المنبرالحر

ترنيمة الاحتياطي النقدي / محمد شريف أبو ميسم

بين الحين والآخر ، تنقل لنا وسائل الاعلام "مطالبات ، أو اعتراضات" بشأن فكرة استخدام بعض من أموال البنك المركزي (الاحتياطي النقدي) لحل إشكاليات العجز المالي في تمويل الموازنة ، أو لتمويل بعض المشاريع الاستثمارية ، وأحيانا يدور الحديث عن مقترح قرض يقدمه المركزي للحكومة الاتحادية لتمويل هذا القطاع أو ذاك، للخروج من مشاكل العجز ،فيما يصر بعض الاقتصاديين ومنهم مقربون من السلطة على أهمية أن تستثمر بعض من أموال (الاحتياطي النقدي التي يفترض أن يكون متنوع العملات) في (الأصول ذات العوائد المرتفعة على أقل تقدير) وبعضهم يذهب بعيدا بمطالباته دخول المركزي في مشاريع استثمارية لصالح البلاد تفضي بالنفع على الاقتصاد الوطني وتعود بالفائدة على أموال المركزي الذي يعدونها بمثابة أموال مجمدة (اذ لا توازي في كثير من الأحيان نسب الفائدة التي يحصل عليها المركزي لقاء ايداع هذه الأموال في الفيدرالي الأمريكي مع معدلات التغيير في أسعار الصرف للعملات التي أودعت بها جراء التصاعد في معدلات التضخم في الاقتصاد العالمي وانخفاض أسعار صرف عملات الاحتياطي ).. فيما يتساءل الكثير من الناس عن سر اصرار ادارة المركزي السابقة والحالية على عدم تقديم قروض بنكية للحكومة بهدف استثمارها في تطوير القطاعات الخدمية وبنسب فائدة ، في وقت تتراكم فيه الأموال (حيث تجاوز الاحتياطي النقدي نحو 80 مليار دولار ) ؟.
وازاء كل ذلك ومن خلال مراقبتنا ومتابعتنا للمشهد الاقتصادي منذ العام 2004 ، نرى ان البنك المركزي يحاول في بياناته الصحفية اماطة اللثام عن معنى الاحتياطي النقدي وعن وظيفة البنك المركزي في مشهد الاقتصاد الكلي في كل مرة تثار فيها مثل هذه القضية عند مفترق كل أزمة سياسية أو اقتصادية أو خدمية، لوضع حد لمثل هذه التساؤلات وما يقابلها من اعتراضات والتي تسوق في اطار سياسي (فيختلط فيها الأخضر باليابس ) بهدف تضليل الناس وتزييف الحقائق لتحقيق أهداف سياسية.
بيد ان هذه المرة بقي المركزي صامتا "فيما تتعالى مطالبات باستخدام بعض من احتياطياته تقابلها اعتراضات سياسية من هذا أو ذاك بدعوى الحرص على استقلالية هذه المؤسسة".. وكأن الملل دب في بياناته جراء تكرار التوضيح .. فالاحتياطي هو مؤشر هام على قدرة البلاد في التعاملات المالية العالمية (بجانب كونه الأداة النقدية الرئيسية في السياسة النقدية لأي بنك مركزي)، اذ يعطي مؤشرا على تسديد الديون الخارجية وبالتالي فانه يستخدم لتحديد التصنيفات الائتمانية وهذه الأخيرة مهمة جدا في التبادلات التجارية (فالدولة التي ينخفض تصنيفها الائتماني تنحسر التبادلات التجارية الآجلة الدفع معها )..ومن أهم وظائف الاحتياطي النقدي الكبير من العملات الأجنبية، انه يسمح بالسيطرة على أسعار الصرف بهدف تحقيق الاستقرار النقدي لتوفير بيئة اقتصادية مواتية لبرامج التنمية، وهذا الأمر مهم للغاية بالنسبة لبلد يسعى لجذب الاستثمار الأجنبي ( اذ ان المستثمر ينظر للاستقرار النقدي بموازاة الوضع الأمني ) لأن دراسات الجدوى الاقتصادية للمشاريع الكبيرة تتأثر بالتذبذبات السعرية في قيمة الصرف ، وبالتالي فان كلف "الطاقة، والأيدي العاملة ، والمواد الخام ، والمساطحات.." كلها تتأثر بالتغيرات العشرية في أسعار الصرف التي ستتسبب في متغيرات غير محسوبة (أمام عالم يحسب الكسر العشري في أي متغير مالي) ومن هنا فان وظيفة البنك المركزي هي توفير الاستقرار النقدي للبيئة الاقتصادية (وليس خفض سعر الصرف كما يعتقد البعض) اذ ان المهم اقتصاديا هو الثبات في سعر الصرف الذي يعد رسالة اطمئنان للمستثمرين..فالاحتياطي هو أداة الدفاع عن العملة. وله وظائف أخرى في حال استحداث الصناديق الحكومية التي تحتسب ضمن الأصول السائلة التي يمكن استعمالها لوفاء الديون في أوقات الأزمات وتشمل صناديق تثبيت الأسعار والمعروفة أيضا باسم صناديق الثروة السيادية. وبناء عليه فان تكرار ترنيمة استخدام الاحتياطي سوف لن تنتهي في بلد لم تتضح فيه حتى ملامح المفاهيم ، (فالبنك المركزي مستقل تارة وغير مستقل تارة أخرى) وما بين هذا المفهوم وبين تجاذبات سياسية مستمرة يحاول فيها كل طرف تسجيل نقاط على حساب الطرف الآخر..سوف لن ننتهي من ترنيمة الاحتياطي النقدي الذي تتصاعد قيمته سنة بعد أخرى بموازاة التصاعد في الأزمات التي تشهدها البلاد ،ما يغري السياسيين باستخدام هذا الاحتياطي، ومن هنا نقترح دراسة إنشاء شركة استثمار وطنية ما بين الحكومة والبنك المركزي تكون أشبه بالصناديق الحكومية ،يكون دورها دعم المفاصل الرئيسية في البناء والاعمار ودعم التنمية المستدامة، ويقال ان ما يشبه هذه التجربة تعمل عليها الهند حاليا وثمة ما يشبهها أيضا في التجارب الاقتصادية العالمية ، كما في النرويج ودول الخليج العربي .