مدارات

الرفيق قحطان جعفر حسن المعروف "ابو جعفر": من منهل الحزب غرفنا المعرفة وحب الشعب والوطن (2-2)

تحقيق كوريا رياح، احمد الغانم، سالم الحميد
ولد سنة 1936، ورغم تجاوزه السابعة والسبعين من العمر لم تخبُ فيه همة الشيوعي. فهو شعلة متقدة من الحيوية والحركة الدائبة، يغذيها تاريخ نضالي حافل، وعزم ثابت على المواصلة. يعمل في الحزب وفي التيار الديمقراطي، وينشط في المنظمات المهنية والنقابية.

لم توهنه الملاحقات والاعتقال والتعذيب، بقي مخلصا للحزب وفيا لمبادئه. لطفه وحسن تعامله مع الناس انعكاس لأفكاره ومثله ، فليس غريبا ان يسميه ابناء منطقته "قحطان الطيب" .
هذا المناضل كان لنا معه لقاء نشرنا الاسبوع الماضي جزءه الاول، ونعود اليوم اليه لنقدم جزءه الثاني والاخير.

بعد الانقلاب البعثي سنة 1968 كيف سارت الأمور؟

في فترة السبعينات عندما سعى البعث الى ان يمرر أجنداته على الجماهير، وان يمحو من ذاكرتها ما كان اقترفه من مذابح ومجازر بحق الأبرياء ،وخصوصا من مناضلي الحزب الشيوعي، حاول التقرب من الشيوعيين املا في تبييض تاريخه الأسود، وقدم عددا من المبادرات التي تهم الجماهير وتستهدف كسب ود الحزب. كانت تلك مرحلة جديدة من مراحل نضال الحزب والجماهير، في ظروف موضوعية جديدة.
وحينها كان الرفيق غانم حمدون يشرف علينا، وكانت الاجتماعات تعقد في بيتنا.
واتذكر اننا بتوجيه من الحزب قمنا بأعداد دراسات عن القضايا التربوية، وقد نشرت في "الثقافة الجديدة " باسم قحطان رسول جليل، وهو اسم مركب (قحطان هو أنا، ورسول هو رسول محمد الحكاك، وجليل هو جليل محمد علي الصفار). والاخير من الشطرة ولا يزال يعمل معنا في المجال الديمقراطي .
في تلك المرحلة كان التواصل مع الحزب خيطيا عن طريق الرفيق غانم. ورغم كل النشاط الجماهيري والثقافي الذي قمت به، لم انتظم حزبيا لأسباب بعضها ذاتي والبعض الآخر ناجم عن ظروف آنية. فيما بقيت علاقاتي المتشعبة مع الكثير من الرفاق، ومنهم الرفيق أبي داود الذي ظل يسأل عنا.

بعد إنهيار الجبهة اواخر السبعينات ظل البعثيون يتعاملون معك لا كمستقل، بل ينظرون الى نشاطك باعتباره اقرب الى النشاط الشيوعي، بالنظر الى تاريخك ونضالك السابقين. كيف كنت تواجه المضايقات والضغوط آنذاك؟

بات نشاطنا آنذاك وما نطرح من آراء يثير استياء البعثيين، الذين راحوا يكتبون عنا التقارير ويتحسبون لتحركاتنا بين الجماهير. كما اخذوا يلحون علينا كي نقدم طلبات انتماء لحزب البعث. وكان لا يمر أسبوع الا و يجددون الالحاح علي وعلى أم جعفر، ويلجأون تارة الى الترغيب ومرات الى التهديد والوعيد.
وكانت أحدى المديرات في دائرة أم جعفر تكتب التقارير عنها وعن "نشاطاتها المعادية للثورة"، فنقلت من التعليم إلى المالية . أما أنا فقد استدعوني عدة مرات إلى الشعبة الحزبية، خصوصا بعد قرار تبعيث التعليم، واخضعوني لضغوط شديدة. ولم تختف تلك الضغوط إلا بعد أن أرسلوا يطلبونني عن طريق مدير مدرستنا إلى الفرقة الحزبية. وعلمت لاحقا ان المدير الذي كان يتعاطف معي ( رغم كونه بعثيا ( قال عني لأمين سر الفرقة أحمد الدليمي انني من خيرة المدرسين عنده واكفأهم، وأنني لا علاقة لي بالسياسة انما لا اريد أن انتمي الى حزب، وأنه يتابعني ولا يلاحظ ما يثير الارتياب، وما الى ذلك.
كذلك كان الأمن يرسلون بطلبي، لكني كنت مطمئنا لان ملفي كان في الحلة والرميثة. فكانوا يتحركون اعتمادا على التقارير دون إثباتات .
بعد انهيار الجبهة وما لحق بحركتنا، وجدنا أنفسنا كمن يمشي على حبل رفيع: أي زلة مهما كانت بسيطة يمكن أن تودي بحياتنا. وكانت الاعتقالات على أشدها ..
في ما بعد كنت اتمكن من متابعة "طريق الشعب" التي اخذت تصدر من كردستان، عن طريق رفيق كردي أسمه أبو سحر - قاسم عصام. كان يجلب الجريدة سرا ، وكنت ازوره في محله وأقرأها، ثم اتركها عنده طبعا لتكون في متناول غيري من زواره.
وذات مرة في التسعينات، حينما تمكن الامن من الوصول الى مكتبة تابعة للحزب في المدينة ووضع اليد عليها، جاءني أحد الرفاق وهو الرفيق عدنان الصفار الناشط في المجال العمالي ، وقال لي: سوف نغادر اليوم في الساعة الخامسة الى الشمال، ستأتي سيارة لتقلنا إلى هناك، وأنا جئت لأبلغك بذلك كي تكون على علم بأمرنا وتحتاط لما قد يأتي، علما إنني لم أخبر حتى بعض أشقائي بذلك. وبالفعل غادر الرفيق عدنان ومعه عائلته وأحد اخوته ، كذلك الرفيق أبو فكرت وعائلته .
طلبت منه نقل تحياتي للرفيق) أبو داود،) وقد حملها اليه مشكورا. وإن لم يتمكن من ايصالها فور وصوله الى هناك، بالنظر الى الضوابط الامنية المعتمدة في حينه، حرصا على سلامة الحزب.

بعد سقوط النظام .. هل عدت الى التنظيم ؟

سقوط النظام فتح امامنا آفاقا جديدة للعمل الحزبي وبشكل مباشر، رغم الأخطار التي اخذت تحيق بالحزب بسبب نشاط القوى الارهابية .. وقد منحت كل جهدي للحزب منذ الأيام الأولى للسقوط ، فعملت في اللجنة الاجتماعية للحزب التي تشكلت باقتراح مني ، بالنظر الى ان هناك كثيرا من الرفاق القدامى، منهم المرضى وكبار السن وعائلات الشهداء، بحاجة إلى الاهتمام والرعاية وفاءً وتقديرا لما قدموه من تضحيات كبيرة. الرفيق أبو داود بارك الفكرة، وبالفعل اسسنا اللجنة الاجتماعية تحت أشراف الرفيق الدكتور حسان عاكف وقمنا بنشاطات عديدة في مجال متابعة شؤون الرفاق.
وانتخبت عضوا في لجنة المقرات، ثم أصبحت مسؤول اللجنة الاجتماعية، وبعدها تم تكليفي بالعمل في اللجنة المحلية للحزب بمدينة الثورة. ورغم كبر سني وسوء أحوالي الصحية، اللذين يفرضان علي الابتعاد عن التنظيم بجسدي، يبقى حب هذا الحزب يسري في روحي ودمي \، الذي اعتبر نفسي جنديا في خدمة مبادئه وأهدافه.
وفي الفترة الاخيرة نشطنا في التيار الديمقراطي، ولكن عند أول اجتماع لنا وبفعل التعب والإرهاق، سقطت مغشيا عليّ ونقلت إلى البيت ، لأكون بعد ذلك عرضة للمزيد من الانتكاسات الصحية .
لقد علمنا الحزب أن نكون قدوة في سلوكنا، لذا كانت علاقاتنا بالناس جيدة ومتميزة، وهي علاقات متبادلة. وهذا ينعكس في علاقاتي مع الجيران ومع ابناء المنطقة، فالكل يعرف إني شيوعي، وإن سلوكي وأخلاقي يتبعان مما استقيته من مباديء الحزب ومن مناهله العظيمة، ومن قادته ورفاقه الكبارالذين غرسوا فينا مثل هذه السجايا.
لذا فالشيوعي الذي لا يستطيع أن يتحلى بأخلاقيات إنسانية في تصرفاته اليومية وعلاقاته بالجماهير، لا يمكن في رأيي أن يكون شيوعيا حقيقيا.

هناك أشخاص أثروا بك وتركوا لهم ذكريات حلوة في حياتك وبعضها مرة. من هؤلاء الأشخاص الذين لازلت تحتفظ بذكريات عنهم ...؟

كثير من الشيوعيين تركوا فيّ أثرا إيجابيا كبيرا، نعم .. كثيرون. ولا يغير من هذا ان أحد اعضاء الحزب كان تأثيره سلبيا. وقد شكل ذلك صدمة لي وحالة إحباط، وهو شيء لا بد من ذكره، لأن امثال ذلك العضو اضروا بنضال الحزب وبسمعته.
كان المذكور مسؤولاً عن تنظيم احدى المدن الجنوبية، وكان موقفه في ساعة الامتحان غير مشرف ، حيث اعترف على الجميع، مما تسبب باعتقالهم وكنت أنا وزوجتي من ضمنهم.
لكنني اتذكر باعتزاز اولئك الشيوعيين الاصلاء، مثل الشهيد ستار المعروف، والشهيد محمد موسى التتنجي. وهذا الرفيق الثاني وقف بكل شجاعة متحديا البعثيين ، قائلا: أن هؤلاء بكل أسلحتهم وما يملكون من عتاد، بإمكاني أن أهزمهم بعصا لا غير! كان لهذا الرفيق تأثيره حتى على عوائلنا من خلال شخصيته المحببة . كانت ملابسه متواضعة بسبب ضعف حالته المادية، لكنه كان يحمل فكرا ثاقبا وقلبا شجاعا، وقد خبرناه في مواقف كثيرة ..
هذا الرفيق استشهد تحت التعذيب .. وكان مثال الشيوعي الاصيل في حياته والشامخ في موته البطولي ...
من الأصدقاء والرفاق الآخرين الذين تأثرت بهم، الرفيق المرحوم عباس مجيد البياتي. كنا قريبين من بعضنا، نتواصل ونتزاور، وأتذكر أننا عندما كنا نعقد اجتماعات في بيتهم ، كان حميد مجيد موسى (الشقيق الاصغر للفقيد) يأتي ويسلم علينا.
كان آنذاك طالبا في الإعدادية، قبل ان يسافر في بعثة دراسية الى بلغاريا.