المنبرالحر

عبد الكريم قاسم في ذكراه / د. سامي المظفر*

تعتبر الاسس المعرفية النزيهة اعوان الحاكم وادواته ووسائله, والكره واللامبالاة والجهل وعدم المعرفة، من اعدائه. فهي لا تعمل شيئا لانها لا تعرف شيئا ومن لا يضطلع باساليب الحكم من تقانة ومعرفة وإلمام غلب النفور منه وسرى الفشل الى حكمه, ومن قل اتقانه لادوات الحكم, قصرت يداه عن تناول ما يريد وفشلت سياسته، ومن جهل بفكر الحكم باغمض الاهداف وابهمها وابعدها عن رغبات الشعب شوهت قواعد حكمه.
من انواع الحكم حكم اللسان, وحكم العقل, وحكم القلب. فحكم اللسان ثرثرة يصبح فيها الحاكم مهذارا يعتمد على العبارات المنمقة, والجمل المزخرفة لتجميل مواقفه واطنابها ولا تعني سوى الصور اللفظية وامتهانها. واما حكم العقل وسياسته، فهذه نادرة غائبة تسمى غلوا وعلوا لكنها صادقة، بينما حكم القلب يمثل سرائر القلوب دون معناها وحقيقتها. ومن هذا ومن ذاك غمض الحكم عن الشعب وعن عقله وقلبه، وتركزت في لسانه، وصرنا ومن ثم اصبحنا وعودا مملوءة بالالغاز والاسرار، عدا ما نستطيع من ربط الاشياء والامور ببعضها. اما آمالنا وامانينا فنظرات من الهزء والسخرية وابتسامات الاستخفاف والازدراء.
ان أهم العوامل المسببة للفساد هي الأسباب التنموية و الاقتصاديـــــة والأسبـاب الاجتماعية والقيمية والثقافية والسياسية، وأن بعض الدول تساعد على تكريس الفساد السياسي مما يجعل العلاج اكثر صعوبة، حيث تتراجع المعاييــــــــر الموضوعية الخاصة بالكفاءة، وبالتالي الخروج على معايير الموضوعيــة وشيوع استغلال النفوذ مما لا يحله الا ريب المنون. ولا نرى لذة العيش بينهما ولا نور السعادة ولا مسرات الحياة، ولا نرى خصلة من خصال الخير بينهما ولا ادباً او ذكاء او حلماً او رحمة او عفة او شرفاً او وفاء يجمعهما، ولا اجنحة نورانية تنبعث منهما. فعلاقتهما باطلة لا تولد الصفاء ولا المرح ولا اللذات، ولا هي مسرح تتولد فيه الآمال او الاحلام.
وبالرغم من التطور الفكري والعقلي نكتشف أن الحياة أكثر تعقيداً مما كنــــا نظن، وأنه لا وجود للأشرار والطيبين بصورتهم النقية الساذجة، وأن كــــل مجتمع يحتوي على التداخل والتباين، ما يجعل الناس مزيجا رمادياً يصعــــب تصنيفه إلا حسب موقف معين أو كارثة ما. ووفق ما ذكرناه نجد ان عبدالكريم قاسم رجلاً نزيهاً يمثل الطهر الحكومي بعقله وقلبه، لم يتطاول على المال العام، وامتلأ قلبـه بحب الناس فأحبه الناس، وكان رجلا شهما وكريما، طيب القلب دمث الأخلاق لا يخشى فى الله لومة لائم، ورجلاً انسانياً بالسجية، يزور الفقراء والمساكيــن في بيوتهم ليحل مشاكلهم المالية والادارية ويعطي من ماله للفقراء والمساكين, وبدون حرس ومرافقين.
كان عبدالكريم قاسم من افضل الذين حكموا العراق حرصا وأمانة وحبــــا لشعبه. فالامانة وعبد الكريم قاسم صنوان متلازمان، وكان أمينا صادقـا صدوقا شريفا كريما متواضعا، لم يملك في فترة حكمه ارضا ولا دارا ولا مالا ولا حتى تقاعد، فقد حرم من ابسط حقوقه الاعتبارية وشوهت سمعته، وكان رحمه الله وطنيا ومتواضعا بامتياز، لم يستغل منصبه لا لنفسه ولا لعائلته، ولـم يبن قصرا ولا حتى بيتا متواضعا كما بنى الحجاج لنفسه قصراً مشيداً، نادى في الناس أن يخرجوا للفرجة عليه والدعاء له بالبركـة، او فرعون الذي شيد أعظم مما شيد وبنى أعلى مما بنى، ثم أهلك الله فرعون وآخرين اشباه الفراعنة. .
لم يسىء عبدالكريم قاسم استخدام السلطة لأهداف غير مشروعة لتحقيـــق مكاسب شخصية, ولم يعتمد المحسوبية والرشوة والنفوذ والاحتيال ومحاباة الأقارب, ولم يقم بإجراءات التمويل المنحرف غير القانوني، بالرغم من قوة الفساد السياسي تاريخيا فهو مرض قديم سبقتنا اليه الكثير من الدول في وضع قوانين لضبط مسالك حكامهم، حتى صار الحكم عندهم خدمة عامة يختار لها الأكفأ، ويراقب الحاكم من خلال أجهزة يقظــة ويطرد بلا كرامة إن بدا منه ما يريب.
أما فى العراق فقد ندر من حكامها من راقب نفسه وفريق عمله عدا عبدالكريم قاسم.
فهنيئا لك يا عبدالكريم قاسم ورحمة عليك و على نزاهتك، فقد خدمت باخلاص، لم تستغل مالا ولا جاهاً، واسفي عليك فقـد عبث الدهر بك واذاقك من صنوف الشقاء، لم يبق بينك وبينه من صلة الا اجمل الذكريات واحسنها، تزورنا كل صباح وتعلمنا النزاهة والنور والسعادة وحب الوطن والوفاء كماء المطر، وهكذا تسقط العروش والتيجان وتحل الظلمات وتصبح الزهرة ذابلة للقطرة الهاطلة ويصبح الحب بلا امل والصوت بلا نغم.

ــــــــــ
* وزير التربية الاسبق