المنبرالحر

اصلاحات الكنيسة الكاثوليكية و احزابنا الثورية -1-/ د. مهند البراك

لابد من القول ان الاديان و المشاعر الدينية تركت آثاراً كبيرة في سلوك البشر و تطلعاتهم و اساليب تفكيرهم، و بمرور السنين صارت المؤسسات الدينية و خاصة التي تجمع ابنائها بكتاب مقدس ، و كانت ادوات فاعلة للتغيير و التقدم الحضاري . . . الاّ انها صارت بتعاليمها و الزاماتها على تابعيها و فروضها عليهم، قيداً على التقدّم الحضاري و الفكري، رغم استمرارها بتشكيل الأمل للضعفاء و المحرومين من بني البشر، و نداءً للعدل و الاحسان رغم استغلالها من اشرار و محاولتهم جعلها وسيلة للوصول الى سلطة الحكم و المال .
و قد شهدت الاديان حركات متنوعة للاصلاح و التطوير، من اجل ان تحافظ على موقعها القديم في المجتمع و من اجل الاحتفاظ بمكانتها بين الشباب خاصة، من الذكور و الاناث . . كاحدى مراكز الجذب و التوجيه، وكي لاتفقد دورها التأريخي في المجتمع، و اتخذت خطوات هامة على طريق الانفتاح بين الاديان و الاصلاح الانساني الذي اتخذ اشكالاً و طرقاً متنوعة بالتناسب مع المرحلة التأريخية و متطلباتها، و قوانين البلد المعني و توجهاته.
و كان منه ما تمّ في المرجعية اليهودية، التي قررت في نهاية القرن العشرين السماح للمرأة اليهودية ـ مرجع النسب اليهودي(1) ـ بالزواج من غير اليهودي، الامر الذي حدث مع عرب فلسطين المسلمين ومع المصريين و ضاعف منتسبي تلك الديانة مرّات كثيرة، و سبب استنكار المجاميع اليهودية المتطرفة، و سبب تعقيدات للبيوتات الدينية القديمة الاسلامية و خاصة للازهر لان المواليد الجديدة تعتبر يهوداً لمرجعيتهم الامومية اليهودية و مسلمين لمرجعيتهم الابوية الاسلامية في الوقت نفسه . . فأنه كسر كثيراً من حواجز التعصّب و التعنّت الديني بين الجماعات المتعصّبة من الديانتين . . على طريق السلام و التآخي و ضد الحروب .
و فيما يجمع الخبراء على ان الكنيسة الكاثوليكية ـ قياساً بغيرها من الكنائس ـ تعتبر من اشد المؤسسات الدينية المتنوعة محافظة و تشدداً، حتى صارت المَثَلْ الذي يقاس به مدى الجمود العقائدي و الفكري و التنظيمي الذي صارت تعاني منه احزاب تقدمية و ثورية متعددة . . و منها عدد بارز من الاحزاب العمالية و الاشتراكية و الشيوعية، التي شكّلت المثل الاعلى للحركات الشعبية و للمناضلين من اجل الحرية و العدالة لمرحلة تأريخية كاملة بارزة، الاّ ان جمودها الفكري و العقائدي اضافة الى الضغوطات و الضربات القاسية التي تلقّتها من الحكومات الدكتاتورية، جعلها تبتعد عن نبض الشارع و عن واقع و آمال و طموحات شباب اليوم، كما في مجتمعاتنا الشرق اوسطية مثلاً .
فبعد سلسلة اصلاحات دينية و تحقيقات و عقوبات صارمة تجاه رجال الدين المرتشين و الفاسدين و تجاه مرتكبي جرائم الإغتصاب بحق الفتيان، و غيرها . . وجدت الكنيسة الكاثوليكية نفسها بأنها لاتزال بعيدة عن نبض الشارع و بعيدة عن طموحات و احلام الشباب رغم امتلاكها الثروات المالية الهائلة بين يديها، و رغم امتلاكها كفاءات ادارية نادرة، حيث تعتبر الكنيسة الكاثوليكية من اثرى المؤسسات و الاحتكارات الثرية في العالم.
و يبدو ان اختيار البابا فرانسوا ـ الكاردينال الأرجنتيني خوري ماريا برغوليو ـ الذي اختاره المجلس الاعلى لكبار الكرادلة في الكنيسة الكاثوليكية، يبشّر بعهد جديد قد يخلّص منظومة و حجر زاوية عريق من المنظمات المحافظة المتشددة في العالم . . و سيطلق نسيماً منعشاً من اجل التغيير و الحداثة التي يحتاجها عالمنا و شعوبنا اليوم، فعهده بدأ بتغيير جاد في منظومة كاملة من الاحكام و المعتقدات الراسخة في الديانة الكاثوليكية . . التي اجملها بقوله " إنَّ الأديان جميعاً صحيحة، وإنَّ ـ الحقيقة الدينية ـ تتغيَّر وتتطوَّر، بل وإنَّ الرَّبَّ نفسه يتغيَّر ويتطوَّر . . " على حد قوله . و افتى ، بإنَّ بعض أجزاء الإنجيل صارت قديمة و عفى عنها الزمان .
و يرى مراقبون و الذين يتابعون بدقة نشاط البابا فرانسوا و اقواله كزعيم لأكبر مؤسسة محافظة في العالم . . اقواله التي تعتبرها ملايين مؤلفة في العالم نصوصاً مقدسة، يرون بانها تدلّ على بدء ثورة او حركة إصلاحية دينية جذرية شاملة قد لا تَقِل أهميةً عن ثورة مارتن لوثر (2) في زمانه، بل و يرى عدد كبير آخر منهم ان تأثيرها سيمتد إلى الأديان السماوية الاخرى، لأن الكثير من المعتقدات الجوهرية المشترَكَة بين هذه الأديان هو المستهدف بالهدم (وإعادة البناء) الذي يقوم به و يعمل بضوءه بابا الفاتيكان اليوم .
و صرّح المكتب الاعلامي للفاتيكان بأن البابا قد اكتشف بـ البحث الروحي، التأمُّل و الصلاة، بـ " أن جهنَّم هي تعبير عن الروح المعزولة، التي ستتَّحِد في آخر المطاف، كالنفوس جميعاً، في محبَّة الله. فحتى اللاديني فاعل الخير يراه البابا مؤمناً بالله، فالملحد على ما اكتشف البابا، يكفي أنْ يعمل الخير حتى يكون مؤمناً بالله، وإنْ أنكر ذلك بقوله ولسانه ".
و يضيف " بأن كل الأديان صحيحة وعلى حق، لأنَّها كذلك في قلوب الذين يؤمنون بها". الذي يراه اعلاميون بأن ذلك يعني أنَّ الإسلام مثلاً في دعوة البابا الجديد ، دين صحيح و صحته تكمن في المعتقد الاسلامي نفسه، و في كَوْن المسلمين يعتبرونه صحيحاً؛ فـفي القلب يستوطن الرَّب، ومعه تستوطن الحقيقة، فإذا آمن قوم بما تعتقده قلوبهم و عملوا الصالح من الاعمال، فهذا الإيمان صحيح. و بذلك فإنَّ البابا يُوسِّع ـ نسبية الحقيقة ـ، بمفهومها المادي و الآينشتايني، ليجعلها تشمل أيضاً ـ الحقائق الدينية ـ فـالحقيقة بمفهومها البابوي الجديد، ليست ما يفكِّر فيه موسوليني (3) الآن مثلاً، وإنَّما ما تؤمن به، وتعتقده "القلوب". قَلْب اليهودي يقول له إنَّ اليهودية هي الدين القويم، وقَلْب المسيحي يقول له إنَّ المسيحية هي الدين القويم، وقَلْب المسلم يقول له إنَّ الإسلام هو الدين القويم؛ أمَّا البابا فرانسوا، وعملاً بمبدأ "نسبية الحقيقة"، فيقول: إنَّكم جميعاً على صواب، وإنَّ الأديان جميعاً صحيحة، وعلى حق . (يتبع)

26 / 1 / 2014 ، مهند البراك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. يعود نسب الطفل المولود حديثاً الى الام، بعكس الديانة الاسلامية و المسيحية التي يعود فيها نسب الوليد الى الاب، و كان لذلك مبرراته في التأريخ القديم .
2. مؤسس الكنيسة البروتستانتية الايفانغيليكية .
3. مثال موسوليني اتى لكون تاريخ الفاتيكان جزءاً من التأريخ الايطالي الذ لعب فيه موسوليني الدور الفاشي الكريه .