المنبرالحر

مأزق التابع.. مأزق المتبوع / عبدالمنعم الاعسم

التابع والمتبوع تأشير قديم لـ"السيد" و "العبد" قبل ان يظهرا من على الاعلانات الباذخة للدعاية الانتخابية. لكن المشكلة الازلية في هذه المعادلة تتمثل في ان السيد يريد ان يبقى سيداً، فيما العبيد، وقل شرائح منهم، يتمردون على قدرهم.. هذه واحدة من بديهيات الحياة، أو مفارقاتها، او تجلياتها، تجد تعبيرا لها في السياسة، من حيث هي ادارة اقدار الناس، اكثر من اي عالم آخر.
في السياسة، قد يخترعون لنا اشياء لا وجود لها، حتى لتبدو انها صنعة اكثر من كونها علما من علوم المجتمع والحياة، ومن خلالها قد يضفون صفات انسانية على مخلوقات لا تستحقها، وقد يثير لدينا، خاطر ما، افكارا عجيبة عن الحياة لا جنس ولا مقاس ولا طعم لها، وذلك حين نرصد جملة من المفارقات، وكأن السياسة لا ذاكرة لها، او كأن الساسة لا رؤوس لهم.
والسياسة قد تبرر للخطايا مثلما تبرر للعثرات، وثمة القليل من ابطالها من يعترف بخطاياه وعثراته، ويطلب السماح والعفو. يحدث ذلك عادة في المحاكم، والسبب يعود، في جزء منه، الى ما كان يسميه الجاحظ بالبطانة، او ما يسميه الادب السياسي الايراني بالحبربشية..فالبطانة والحبربشية يغوون الزعامات الفارغة بمواصلة الخطيئة والسقوط في العثرات.
في حمية الاستتباع، والانحياز الاعمى للقبيلة أوالنوع أوالمذهب أوالدين أوالزعيم، قد يضطرون - وانا اتحدث عن ظاهرات سياسية - الى النزول منزلة الاساءة الى الممدوح. والمرء، كما يقول الامام علي، يتسخ بالمديح وبالتزلف، وقال لي مرة احد الذين عملوا مع النظام السابق ان (الرئيس) ابدى،مرة، انزعاجه من مديح الصحافة له، لكنه، بعد أيام كما يقول الرجل- راح يتساءل عما حدث ليتوقف نشر صوره عندما كف المهرجون عن جلد العراقيين بتلك الابتسامة المتشفية بهم يوميا. وفي قصة لعبدالجبار لطفي كان رجلا مخبولا يشتم الصغار الذين تعودوا ?لى الاحتشاد خلفه ورميه بقشور الرقي، لكن هذا المخبول، مثل الكثير من الساسة، كان يقف وسط الحارة حين لا يجد الصبيان وراءه، صائحا: "وينهم" .
الانحطاط السياسي في العراق فتح الباب (منذ العهد السابق) امام انحطاط فن الارتزاق ووجد تعبيره، الآن، في انتشار صور الساسة والمشايخ ، بشكل عشوائي مضحك. الساحات والمنعطفات وجدران العمارات العالية، رسمها (او ارتكبها) مبتدئون جهلة تفننوا في تصنيع البراءة والابتسامة على وجوه لا تبتسم في سرّها. وقبل سنوات قليلة اقامت بلديات مدن مباريات لمن يرغب برسم صور كبيرة لساسة ومتنفذين مُطاعين.
كنا نعتقد ان المشهد المقرف لجداريات وصور صدام حسين سيحل في ذاكرة ساسة العهد الجديد كمخلفات استفزازية بائدة، ستشكل وحدها عقدا سياسيا واخلاقيا ضد هذه الظاهرة المعيبة. وليس من دون مغزى ان يهتم المراسلون الاجانب بنقل الجداريات والصور الجديدة من على جدران المدن الصماء ومنعطفات الشوارع الكونكريتية واعمدة الكهرباء الباردة بالكثير من الاستغراب، ولم يتوان مراسل فرنسي كان قد زار بغداد قبل عشر سنوات، من القول بعد ان زار العراق الشهر الماضي "شاهدتُ صورة كبيرة لزعيم محلي تنتشر من حولها مستنقعات من الصرف الصحي، وتنام تحت قوائمها الحديدية نعاج ضعيفة وجائعة".
وهكذا فان السياسة تغوينا - إن لم نتحصن كفاية - على الاستطراد الفائض، وتكشف لنا المزيد مما لم يخطر على بالنا. فلم يكن برام ستوكر قد تخيل ان هناك مخلوقات تمص دماء البشر قبل ان يلتقي عام 1890 بشكل عابر بمصاص دماء من البشر ليخترع من دناءته شخصية دراكولا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بالتزامن مع جريدة (الاتحاد)