المنبرالحر

صدام ونهره الثالث العظيم / جواد وادي

لا أدري لماذا لم نفلح من التخلص من تلك الحقبة الصدامية السوداء ونتائجها المخيفة رغم تحررنا من فارسها الأهوج حتى أننا نتعرض لبعض المناكفات من أصدقائنا العرب هنا في منافينا التي لا زالت تحمل ذات الشجن، لأنها تبقى ملاذات لا تغني أبدا عن الوطن، بعد أن واجهنا عقوقا وإيلاما حتى بعد ذهاب الحكم البعثي الفاشي، لأننا هنا لسنا في فسحة سياحية كما يظن البعض، إنما لا زالت هي ذات المكابدات ونحن مجبرين للبقاء فيها بعد أن خابت آمالنا من رحمة التغيير وبقيت شمسنا العراقية غائمة، وبعد أن تنكّر لنا الوطن بحاكميه وطائفييه ومحاصصيه الجدد.
إن حقبة النظام الصدامي ليس من الهين نسيانها بعد أن اصبحت جزءا من تركيبتنا وتفاصيلنا النفسية والمجتمعية والسياسية وحتى التربوية بصيغ تلوذ تحت جلودنا بسبب سطوة الخوف المطلق، وكأننا لا زالنا تحت سياط الجلاد، الأمر الذي لا يمكن نفض غبار تلك المرحلة المخيفة بكل بلاويها ومآسيها ومظالمها التي طالت كل شيء في العراق، ناسا وأرضا وسماء ومستقبلا وإلى ما يشاء الله، لا نعلم متى تنتهي ما دامت لصيقة بنا وتطفو بين الحين والآخر على حياتنا حتى بأهون حالاتها اليومية، في صحونا ونومنا وعلاقاتنا، انفعالات تنتابنا دونما قصد، ولا تخلو من احساس بالضيم ينتابه نشيج بيّن، حتى ونحن وسط عوائلنا ومع الأصدقاء حيثما تواجدنا، في العمل والشارع والمقهى والبيت وحتى في لحظات نشوتنا، ليكون غزواً من المواجع يعيدنا لتلك الحقبة اللعينة السوداء.
واحدة من تلك الحالات ما حدث لي يوم الأحد الماضي وأنا أشاهد برنامج (حكاياتهم) من فضائية الحرة عراق. هذا البرنامج الشيّق ينبش في الذاكرة العراقية التي تراكم عليها غبار النسيان، فتستعيد أحداثا من روافد فكرية وفنية وسياسية وما سواها، لتخرجها من رصيف الذاكرة المنسية إلى حيث الفضاء الأرحب، وفاء وعرفانا بمشاعل تلك المرحلة وما قدموه من مساهمات كانت وقتها تؤسس لمراحل قادمة من البناء المجتمعي العراقي الذي كان يعج بمثل هذه الابداعات والمشاعل الفكرية النيرة. فشكرا لكل من فكر في اخراج هذه الحلة الاعلامية البهية.
كانت حلقة يوم الأحد عن مطربي الفترة السبعينية المأسوف عليها من ذلك الزمن العراقي الجميل وما قبلها، فظهر فنانون كبار بهتت الذاكرة العراقية في تذكّرهم وما قدموه من أفضال عراقية، إن في العراق أو خارجه، فتكّحلت عيوننا بمشاهدة وسماع الفنانين العراقيين الخالدين في الذاكرة العراقية، أمثال ناظم الغزالي ورياض أحمد وداخل حسن وعفيفة اسكندر ومائدة نزهت ومنير بشير والدلوعة أحلام وهبي وغيرهم من قامات سامقة أسست للفن العراقي الأصيل.
وكان موضوع الحلقة هو (مسحة الحزن في الغناء العراقي) وتحديدا الجنوبي منه، فكانت حصة حافلة بالحنين والأسى والانتقال لتلك المرحلة العراقية الحبيبة بشجنها وعذوبتها.
ما حرّك المواجع أكثر، الصور القديمة لأهوار العراق بجمالها وبساطتها وتعقيدها الجغرافي وعائديتها لأقدم الحضارات العراقية الشامخة، عندها انتفضت بداخلي صور ما خبت يوما ولا حادت عن خواطرنا ووجداننا وهي عديدة بعدد سكان أرض السواد المنكوبين والمبتلين بالمحن.
لا أخفيكم سرا لحظتها، حين غزتني حالة غريبة هي عاصفة من الذكريات القريبة والبعيدة، بكل كوارثها ومكابداتها واوجاعها، تلك كانت مرحلة الثمانينات، حين كان العراق يغلي على مرجل المغامرات والحروب وانهار دماء الأبرياء من العراقيين بسبب الحروب الرعناء والمغامرات الصبيانية التي لم نجد لها ولحد اللحظة أي تفسير يخضع للحدود الدنيا من المنطق، دفعت بذلك الأبله صدام وزبانيته وكل المطبّلين له من عرب وعجم لتلك الفواجع وأنهار الدماء وحرق الأرض من تحت أقدام ساكنيها، وهذه الشريحة العربية الأخيرة من المطبّلين، كانت هي الأخطر، حين قام حزب القتلة والمتخلفين بقيادة مهووسهم الأكبر بتجفيف الأهوار واعلانهم زيفا ورياء بصنعة النهر الثالث العظيم، فتحركت شهوة الأقلام الرخيصة والقذرة، وخصوصا من فرسان السحت الحرام من الكتّاب العرب بتدبيج مقالات عصماء بعبقرية القائد في خلق هذه المعجزة العظيمة وما تنم عن قدرة قد لا تتوفر الا لدى (القادة الميامين والوطنيين الأحرار) من أمثال (أمل الأمة وحامي حمى العرب وقضاياهم المصيرية).
كنا وقتها نمور غيضا وحنقا، ونحن نقف يوميا على مقالات تتصدر صحف عربية وخصوصا اليسارية منها كما تدعي (عدا صحيفة بيان اليوم لسان حال حزب التقدم والاشتراكية بقيادة الراحل علي يعتة) بمواقفه النبيلة من أزمات العراق برمتها وبمراحل أزمنتها المرة.
كانت جميع المقالات لكتّاب عرب نذروا أنفسهم للنفخ في قربة القائد الجوفاء وبطريقة وقحة ودونية دونما اعتبار لضحاياه. إن في مقابره الجماعية أو ضحايا غزواته الكيمياوية أو التصفيات المخيفة في أقبيته وزنازينه المرعبة أو ملاحقاته لمعارضيه بأذرع قتلته ومجرميه من بلطجية غاية في السادية والهمجية، مرورا بحروبه العبثية التي أحرقت الأخضر واليابس وما أبقت على: بشر أسوياء، ولا أرض كانت فيما مضى خضراء، ولا مزن رحيمة وأنقى هواء، لا في الأسافل ولا في السماء، ورهن مستقبل الناس والوطن بمحن ما بعدها أنين وبلاء.
خرج في تلك اللحظة كل الخزين والقهر المخبوء بدواخلي وما فتر يوما ونحن نستحضر ما تعرض له العراق من محو، وما كنا نشاهده من صور قديمة لأهوار العراق، التي حولها القائد المنتكس الهارب، إلى صحراء قاحلة وهجّر الأبرياء من فقراء الأهوار الطيبين والأصلاء، لكونها كانت تؤوي الرافضين لحكمه والمقاتلين الأفذاذ بإمكاناتهم المتواضعة، مقارنة بماكنة المحو التي يحتكم عليها زبانيته من عسكرييه ومن جيشه وحرسه الخاص ومرتزقته من الأعراب وجلجلوتيته، وحاشى للجيش العراقي الأبي تنفيذ أوامره الرعناء في البطش البهيمي، فضرب المقاتلون الرافضون لحكمه صورا من البطولات النادرة في الأهوار.
كل ذلك الرفض العراقي الأصيل تنكّر له كتّاب صدام المندوفة أقلامهم بالذل والخسة، فنذروها لخدمة ذلك المخبول، ورهنونها باتجاه السحت الحرام، وليس صوب الجثث الطاهرة والتي كانت موزعة على امتداد الأرض العراقية المبتلية بسادية الرعاع.
كتّاب عرب كثرْ جندوا أقلامهم وكل ما يملكون من استعداد لعرضها في سوق النخاسة الصدامي. ولم يكن يمر يوم إلا وتطالعنا مقالات بتمجيد أفعاله الاجرامية ومنها نهره الثالث الذي أطلقوا عليه توصيفات ما أنزل الله بها من سلطان، وهو مجرد فعل تخريبي خطير.
كنا وقتها نحترق على مجمر الغيظ والحنق والرفض، ولكننا كنا مكبلي الأيدي والألسن لأننا كنا مطوقين ببصاصي النظام ومرتزقته لئلا تطالنا يد التصفيات من قتلة من مجرمي سفارته في الرباط بالتعاون من أزلامه من غير العراقيين.
كانت أسماء عديدة نحتفظ بها وبما كتبت وبصفاقة من باع كرامته وعاد جزءا من سلطة النظام الفاشي، فظهرت مقالات تبشر العراقيين والعرب والعالم بإنجاز (القائد) بنهره العظيم الذي سيحيل العراق إلى واحة دائمة الاخضرار، وكنا حينها قلة عراقية متواجدة هنا، نقترب من المغرر بهم لإفهامهم بأن هذا النهر هو أكبر جريمة ترتكب بحق بيئة العراق ومياهه ونتائجه الخطيرة في تصحر أرضه، وما إلى ذلك من كوارث ملحقة بذلك الخبل الصدامي والحقد والغل الكامنين في دواخله، لا ضد العراقيين من مناوئييه فقط، بل حتى ضد البيئة العراقية التي ها هي الآن تعاني من حماقاته التي لا تعد ولا تحصى، وكنا كمن يحفر في الصخر لأفهام الناس الذين بلغ بهم الغلو مداه تحت تأثير كتبة وأبواق النظام، بحيث كان من العسير تغيير البوصلة إلا بشق الأنفس ومع القلة.
لعل سائلا يرفض او يتحفظ على احياء مثل هذه الملفات بدعوى أننا قد استشرفنا على مستقبل يبتعد تدريجيا عن تلك الحقبة السوداء.
أقول لا وألف لا، ينبغي أن تكون تلك المآسي حاضرة في وجداننا ما دمنا أحياء لنورثها للأجيال القادمة، لأنها مرحلة خراب وتدمير ومآسي لا يمكن نسيانها أو وضعها على الأرفف العالية المنسية لأي سبب كان.
ولنا في مآسي العالم بسبب الحروب الكونية ومغامرات الطغاة التي كلفت البشرية عشرات الملايين من الضحايا وعقودا من الخراب الذي ما زال العالم المتمدن الراهن يدفع ضريبة تلك الحماقات، وكذلك بالنسبة لمرحلة الحكم الصدامي التي ينبغي إيلاءها ما تستحق من اهتمام لبلاويها المخيفة وادراجها في المقررات الدراسية خدمة للأجيال اللاحقة من العراقيين وغيرهم لتكون عبرة ودروسا من شأنها أن تخلق رفضا في دواخل الأجيال وتركيبتهم النفسية والتربوية في رفض أية فكرة تدعوا للعنف وتصفية الآخر ومصادرة حقه في العيش والكرامة والحرية والوجود الآدمي برمته، ليكون التساكن والتحابب وقبول الرأي والرأي الآخر سمة ووجودا حقيقيا تلازم حياة كل العراقيين وتقليدا حضارية للانتقال الى مراحل خالية تماما من كل أنواع العنف والبطش، متشبعة بالخير والسلام والمحبة.