، ونشر المسدسات العمياء في شوارعها، وارسل نساءها من المصانع والمدارس ومركبات الفضاء الى مجون الخليج، وحاصر كوبا، واطلق يد الرأسمال الاوربي للتراجع عن المكتسبات الاجتماعية التي قدمها العمال خوفا من اكتوبر اوربي، فبعد الانهيار بسنوات آلان جوبيه يحاول تغيير قانون العمال في فرنسا، والولايات المتحدة تريد تغيير قوانين الاستثمار الاوربية فيها، وحدها ظلال اكتوبر من انقذت الفرنسيين وليست اوهام الاستثناء الثقافي الفرنسي.
واليوم في روسيا الرأسمالية هناك حنين غامر الى ايام وثمار ثورة اكتوبر العظيمة حيث قام مركز "ليفادا" المستقل لاستطلاعات الرأي العام بالقيام بمسح لآراء المواطنين في (134) مدينة وقرية روسية وذلك خلال الفترة من 18- 21 من شهر تشرين الثاني من العام الماضي 2016 عبر فيها (56في المائة من المستطلعين عن حزنهم لسقوط الشيوعية مقابل (28في المائة) فقط بالضد من ذلك. كما عبر 53في المائة منهم عن افتقادهم للنظام الاقتصادي السوفيتي الموحد، حسب التقرير الذي نشرته وكالة انترفاكس الخبرية بتاريخ 5/ 12/ 2016.
بعد الانهيار انتفض الشارع العربي دون بوصلة فانتج خريفا انتحاريا بامتياز، انتحرت ليبيا، وحوصرت سوريا، وكاد الاخوان ان يسرقوا مصر الى عصر الظلام. ولولا روسيا الصاعدة، روسيا الرأسمالية بتحفظ، والديمقراطية البرلمانية بتحفظ، لعاد العرب الى شريعة الغاب.
في الخريف العربي، لم تكن هناك لحظة تاريخية على شاكلة لينين في القطار في طريقه الى القيصر، اختل العرب ولم يهتزوا على شاكلة جون ريد. ولد عالم متعدد الاقطاب، ذلك صحيح، ولكن تناقض مصالح الدول الكبرى لا يكفي، فثمة حاجة لاكتوبر جديد، يعيد الاعتبار للحظة التاريخية، وللبوصلة، ولصراع الايديولوجيات.
ثمة حاجة لاكتوبر جديد يهز العالم المختل هذا، ويصرخ: فليسقط رأس المال بنسختيه الصناعية والتكنولوجية.
اكتوبر الجديد، هو النداء الاخير، اما الاشتراكية او الهمجية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كلمة الامين العام للحزب الشيوعي الاردني في افتتاح ندوة الذكرى المئوية لثورة اكتوبر الاشتراكية التي اقيمت في عمان يومي 18- 19/ 11/ 2017.