المنبرالحر

عن النصيحة... في الانتخاب / قيس قاسم العجرش

لسبب ما، يظن عدد كبير من الناس أن الصحفي يعرف أكثر منهم. يخلطون بين أن يكون المرء يعرف وبين أن يكون متابعاً للأخبار. ولنفس السبب يظنون أيضاً أن الصحفي يعرف كيف يميّز الصادق من الكاذب فيها.
في مطار أربيل كان يتحدث بصوت خفيض جداً عبر هاتفه الخلوي، وهي عادة نادرة بين العراقيين في الأماكن العامة.. لم استطع أن أخمن شيئاً عنه عبر المظهر.. سألني بطريقة محترمة وغاية في اللياقة هل تتوقع أن نصعد الى الطائرة في الوقت المحدد؟
مع ابتسامة كانت اجابتي نوعاً من الحيلة. قلت إننا هنا منذ ساعة، ربما نتأخر خمس دقائق أخرى أو حتى عشرة.. هل ترى فيها فرقاً كبيراً في زمننا هذا؟
مستمراً بنفس التواضع قال: أنا مدرّس منذ ثلاثين عاماً وما زلت أحضر الى قاعة الدرس قبل الطلاّب بدقيقة، وأسمح لهم بالدخول بعدي بدقيقة أو دقيقتين..أما بعدها فندخل في(المدلول)اللغوي لكلمة «تأخير»!
تعوّدت أن لا ابدأ الحوارات العابرة مع الناس في الأماكن العامة إلا ومعها قفشات، وهي طريقة تنفع عادة في كسر جليد اللقاءات الأولى، لكن السيد الراكب معي كان أطرف من هذه المحاولة.. قال: رأيتك تبتسم لكلمة «مدلول»..هي بالتأكيد غير تلك التي ذكرها فنان الشعب الراحل:، سعدي الحلي في أغنيته(نايم المدلول)!
فاجأني بفكاهته وأجبته: عندما (ينـام)المدلول في اللغة يا استاذ...فالكارثة أكبر من تأخر طائرة لخمس دقائق أو عشرة.
صدّق الرجل على قولي بتنهيدة وقال: أنظر لافتات المرشّحين.. تستحق دراسة دلالية وبلاغية ونفسية هامّة.
بمباغتة لم أر مثيلها إلا قليلاً، قال: أنت صحفي...لماذا لا تكتبون عن الغش والخداع في اللغة التي ترافق الانتخابات؟
لو سألته كيف عرفت أنني صحفي لضيّعت فرصة الاستفادة من هذا الدرس المجاني من مربٍّ يعي ما حوله.. سألت :كيف تغشــّـنا اللغة؟.. قال :الحمد لله، إن اللغة كلما استعملت للخداع تنكشف للآخرين..اللغة مغرفة للقلوب.. أنظر الى لغتهم تعرف ما في قلوبهم.
أنظر الى ما يركزون عليه في العناوين البرّاقة تعرف ماذا يخبئون من صدأ الأفكار والإنتهازية.. انظر الى مرشّح يحترم نفسه في لغة مخاطبة الناس، تعرف أنه حقيقي وأنه يسعى بجد للتغيير والإصلاح.. ثلاثمائة مرشح هم أعضاء بالأصل في مجلس النواب ومثلهم وزراء ومدراء عامّون.. عيب أن أنخدع بعد هذا العمر بمن يقول لي منهم أنه يسعى الى التغيير.. فليشرحوا لنا كيف هو(برنامج التغيير)الخاص بهم.. أنتم أيها الصحفيون عليكم أن تتغيروا بلا انتخابات.. قصّوا هذه الحكايات على الناس وانفضوا التراب عن كسلكم الكلاسيكي.
صعدنا الطائرة وجلس كل منا بعيداً عن الآخر.. خمس دقائق تأخير كانت درساً أنا في غاية الامتنان له.