مدارات

في السياسة والنضال المطلبي / كمال شاكر*

حينما قرأت كتاب "مهزلة العقل البشري" لـ علي الوردي، توقفت عند الفكرة التي تقول: لا اريد ان يرضى عني جميع الناس فرضا الناس غاية لا تنال.. حسبي ان افتح الباب للقراء لكي يبحثوا ويتناقشوا..
فالحقيقة هي في الواقع بنت البحث والمناقشة.. نعم، ليس لدينا مقياس ثابت عام يقبل به الجميع لنحتكم اليه، والمستقبل هو الذي سيكشف عن مبلغ الصواب في تفكير كل فريق. مشكلة البعض انه لا يعترف بوجود افكار جديدة ولا يمتلك منها الا الشيء النسبي وقد تراه مغروراً بما لديه، ويظن انه مالك للقول الفصل.
الاهداف النبيلة لاتتحقق باتخاذ المواقف الناقدة عبر الهتاف او من موقع المتفرج السلبي, بل بالعمل من داخل العملية السياسية وفق الاسس والمبادئ المعتمدة.

تعلمنا الحياة دائماً: لا يكفي في الفكرة ان تكون صحيحة بحد ذاتها، الاحرى بها ان تكون عملية ممكنة التطبيق، لكن هناك من يدرسون الفكرة دراسة منطقية مجردة، آمنوا بها واندفعوا في الدعوة اليها اندفاعاً اعمى.
نحن اصحاب فكر ثوري نتعمق في فهمه لكي نفهم الانسان، ونتعلم كيف نخاطب عقله ونعمل على اعادة بنائه لكي نبني مجتمعاً حضارياً، نظامياً ديمقراطياً على اساس مؤسسات مدنية وقضاء مستقلاً يحمي كرامة وحقوق الانسان منذ بدء الحياة الى الممات. والذي يريد السير في هذا الطريق يجب ان يفهم بانه مقبل على الألم والقلق والعناء. فالصراع الفكري يؤدي الى التقارب والتطور اذ لا يتحول الى التنازع، فالمتنازع لا يستطيع ان يكون معتدلاً فمن طبيعة النزاع التطرف والحماس والتهاب العاطفة وصولاً الى التعصب. فابطال التاريخ لا اهمية لهم الا من حيث مبادئهم الاجتماعية التي كانوا يسعون وراءها ونحن حين ندرس التاريخ نريد ان نستشف منه صراع المبادىء فيه. ونتخذ الابطال رموزاً لتلك المبادىء، فان البطل لا شأن له بحد ذاته ومنزلته الاجتماعية تقاس بما حمل من مبادىء وبمقدار سعيه نحو تحقيقها، وبمبلغ تضحيته في سبيلها. ينبغي ان ندرس الافكار دراسة موضوعية وفق المنطق الجديد، فالافكار والعقائد هي ظواهر اجتماعية قبل ان تكون افكار مجردة والانسان يتمسك باحداها ويغالي فيها من جراء ما يحيط به من ظروف اجتماعية ونفسية معينة. وهناك مقولة تقول:" من ملك استأثر". فكلما ازداد الانسان عناوة ازداد يقيناً بانه افضل من غيره في كل شيء.. ولكن يغفل بان الحياة عبارة عن تفاعل وتناقض وتنازع ولولا كذلك لما كان هناك شيء اسمه مجتمع وحضارة. كثيرا ما يجري الحديث وبشدة عن النضال المطلبي والانشطة الجماهيرية المختلفة وكأنها مقطوعة الصلة بالسياسة.. وعالمين منفصلين بجدار وهمي بفعل القصور المعرفي والتعصب.. فالحياة المعاشة نتاج للإمكانات الاقتصادية والوضع السياسي. وهذان الأمران يحددان اختيار الشعارات المطلبية وأشكال التحرك الملائمة وإمكانية تدرجها بشكل تصاعدي. وبهذا المعنى لا يبقى النضال نهجا وهدفا قائما بذاته معزولا عن مجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية العامة، بل يصبح وبالضرورة عملية ذات جدوى في إطار هذه الظروف. فالحزب الذي يمتلك مشروعا للتغيير الاجتماعي لا ينبغي ان يختزل المسألة في التفتيش عن سبل لمعالجات فردية لهذه الفئة الاجتماعية او تلك رغم مشروعيتها ضرورة نضالية من داخل العملية السياسية لصياغة برنامج إستراتيجية شاملة لكيفية إدارة وبناء المؤسسات الاجتماعية الحكومية وغير الحكومية من.. نقابات.. وجمعيات.. ومنظمات المجتمع المدني.. والنوادي الثقافية والرياضية والحركات النسوية والطلبة والشباب.. والأطر الشعبية المتنوعة.
فالشعارات عالية النبرة لا علاقة لها بالصراع الطبقي.. وإنما هي تعبير عن الصراعات السياسية، الناتجة عن الخلافات المستعصية التي تنتج الانشقاقات، والتي تعتمد عروضاً استعراضية لخلق الاحراجات ليس الا. فالقراءة العلمية والواقعية لوضع كردستان تؤكد على أمرين هامين..
الاول.. معالجة الوضع الاقتصادي تقوم على أساس تنمية وتطوير القاعدة الاقتصادية.
الثاني.. العمل على إعادة بناء المؤسسات والدوائر على أساس ديمقراطي سليم.. وعلى أساس الكفاءة والتحصيل والشعور بالمسؤولية، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب.
وفق هذا المنظور تنظم الفعاليات الجماهيرية المطلبية لبناء الجسر المطلوب والضروري بين الشارع والنضال داخل المؤسسات التشريعية والتنفيذية.
وهذا التوجه يستوجب تقييم الواقع الموضوعي والإمكانيات الذاتية.. وتحديد أولويات للتحرك.. والقراءة العلمية تطرح السؤال ما مدى إمكانياتنا لوحدنا؟ وماذا نحقق؟ ومع من نحقق الأفضل؟ وهذا السؤال المركب ينتج الحاجة الى الانفتاح على العمل المشترك مع الآخرين للتحالف او التنسيق بدرجة من المرونة مع القوى السياسية التي نلتقي واياها كلياً او جزئياً في مسار تحقيق العملية الإصلاحية الديمقراطية كردستانيا. حريصة على معالجة الملفات المصيرية مع بغداد، على اساس اعتماد سياسة نقدية بناءة بهدف البناء، ومعالجات ضمن الإمكانيات الواقعية. وهذا التوجه يجعل من حزبنا ان يكون حزبا مكافحا بخطط آنية ومستقبلية، وبنظرة ستراتيجية يربط اليوم بالغد، اخذا كل المخاوف الآتية من خلف الحدود.. بعيدا عن العزلة والانكفاء، سائرا بخطى مدروسة وثابتة ومرنة وسط التعقيدات المتنوعة والناتجة عن افرازات المراحل المتداخلة بين ما هو قومي.. وما هو وطني.. وما هو طبقي.. وما هو بفعل التدخلات الخارجية. حزب له قراءة علمية للأحداث اليومية بدون الركض وراءها ولا بقطيعة مع ما تخلفها من تراكمات تؤثر على الاحداث شئنا أم ابينا، وعلى كل الصعد.. في ضوء هذه المعادلة.. ماهو الواقع، وكيفية التعامل معه بهدف التأثير به الى امام، نحو تحقيق أهداف الحزب وبرنامجه والذي مطروح للنقاش للتغير والاغناء دائما.
وهذا المسار يعتمد بالدرجة الاولى على قوة فعل الجماهير... عبر اشراكها في العملية السياسية دفاعا عن مصالحها الحياتية، وهذا لا يتحقق الا بخلق وعي صحي لديها، الى جانب ما لديها من وعي بسليقتها.
ففي الوقت الذي نتوجه الى تحريك الفئات الاجتماعية من خلال نقاباتها وجمعياتها ومنظماتها الديمقراطية المدنية والمشاركة معها في سبيل تحقيق مطالبها العادلة، لابد من العمل الجاد في خوض الاشكال الاخرى الفاعلة وفي المقدمة منها المعارك الانتخابية على مختلف مستوياتها.. لانتخاب السلطات المحلية في مجالس المحافظات ونحن متوجهون إليها في غضون الأيام القادمة.. وكذلك الانتخابات البرلمانية وهي محطات مهمة لإيصال ممثلينا الى مواقع تشريع القوانين وتنفيذها والتي تؤسس لبناء أسس صحيحة ورصينة للكيان الديمقراطي الضامن لحقوق الإنسان.. وهي خطوات مطلوبة للوصول الى حق تقرير المصير.
وهذه الأهداف النبيلة لا تتحقق باتخاذ المواقف الناقدة بالهتاف ومن موقع المتفرج السلبي، بل بالعمل من داخل العملية السياسية وفق الأسس والمبادئ أعلاه، نحن فصيل مؤسس لهذه التجربة وقدمنا قرابين دماء على هذا الطريق.. وسنستمر بمرونة ونفس طويل وصبر ثوري وهذا ما تربينا عليه نحن معشر الشيوعيين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكردستاني- العراق