المنبرالحر

"الدكتا.. ثور" العراقي / وديع شامخ

في تاريخ الشعوب، هناك مسيرة من العلامات المضيئة، وأخرى من عتمة الليل وسواده، يحتلان حيزا مهما في ذاكرة الشعوب وحاضرها وإسقاطاتها على المستقبل. ولعل من أبرز هذه الدمامل التي تطفح على الجسد، بروز "الدكتاتور" الفرد، أو دكتاتورية الجماعة.. ولعل طفح الدكتاتور فردا هو ما سأتناوله في هذا المقام وخصوصا في حياة وتاريخ الشعب العراقي، والذي سيكون لصيقا لحياة الشعوب وليس ظاهرة طارئة عن مسارها التاريخي، ولنقل بشكل أوضح: إن الدكتاتور هي صناعة وطنية بإمتياز.
عندما نفحص علامات فارقة في تاريخ العراق قديما وحديثا سنجد حضور الدكتاتور بقوة. سنجده كامناً ومستترا أحيانا، وظاهرا طافحا أحيانا أخرى.
فمنذ السيد "جلجامش" سيد أوروك، سنجد حلمه في الخلود غير متحرر من شرط السيطرة والقتل واستباحة العذارى.. الرمز الوطني محروس بجملة من الدعامات التي تجعله خارج شروط الزمن، خارج موازنة الحياة برمتها..
وحتى السيد "حمورابي" ومسلته المليئة بالدم، هناك حقل يُخصب هؤلاء الناس على حساب إخصاء الآخرين..
فالذاكرة الجمعية للفرد العراقي مسكونة بهذه الإستباحة منذ فترة نشوئها الأولى.. مسكونة بوحوش الطفولة ومستباحة بكوابيس الحاضر، ومتخفية هلعا عن مستقبل مضبّب.
...
لو مسكنا قنديلا مضاءً بزيت العراق ومسحنا زجاجته بقماشة روح العراقيين وذهبنا إلى صندوق أسرارهم الأسود.. فاحصين الطريق المؤدي إلى الذات.. لوجدنا أن الزيت سينضب في بواكير الرحلة والزجاجة سيغزوها الدبق والضباب معا..
لا رؤية واضحة لأن الدكتاتور كامن فينا، يحيد بنا إلى مساحات من الريبة والشك والضمور في قدرتنا على الذهاب إلى النبع، ُمشعّين بزيتنا وفوانيسنا.
...
هذه اللوثة السوداء في تاريخ العراقيين، أصبحت وشما على أرواحهم وميزة نفسية كما الجنون والخبل..
"عراقي هواي وميزة فينا الهوى خبلُ"
يتبارون بالحب تطرفا، والبغض والحسد والوشاية والمؤامرة تفننا.. شعب يزحف على أربع ممكنات ..، يتعاونون على جعل الحياة حفلة تنكرية.. ويتواكلون على صيانة الأقنعة درءا للخطر الماثل على حياتهم.
لو أحصينا المأساة والملهاة في حياة الشعب العراق لوجدنا أنهم عاشوا حيوات مفعمة بالتراجيديا تماما.. بعمق كثيف بتعدد، تداخل المراحل والأزمنة، بزمن عراقي مستباح للتأويل.
...
دكتاتورنا العراقي "الجديد" ليس من نمط إخوته ولا هو من سلالتهم.. نعم انه لم يهبط في "بارشوت" سماوي، ولكن هبوطه كان اضطراريا حقا، لقد هبط في لحظة هاربة من تاريخ العراق / لقد جاء بقطار لا سكة له على مساحة العراق.
دكتا ...... ثورنا العراقي لم يكن خليط نوازعنا للحلم، ولا مصدرا لقوتنا، ولا راعيا أمينا على ثرواتنا.. لم يكن مثل "دكتاتور" الآخرين، حيث لهم فلسفتهم وحسهم التاريخي وطموحاتهم المعروفة، ولهم منزلة في حياة شعوبهم مهما اختلفوا معهم، فقد كان هتلر سليل العقيدة العسكرية الألمانية وفلسفة القوة وحزبها النازي ، كما كان ستالين وموسليني وغيرهم، ولكن "دكتا.. ثورنا" كان بدويا متخلفا، سليل عقيدة وحزب فاسدين، لم يشترك مع رفاقه الدكتاتوريين إلا بالجنون والمغامرات غير المحسوبة.. فقد ظل طوال عمره في السلطة مقامرا فاشلا.. جاء على الزرع الضرع ولم يترك العراق إلا أرض خراب كما وعد وصدق.
كان صدام حسين نموذجا "للدكتاثور" الأرعن والمغفل معا.. فهو لم يقرأ التاريخ ولكنه أجبر الآخرين على تدوين تاريخه الخاص ولحظته وزمنه، لكي تكون تقويما جديدا للعراقيين.. لقد إختزل العراق بشخصهِ وقادَه إلى كوارث بشرية ومادية مخيفة، وأعادنا إلى "عصر ما قبل الصناعة والحضارة معا"، وكانت نهايته مخزية حيث هرب "القائد ذو الأسماء الحسنى والألقاب الخمسين" من أرض المعركة ونام كجرذ يتخفى في حفرة تحت الأرض.. لم يأمن أحدا في حياته قط.. لذا جاءت نهايته مطابقة لما كان العراقي يتمنى تماما.. أخرجوه من حفرته ذليلا ومسدسه بلا طلقات ومعه حفنة من الدولارات الخضراء..
يا لبأس هذا " الدكتا .. ثور " حقا.. فهو لم يكن دكتاتورا لنضعه في خانتهم ولم يكن " ثورا" ليذهب إلى زريبة الحيوانات..
حتى جاءت محكمته وفضحت المستور وظهر الدكتا ثور.. عاريا من القوة والسلطة والجاه.. لقد كان هزيلا حقا في شخصه وخطابه.
وذهب أخيرا إلى مزبلة التاريخ.. نهاية مستحقة لرجل أحمق بجدارة قلّ نظيرها..