المنبرالحر

لماذا نريد تعليماً على غرار الجامعات العالمية؟ (2-2 ) / أ.د. محمد الربيعي

تتميز الجامعات الامريكية المتقدمة منها، وعالية المستوى بخصائص، قلما تتوفر للجامعات العراقية، منها: امتلاكها لموجودات ملموسة بما في ذلك المعدات والمختبرات الحديثة والمتطورة والشبكات الالكترونية والمرافق المكتبية وغيرها، ولها موارد بشرية غنية ذات مستويات عالية بما في ذلك اساتذتها وطلابها وموظفوها، وما الى ذلك.
وللجامعات ثقافة اجتماعية مبنية على حب الاساتذة ومحبة الطلاب، ونظام اداري يعطي للاساتذة حق ادارة الجامعة بينما تتمتع الجامعة بالاستقلالية الادارية والاكاديمية، وفيها تنمو وتزدهر الحريات الاكاديمية وحق التعبير وتمارس الادارة الديمقراطية بشكل بناء. في جامعتي يعتز رئيسها بمسؤوليته امام اعضاء هيئة التدريس فيرسل رسالة اسبوعية الكترونية الى كل التدريسيين والباحثين في الجامعة يشرح فيها عمله واخبار مكتبه خلال الاسبوع. بهذه الطريقة تكون الجامعة مركزا لرعاية الذكاء والاذكياء والموهوبين وهو شيء لا يمكن حدوثه الا عندما?تكون الجامعة مركز محبة واخلاص وتفانٍ في العمل والبحث بحيث تكون كالمغناطيس لجذب الاساتذة والباحثين والطلاب الموهوبين. ولابد من الاعتراف هنا بأني عندما قررت الانتقال من جامعة برمنغهام في إنكلترا الى جامعة دبلن في جمهورية أيرلندا، كان المغناطيس هو العرض المغري والذي شمل التجهيزات المختبرية الراقية واموال البحث العلمي التي خصصت لي. هكذا تعمل الجامعات من اجل تبوئها اعلى المراكز ومن اجل تفوقها العلمي.
والجامعة العالمية المتميزة، لها ثقافتها وتراثها، وهذه تتمثل في حرم الجامعة بشكل رئيسي في سعي الجامعة الى معرفة الحقيقة ضمن نهج صارم ودقيق، وعلى ضوء الاخلاق العليا التي يفرضها البحث عن الحقيقة، فشعار جامعة هارفرد يتكون من كلمة واحدة: "الحقيقة". البحث عن الحقيقة هي ثقافة الجامعة بالاضافة الى الدقة والانتظام، فلا يوجد للعشوائية والتخبط مكان في سياسة الجامعة. وشعار جامعة ييل لا يختلف كثيرا فهو "النور والحقيقة" ، شعار يعكس طموح كل شاب وشابة في التقدم والتطور. اما شعار كالتك فهو "الحقيقة تمنحك الحرية" والذي لا ا?تقد بوجود شعار اكثر صدقا وقوة منه في التعبير عن العلاقة الوثيقة بين البحث عن الحقيقة والحرية الاكاديمية. ومن الواضح ان الجامعات الامريكية لما كانت تتميز من دون اعطاء الحرية الاكاديمية مكانتها اللازمة داخل الجامعات. وليس هنا من تأكيد على اهمية الحريات الاكاديمية، الا ان اعيد ذكر قول رئيس جامعة ستانفورد على سؤال، لماذا أصبحت ستانفورد جامعة من الطراز العالمي في غضون فترة قصيرة نسبيا من وجودها؟ قال رئيس الجامعة: "ستانفورد تكتنز الحرية الأكاديمية وتعتبرها روح الجامعة".
هذه وغيرها من الخصائص التي تميز الجامعات العالمية الرصينة والتي تتباهى بها هذه الجامعات وتفتخر بينما تحاول الأخرى تقليدها ومنافستها لاحراز التفوق. ويتفق عموما على ان الجامعة الرصينة ذات الطراز العالمي لها ثلاث مزايا مهمة هي: الجودة العالية للتعليم، والتفوق في البحث العلمي، ونشر المعرفة والمساهمات المتميزة في الثقافة والعلوم والحياة المدنية للمجتمع، وهي مزايا تتميز بها الجامعات الامريكية الرائدة.
وهنا لابد لي من الاشارة الى دراسة ألدن ولن Alden and Lin, 2004)) التي تطرح عدد من خصائص الجامعة ذات الطراز العالمي، اهمها:
1- ذات اعتبار عالمي في البحث العلمي
2- ذات اعتبار عالمي في التدريس
3- تمتلك عددا من الباحثين المتميزين عالميا
4- معترف بتفوقها من قبل الجامعات العالمية الاخرى ومن المؤسسات خارج منظومة التعليم العالي
5- تمتلك عددا من الاقسام العلمية ذات المستوى العالمي المتميز
6- بالتركيز على البحوث الرائدة التي تتميز بها الجامعة تستطيع احراز السبقية في هذه المواضيع
7- تبتكر افكارا رائدة وتنتج بحوثا اصيلة وتطبيقية بكثرة
8- تجذب افضل الطلبة وتنتج افضل الخريجين
9- تنتج بحوثا رائدة وتحصل على افضل الجوائز العالمية
10- يمكنها من جذب افضل الاساتذة والباحثين العالميين للعمل فيها
11- تجذب اكبر الاعداد من طلبة الدراسات العليا
12- تجذب اكبر الاعداد من الطلبة الاجانب
13- عالمية في سوقها وعملها الاكاديمي من حيث الارتباطات العلمية وتبادل الاساتذة والطلبة والزائرين العلميين
14- تحصل على اموال عالية من جهات عديدة فيما عدا الدولة كالقطاع الخاص والصناعي والخيري
15- توفر لطلبتها واساتذتها بيئة اكاديمية وعلمية صحية وبارقى المستويات
16- تمتلك قيادة ادارية لها رؤية استراتيجية وخطط تطبيق
17- تخرج طلبة يحصلون على مستوى عال جدا من الوظائف ذات النفوذ في الدولة والمجتمع
18- بصورة عامة لها تاريخ طويل من الناتج ذي المستوى المتميز
18- تقدم مساهمات متميزة للمجتمع وللحياة العصرية
19- تقارن دائما بنظيراتها من الجامعات ذات الطراز العالمي المتميز
20- عندها الثقة الكافية لوضع مشاريعها وخططها بدون الاعتماد على جهات خارجية

وقد سبق لي، وفي عدد من المقالات والمحاضرات ان اشرت الى هذه الخصائص وقمت بتوضيحها وتفصيلها على امل ان تخطو الجامعات العراقية خطوات جدية في هذا المضمار وتنتهج نهجا جديدا متطورا يتيح لها الدخول في القرن الواحد والعشرين. وكنت قد دعوت في احدى المقالات السابقة قيادات التعليم الجامعي الى التفكير والتخطيط لنظام تعليمي جامعي يعتمد على:1. المنافسة بين الجامعات المختلفة ، 2. الإدارة اللامركزية للجامعات والمرونة التنظيمية والهيكلية لمختلف مؤسساتها، 3. إدخال أنظمة إدارية وأكاديمية جديدة ملائمة لقبول التغيير السريع والم?تمر ، 4. التعاون الأكاديمي والعلمي بين الجامعات العراقية اولا، وبينها وبين الجامعات الاجنبية ثانيا، 5. إيجاد مصادر اخرى لتمويل الجامعات ، 6. تنمية مستوى كفاءات ومؤهلات الموارد البشرية ، 7. تطوير المناهج وطرائق التدريس وبما يتناسب مع حاجة السوق ومع التحول من التعليم الى التعلم.
ان الجامعات العراقية لكي تتحسن مستوياتها لابد ان تدرس تجارب الجامعات الغربية لتتعرف على خصائص هذه الجامعات وسبل تبني اساليبها وطرقها لغرض الوصول الى القمة. ولكن هذه المعارف وحدها لن تمكن الجامعات العراقية من تحقيق اهدافها الا بانتهاج النهج الذي وضعت علاماته اعلاه وهو نهج لابد وبالضرورة سيعتمد تطبيقه على تغيير جذري في نظامنا الاداري وثقافتنا الاجتماعية فالاستقلالية والحكم الذاتي للجامعات مسألة اساسية لكي تأخذ جامعاتنا طرقا مختلفة عن بعضها الاخر بحيث تتميز الواحدة عن الاخرى وهذا التميز سيدفع بها الى التنافس?فيما بينها للحصول على الصدارة وطنيا وعالميا. اما الآن فالاختلافات شكلية والفروق نسبية، ولكن مع اهمية الاستقلالية لا يمكن للجامعات ان تتطور كثيرا اذا لم تتوفر لها قيادات ادارية وتربوية فائقة المعرفة. ولا ننسى ان الجامعات لا ترقى الا بقيمها واصولها، ولا يكتمل تميزها الا بتميز تقاليدها وهويتها. ويبدو ان التخوف من اساءة استخدام الجامعات لاستقلاليتها يلعب دورا مهما في تمادي الدولة في فرض سيطرتها على الجامعات. في امريكا والغرب يلعب سوق العمل وحاجة المجتمع كقوى اخلاقية ملزمة للجامعات في اختيار البرامج الاكاديمية ?عدد طلبتها وتبرير وجودها، لذا لا تلعب حكومات هذه الدول الا دورا صغيرا جدا في تسيير التعليم العالي. قد يؤدي منح الاستقلالية كاملة ولكل الجامعات العراقية في الوقت الحاضر الى عكس ما نريده من تطور نتيجة تخلف الهيكل التنظيمي، ووجود وشائج من العلاقات الشخصية والسياسية والاجتماعية والدينية التي تلعب دورا مهما في تسيير الجامعات، ولان الثقافة السائدة في المجتمع العراقي لازالت هي ثقافة الوظيفة الرسمية والتسلسل الوظيفي الهرمي والتي تعتمد على اطاعة المسؤول الاعلى درجة من قبل المسؤول الاقل درجة. الجامعات الامريكية تنعد? فيها ثقافة طاعة المسؤول فيستطيع اي طالب او استاذ مساءلة عميد الكلية او رئيس الجامعة متى ما شاء من دون خوف، وفيها يتمتع الاستاذ باستقلالية شخصية تجعله يتعامل مع من يشاء، ويتنقل ويسافر متى ما شاء، وله ميزانية بحث خاصة به، ويحضر مؤتمرات ويشارك في ندوات متى ما شاء، ويعمل كاستشاري لمن يشاء، ويزور العراق متى ما شاء! ولا يطلب من رئيس الجامعة الموافقة على كل شاردة وواردة تحدث في الجامعة، ولا يتوقع من الطالب ان ينادي استاذه بدكتور او بروفسور، ولا تتوفر مقاعد امامية وثيرة في قاعات الجامعة لتحتضن المسؤولين، ولا ورود? بلاستيكية رخيصة تعيق من حركة ورؤية المحاضر. وهذا لا يحدث الا نتيجة شيوع ثقافة اكاديمية تعتمد على الشفافية والاحترام والمصلحة المتبادلة والاخلاص للعمل. لهذا اكرر ان للجامعة ان تتبنى وتنشر ثقافة اكاديمية داخلية تعتمد بالاساس على اشاعة الحريات الاكاديمية والثقة بالنفس واحترام الرأي الآخر والاخلاص في العمل والذود عن مصالح الجامعة لكي تتمكن من الوصول الى مستويات الجامعات الامريكية والغربية.
خلاصة القول ان ما على الجامعات العراقية التعلم من الجامعات الامريكية يكمن في جوهر المفاهيم التالية: جذب ورعاية المواهب، واذكاء شعلة التشوق للتفوق والتعلم، وبناء ثقافة وتراث اكاديمي خاص بالجامعة، واشاعة الحريات الاكاديمية، والارتباط بسوق العمل.