المنبرالحر

.. آل النَّهر... ثمن الوطنية الباهظ / رشيد الخيون

أُسرة عراقية الأصل والرُّوح نشأت ونهضت ببلدة الصُّويرة، إلى الجنوب مِن بغداد، تلك البلدة التي اشتهرت بوليدها الزَّعيم عبد الكريم قاسم (قُتل 1963)، وبأبناء آخرين، مِنهم مَن قضى نحبه ومِنهم مَن ينتظر، وللشّهادة ما بدلوا تبديلا! فمِن شخوص الصُّويرة المعروفين بالوطنية ومناصرة السِّلم: آل النَّهر.
كان الأب حسن النَّهر (ت 1994) يعتمر العِقال والكوفية، وهو لباس المنطقة، لكنه ليس عِقال الفصل والنَّهوة ومبايعة كلِّ حكومة وكلِّ عصابة، إنه عِقال يخفي تحته عَقلاً نيراً، كان أحد منشئي مجلس السِّلم العِراقي، في العام 1954، إلى جانب كبار عراق الخمسينيات: المحامي عزيز شريف (ت 1990)، والفقيه عبد الكريم الماشطة (ت 1959)، وقارئ المنبر الشَّيخ محمد الشِّبيبي (ت 1958)، والد حسين محمد الشِّبيبي (أُعدم 1949).
كان اسم حسن النَّهر يملأ الآذان، في المجالس والصحافة، الأب كان عضواً في الحزب الدِّيمقراطي، وزعيمه كامل الچادرجي (ت 1968). إنه حقاً درسٌ في الوطنية أن يكون حسن النَّهر وعبد الكريم الاُزري (ت 2010) إلى جانب الچادرجي وحسين جميل وآخرين في حزب واحد، مثلما كان الثُّنائي محمد جعفر أبو التِّمن (ت 1945) ومولود مخلص (ت 1951) في الحزب الوطني. كان القاسم المشترك شيء اسمه الوطن، الغائب في ما نرى ونسمع.
بلدة الصُّويرة، التي تبعد 120 كيلومتراً عن لواء الكوت، دشنت في العام 1896، وكان اسمها صيرة فاستبدلته الحكومة العام 1925 بالصُّويرة، وبإرادة ملكية، دفعاً للالتباس بين اسميّ الصِّيرة والبَصرة (مجلة لغة العرب: الجزء الثامن). مع أن الالتباس غير وارد!
قيل: صيرة، صحفت مِن جزيرة، وتحول الاسم إلى زيرة، فصيرة فصويرة. واسم الصِّير معروف في معاجم اللغة، لكن هناك مَن يقول أن صيرة أو الصير يعطي معنى «سورا» البابلية نفسه (أُصول أسماء الأمكنة العراقية، مجلة سومر 1952).
اعتقل الأب حسن النَّهر فيمن أُعتقل بعد انقلاب 8 شباط 1963، ليساريته وتقدميته لا لانتمائه الحزبي، فهو لم يكن منتمياً الى حزب، واعتاد نجله شامل على المعتقلات والجنحة فكرة ونشاط سياسي، فاعتقل في العام 1954 وبعدها في العام 1962 ومر عليه طوفان الحرس القومي وهو راقد في التوقيف حتى 1964. تنقل مِن موقف إلى آخر، وفي نقرة السلمان تسلم شعراً مِن والده يشد به عضده.
كان حسن النَّهر شاعراً، ليس مِن النَّاشرين ولا أصحاب الأماسي ولا الدَّواوين، أنه شاعر بمفهوم تلك الأيام، فمعظم رجال الجنوب كانوا شُعراء فحولاً عند الملمات والمبهجات. فلما أنشد محمد مهدي الجواهري (ت 1997) «تغنى بتموز» (1978) كتب إليه النَّهر لائماً:
عِصبة مِن الأَشرار تعبث بالبلد لامته (إلى متى)
مستنقع إجرام كل خاين عفن لا مته (جمعته)
ولِّي بدربهم مشى كل الخلك لامته
والعاون الجور هم لا زم يجي يوم إله (يوم له)
نفس الجرم على السطى وعلِّي وكف يومإله (يومأ له)
فرهود صاحوا ولك خِرجك بعد يوم إله (امتلأ)
والعار على إيدعي فارس وذب لامته (حربته)
مِن غير التأبيد في السُّجون والمعتقلات شهد حسن النَّهر دم نجليه مسفوحاً: معين وظافر (1971 و1974)، بعدها ترك الأب إلى سوريا، والأخوة والأخوات عاشوا متشتتين، ومَن ظل كظم غيظه وكبت حزنه، وتلك حال توحد العراقيين ومازالت! كان آخر الرَّاحلين عبد المنعم حسن النَّهر (2011) مغترباً.