المنبرالحر

المرأة العراقية في زمن "الحرامية" / أوراس الكيلاني

بعد سرقة النفط والأموال الطائلة من الأطفال واليتامى، وسرقة الفرحة والأمان من شعب ذاق الأمرين على مدار عقود، تسود اليوم في الساحة السياسية رغبات مريضة تسعى لسرقة نضال المرأة العراقية ومكتسباتها التي نالتها بفضل ذلك النضال، وخاصة ما حققته بعد قيام ثورة تموز عام 1958، بفضل الدعم الصريح للقوى والتيارات الديمقراطية آنذاك.
في هذه الورقة نسعى لمتابع رحلة المرأة العراقية ونضالاتها عبر حقب تاريخية متلاحقة، كي نبين للقارئ الكريم مدى التراجع الذي يعصف بحقوق المرأة العراقية في العهد الحالي الذي من أبرز سماته العشوائية السياسية:
المرأة العراقية في العهد العثماني:
بقيت المرأة العراقية طوال العهد العثماني أسيرة العادات والتقاليد البالية التي حرمتها من قيمتها البشرية، إذ كان ينظر للمرأة العراقية بمستوى باعتبارها أقل مستوى الرجل، ولم تر العالم إلا من خلال الحجاب الذي ترتديه، كما أن ذكر المرأة في المجالس العامة كان يعد خروجاً عن الأدب، لذلك نجد أن أغلب النصوص الأدبية كانت تذكر نساءً من بنات أفكار الشعراء والأدباء، أو أنهم كانوا يلجأون في بعض الأحيان الى ذكر شهيرات النساء في التاريخ دون التطرق الى أسمائهن.
ولم تكن عزلة المرأة تقتصر على محيطها الاجتماعي بل كانت داخل المنزل أيضاً، ولم يكن لها منفذاً للترويج عن نفسها أو الخروج سوى بالذهاب الى الحمامات العامة، شرط أن يغطيها الحجاب من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، حتى ليتعذر على زوجها معرفتها إذا ما صادفها في الطريق.
أما فيما يتعلق بالزواج فلم يكن للمرأة العراقية في تلك الحقبة أي رأي في زواجها، فقد كان الزوج يُفرض عليها، وهو غالبا ما يكون ابن العم أو أحد الأقارب، أما مسألة التعليم فلم تكن أقل وطأة عليها مما عليه الزواج، فقد كانت فرص التعليم حكراً على الرجال، أما الفرص الضئيلة والحقيقية لتعليم المرأة فكانت تخضع لتقاليد صارمة يرى المجتمع آنذاك، في التعليم مفسدة للنساء.
وبذلك أدى تزمت المجتمع العراقي آنذاك الى حرمان المرأة من حقها الطبيعي في التعلم ووقوفها بمستوى متأخر مقارنة بالرجل، وبقيت على هذا الحال حتى أواخر القرن التاسع عشر، حيث أنشأت أول مدرسة للنساء، ولم يخلو الأمر من عقبات عديدة، منها نظرة الطبقات المحافظة تجاه إرسال الفتاة لتلقي العلم واتهام الأهل بشتى التهم الباطلة وازدرائهم، إضافة الى الشروط التي وضعها مجلس معارف ولاية بغداد لفتح المدرسة ومنها عدم وجود أي دار مسلطة عليها وأن لا تكون شبابيكها مطلة على الشارع كما اشترط خلو الدور المجاورة من الأشجار العالية، وكل هذه الشروط وضعت بهدف تجنب الانتقادات الموجهة لفكرة تعليم المرأة. ويذكر أن الشاعر الكبير (جميل صدقي الزهاوي) كان أحد أعضاء المجلس، وقد بقي صامتاً أثناء مناقشة الأعضاء، فلما سكتوا قال متهكماً "هذه الشروط لا تنطبق إلا على منارة سوق الغزل".
ولم يقتصر حرمان المرأة من المطالبة بحقوقها بل تعداه الى ازدراء ومحاربة الأدباء والمثقفين الذين كانوا يطالبون بحقوق المرأة ووجوب مساواتها بالرجل. وبهذه الصورة فرض المجتمع على المرأة العراقية العديد من القيود على حريتها وحقوقها في التعليم، وقد شجع استمرار هذه العادات البالية على الحط من كرامتها وجعلها فريسة سهلة بيد المشعوذين والدجالين الذين وجدوا في جهلها وقلة ثقافتها وسيلة سهلة لترويج خرافاتهم.
لكن وبالرغم من كل ما تقدم لم يخل الأمر من فرض قوة الإرادة التي تتمتع بها المرأة العراقية في كسر الحواجز والقيود التي فرضها المجتمع وخاصة في المعارك والحروب بمد يد المساعدة الى الرجل وخاصة للجرحى والمصابين، كما لعبت بعض النساء دور السفيرات في الحروب.
وقد تركت المرأة البدوية العراقية بصمة في تاريخ القبيلة بلعبها دوراً هاماً في الحياة آنذاك، وبالذات الحياة السياسية، فعلى سبيل المثال هناك (عمشة) زوجة (صفوق سلطان) شيخ قبائل (شمر)، والتي كانت موضع ثقة زوجها ليرث أبنائه من بعده هذه الثقة تجاه والدتهم، لما كانت تملكه من حنكة ودهاء، ما أهلها لتسيير أمور القبيلة، وكان هنالك حالات مماثلة لنساء كرديات أتى على ذكرهم التاريخ أمثال (قاطبة) أو السيدة العادلة كما كانت تعرف في حلبجة، والسيدة (فاطمة خانم) في منطقة راوندوز التي كانت تقوم بالعديد من الأعمال التجارية والسياسية المعروفة.
المرأة العراقية في القرن العشرين:
شهد القرن العشرين العديد من التطورات والنشاطات في تاريخ المرأة العراقية، فلقد ظهر نموذجا جديدا يطمح في الحصول على ميزات أوفر في مجال التعليم والثقافة، ونصيب أكبر في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للوقوف على قدم المساواة مع الرجل، وعلى أكتاف هذا النموذج من النساء قامت الحركة النسوية المعاصرة في العراق.
لقد كان التعليم يمثل حجر الأساس في بناء النهضة اللافتة للنظر، ويعود سبب تأخر تعليم المرأة الى أن العراق لم يتأثر بالنهضة التعليمية والثقافية الحديثة التي جرت في مصر وسوريا أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ قادت هذه النهضة الى نشوء فكرة تحرير المرأة العربية وإعطائها حقوقها الشرعية في التعليم، وكانت دعوة (قاسم أمين) التي انطلقت عام 1898م، خير مثال في هذا الاتجاه، غير أن هذه الدعوة لم تنل نصيبها من الاهتمام إلا بعد فترة من الزمن، لتنعكس بعدها على العديد من الدول العربية ومنها العراق، حيث تمثلت في شعر الشاعرين الكبيرين الزهاوي والرصافي.
يقول الشاعر الزهاوي في إحدى قصائده:
لا يقي عفــة الفتاة حجاب
بل يقها تثقيـفها والعلوم
أما الشاعر الرصافي، والذي يعد من الرواد الذين طالبوا بتعليم المرأة، فيقول:
هل يعلم الشرق أن حياته
تعـلو إذا ربى البنات وهذبا
وقضى لها بالحق دون تحكم
فيها وعلمها العلوم وأدبا
فالشرق ليس بناهض إلا إذا
أدنى النساء من الرجال وقربا
وقد بقي الحال يراوح بين اختلاس الحقوق تارة وبين فرض النفس بقوة الإرادة تارة أخرى منذ قيام الدولة العراقية، حيث كان للمرأة دور فاعل في الحياة السياسية أيضاً ويتضح ذلك في ثورة العشرين من خلال دعمها المعنوي الذي كان حاضرا وبشدة في تأمين نقل المؤن والسلاح إلى الثوار إضافة الى رفع معنوياتهم بالأهازيج التي كانت تنظم ضد الاحتلال، ففي بغداد مثلاً سجلت المرأة تطوراً واضحا في طريق التحرر من العبودية الذكورية بتشكيل لجان نسائية للتضامن مع الثوار، وارتباطا مع التعليم وخروج المرأة من قيد الحياة الاجتماعية المنعزلة، بدأت ثورة جديدة في محاربة قيود الحجاب الذي فرضتها عليها التقاليد والعادات مدعومة من الكتاب والشعراء، ويذكر أن أول الخطوات في حركة السفور كانت على يد أبنة الثماني سنوات (صبيحة الشيخ داوود) التي شاركت في مهرجان (سوق عكاظ) عام 1922، لتليها بعامين خطوة مهمة تجلت في مشاركة مدرسة (البارودية) للبنات في احتفال لاستقبال الأمير غازي، مما أثار سخط المحافظين واعتبروها تحديا للرأي العام، لكن دعم المثقفين والأدباء حال دون الانسحاب، وتجلى هذا الاصرار أبيا وخاصة في أشعار الزهاوي حيث قال:
مزقي يا أبنة العـراق الحجابا
واسفري فالحياة تبغي انقلابـا
مزقيــه واحرقيـــه بـلا ريـــث
فقــــد كــــان حارســــا كذابـــا
سجنوا غير مشفقين العــذارى
في بيـــوت وغلقـــوا الأبوابــا
وادعوا أن في السفور سقوطاً
في المهاوي وأن فيـه خرابــا
كذبــوا فالسفور عنــوان طهر
ليــس يلقى معـــرة وارتيـابــا
وقد كان لهذه الاشعار الأثر الكبير في استيقاظ المرأة من غفوتها.
وبالتزامن مع ثورة المرأة في التعليم وكسرها لقيود المجتمع، بدأت في استثمار هذه الانجازات على أرض الواقع، فقد نشأت أول مجلة نسائية في العام 1923 وأطلق عليها اسم (ليلى)، وكان العنوان الذي تصدر غلافها "من أجل نهضة المرأة"، لتليها مجلة "المرأة الحديثة" ثم مجلة "فتاة العراق"، ومع أن هذه المجلات أغلقت بعد سنتين أو ثلاث من صدورها إلا أنها كانت حافزاً مهماً في توعية المرأة لنيل حقوقها وتحررها، لتمضي المرأة قدماً وتأسس منظمات نسوية كان أولها (نادي النهضة النسوية) الذي انشأ عام 1924، وبرئاسة أسماء الزهاوي، بعدها ظهر العديد من الجمعيات التي ركزت على الاهتمامات الاجتماعية، ولم تظهر أي مؤسسة لها اهتمامات بالجانب السياسي سوى عام 1943 من خلال جمعية (مكافحة النازية والفاشستية) لتتحول فيما بعد الى (جمعية الرابطة النسوية).
لقد كان للمرأة تاريخ حافل على المستوى السياسي، وقد سجل لها التاريخ دورها في ثورة العشرين، وفي وثبة كانون الثاني عام 1948 حيث ساهمت في افشال إبرام معاهدة (بورتسموث) بين بريطانيا والعراق والتي أدت في النهاية الى إسقاط حكومة صالح جبر، ولم تكن بصمتها أقل تأثيراً في ثورة 14 تموز 1958، لتبدأ بعدها إنجازات عظيمة قادتها لتولي منصب وزيرة البلديات، وقد تقلد هذا المنصب لأول مرة في تاريخ العراق والوطن العربي الدكتورة (نزيهة الدليمي)، التي ساهمت فيما بعد بشكل واضح ومؤثر من خلال ترأسها (رابطة المرأة العراقية) في الحصول على مكاسب عديدة لصالح المرأة العراقية وخاصة قانون الأحوال الشخصية 188 لسنة 1959. الذي كان بداية لمكاسب عديدة وحقيقية جعلت من المرأة قدوة في مختلف مجالات الحياة.
المرأة والقرن الواحد والعشرون:
أوضحنا من خلال استعراضنا للحقب السابقة الطريق الشائك الذي سلكته المرأة العراقية للحصول على حقوقها، ورفضها القاطع لحياة العبودية وتخلصها من العادات والتقاليد الرثة.
وبفضل نضال طويل حصلت المرأة العراقية على مكاسب وحقوق وخاصة في المجال السياسي، بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003، ودخولها الفاعل في موقع القرار وحصولها على العديد من المقاعد داخل مجلس النواب.
لكن رغم هذا الدور الفاعل نرى أن العبودية وتقاليد المجتمع البالية عادت من جديد لتسلب المرأة ما حققته، وآخر ذلك قانون يعرف بقانون الأحوال الشخصية الجعفري، الذي جاء ليهدر مئات السنين من النضال في سبيل الحرية والمساواة.
لتقف أغلبية المرشحات اليوم للانتخابات، يلبسن السواد كما كنَ إبان العهد العثماني، مدعومات من الأحزاب الدينية الحاكمة في مجتمع "أغلبيته" تقيس شرف المرأة بقطعة قماش تغطي رأسها، متناسين دورها في بناء المجتمع ومتجاهلين العبء الذي ألقي على كاهلها طوال سنوات حكم البعث، لتكون اليوم على أهبة الاستعداد في ركوب كبسولة الزمن التي ستعود بها لعصور الجاهلية، مالم يتدارك الوضع وتوحد الصفوف في الحفاظ على هذه المنجزات والسباحة ضد تيار المتأسلمين الذين أطلقوا العنان لرغباتهم الدفينة في القضاء على نصف المجتمع، وكما ذكرت التقارير بأن خزينة العراق ستعلن أفلاسها بعد سنوات معدودة، تأكدي أيتها النخلة العراقية الشامخة أن ضمير الحكومة قد أفلس يوم شرع القانون الجعفري.
...........
مصادر:
1/ صفحات مطوية من تاريخ المرأة في العراق (عباس ياسر)؛
2/ ملامح سياسية وحضارية في تاريخ العراق الحديث والمعاصر (طارق الحمداني)؛
3/ المرأة العراقية بين الأمس واليوم (علي حسين).