مدارات

في المسيرة الثورية... الخطوة الاولى.. صراع الافكار ( 10 ) / الفريد سمعان

كان الطلبة يحثون الخطى لكي يصلوا الى كلية الحقوق في الوقت المناسب.. فرادى ومجموعات. وقلة كانت تصل بالسيارات.. رغم ان كلية الحقوق تتميز (بالبطر) بالنسبة لبقية الكليات التي كانت تجتذب الطلاب الفقراء لوجود اقسام داخلية تضمهم وتؤمن لهم السكن في مجمعات سكنية قريبة من الكلية.. مثل دار المعلمين الابتدائية والعالية والكلية العسكرية وكلية الشرطة اضافة الى ان مستقبل خريجي الحقوق انذاك كان يؤهلهم لاشغال مراكز اجتماعية وسياسية على مستوى رفيع..
كان الوضع السياسي يضج بالصراع بين الطبقة الحاكمة برئاسة نوري السعيد الرجل الاول في العراق الذي كان يتمتع بسيطرة تامة على البلاط ممثلا في الوصي عبد الاله وعلى كافة السياسيين المخضرمين الكيلاني والمدفعي.. والسويدي والجلبي وكان ينفذ مطاليب الاستعمار بدهاء لا يتمتع به الاخرون وربما كان ذلك بسبب الدعم الكامل والاعتماد اللامحدود من قبل الانكليز.. والسفارة البريطانية التي كانت تطل على شاطئ دجلة في الصالحية.. الكرخ مقابل ساحة الوثبة مقابل غرفة تجارة بغداد. يقابلها من الجهة الاخرى بيوت بعض العوائل المشهورة التي مر ذكرها وكانت تشغل مساحة كبيرة.. وعلى مقربة منها تمثال القائد الانكليزي (مود) الذي احتل بغداد في الحرب العالمية الاولى وعلى الضفة الاخرى كان العمال والفقراء يشعرون بالغبن والاسى للفوارق الطبقية التي تمزق وحدة المجتمع وتفاوت الدخل الفردي للمواطنين.. وتردي الوضع الاقتصادي وارتفاع الاسعار في مواجهة الايرادات المتدنية وانتشار البطالة.. وتدهور الزراعة والاعتماد على الاستيراد لعدم وجود مشاريع صناعية. في ظل بعض الاعمال البسيطة كالحياكة والخياطة وصنع الاحذية والاستفادة من سعف النخيل في عمل الكراسي وبعض المنتجات البدائية. كالحصران والمهافيف.
وكان صوت الحزب الشيوعي ياخذ طريقه في صفوف العمال والكادحين. وقد انعكس ذلك على الطلبة الذين كانوا يتمتعون بالحماس والتوتر والانطلاق من مخابئ الجبن والخوف والتراجع والاندفاع دون مبالاة بكل الاحتياطات السلطوية واستعدادات القوى الامنية والشرطة المحلية واقتحام مواقعها. والتغلب عليها في الكثير من اللقاءات والمعارك التي جرت في مختلف ساحات بغداد وبعض المدن كالبصرة والناصرية والحلة والموصل.
ولعل الانفتاح الذي سعى اليه نوري السعيد في اطار التوجيهات البريطانية تجنبا من انفجار متوقع تشكلت الوزارة وكان وزير الداخلية سعد صالح من النجف الذي استجاب لطلبات السياسيين واطلق تشكيل الاحزاب (للتنفيس) عن الغضب الشعبي المتوقع الذي تبدو ملامحه من اضرابات عمال السكك والموانئ والسكائر والمواصلات.. وبدأ الصراع واضحاً بين الطلبة التقدميين.. من جهة والتيارات القومية من جهة اخرى.. وكانت القوى القومية في كلية الحقوق تثير الصخب وتوحي بتفوقها وقدرتها على السيطرة وغلق الابواب بوجه التيارات الديمقراطية التي كانت تتسيد الموقف رغم تعدد احزابها.. كحزب الشعب. وحزب الاتحاد الوطني. والتحرر.. ومن ابرز الوجوه التقدمية كان خلوق امين زكي.. ويوسف العاني.. واديب جورج وعبد الخالق القرناوي.. كما كان من ابرز الطلبة القوميين. فيصل حبيب الخيزران. وعدنان فرهاد والشاعر عدنان الاعظمي وكان الشيوعيون يعملون بصمت وهدوء يراقبون ويمارسون وينشرون افكارهم بذكاء والشعارات التي يتطلع اليها الطلبة وارتباط ذلك بالحركة الثورية.. والتحام قوى الثورة من العمال والفلاحين والمثقفين والطلبة الذين اطلق عليهم الرفيق فهد مقولته المشهورة (ان الطلبة هم الوردة التي تحملها صدور الطبقة العاملة) عندما سئل عن الموقع الطبقي للطلبة.
كان يقودنا.. احد الطلبة اسمه (ناظم) وكانت اجتماعاتنا تتم في المقاهي ونستغل الاوقات التي لا تزدحم بالناس لاسيما في الصيف حيث تصب الشمس لهيبها.. وتجدنا منفردين ولسان حال صاحب المقهى.. يقول هل هؤلاء مجانين.. يلتقون والحرارة تغسل جلودهم بالعرق وكانت الاجتماعات تتم بلا كتابة محضر.. وعند انتهاء الاجتماع.. يخرج اعضاء الخلية.. واحدا بعد الاخر ولا ينهضون كمجموعة تجنبا من السقوط في ورطة او مطاردة او رقابة من قبل الجهات الامنية اعتمادا على لجوئهم الى البيوت بعد انتهاء الدوام الرسمي والخلود الى الراحة قبل العودة الى واجباتهم من المساء وما بعده.
وكانت تثار في بعض الاحيان نقاشات حامية لم تخل من استعمال الايدي والصراخ بين القوميين والتقدميين.