المنبرالحر

التطرف الديني .....واشكالية التطور/ احمد عواد الخزاعي

يمكن تعريف الدين على انه حركة تصحيحية تضع نظريتها السماوية تتلاءم مع ظروف عصر ومرحلة تمر بها الانسانية.. وهو مجموعة من الاجابات التي تفسر علاقة البشر بالكون ..او كما عرفه عالما الانثربولوجية موناغان وبيتر جست (بانه مجموعة من الافكار المجددة والقيم والتجارب القادمة من رحم ثقافات الامم والشعوب يحاول مساعدتنا على التعامل مع مشاكل الحياة البشرية الهامة) . وقد تستطيل هذه الافكار والمفاهيم لعصور عدة مادامت البشرية تعيش نفس الظروف الاجتماعية والفكرية لعصر التنزيل اما اذا اصبح هناك بون شاسع بينهما فيجب ان يتحول الدين الى تراث انساني ومنظومة قيمية ذات مبادئ غير ملزمة للفرد يستذكر ويمارس بين جدران المعابد وينعكس الايمان به على سلوك الفرد في المجتمع من خلال تجسيد مفاهيمه السامية على ارض الواقع مع الاخرين ..كقول النبي محمد(ص) في الحديث الذي اورده مسلم في صحيحه حين سأل عن ماهية الدين فقال (الدين المعاملة).. اي انه الاثر الانساني الذي يتركه الفرد على المجتمع الذي يعيش فيه ويكون هذا الفعل مصاحبا للايمان بثوابت الدين والتي تمثل المدخل الرئيسي لكل الشرائع السماوية. وقد حددها الفيلسوف ابن رشد في كتابه (الكشف عن مناهج الادلة) بجموعة من الاطر فقال ..على كل انسان الالتزام بالمبادئ الاساسية للدين والتي هي ..اولا ..وجود الله كصانع ومدبر للعالم ..ثانيا ..الوحدانية وعدم الاشراك به ..ثالثا ..الايمان بصفات الكمال السبعة لله وهي (العلم ؛ الارادة؛ الحياة ؛ القدرة ؛ السمع ؛ البصر ؛ الكلام ).. وهنا ينحصر دور الدين ويحدد ضمن هذه الاطر الاخلاقية لذا فان المشكلة تكمن الان هي في محاولة البعض زج الدين في كافة ميادين الحياة ومنها السياسية وتسقيط عصر التنزيل على كل العصور والازمنة اللاحقة مما احدث شرخ كبير بين النظرية والتطبيق وأسيئ للدين عن قصد او غير قصد من قبل الكثير من المنظرين والدعاة ورجال الدين من خلال محاولتهم تطبيق اساليب القرن الاول الهجري في ادارة مفاصل الحياة في وقتنا الحاضر وهذا شئ مخالف للعقل والمنطق كون كل زمان له ظروفه ومعطياته الخاصة به تحكمها عوامل التطور الفكري ..وقد احدث اصرار الكنيسة الكاثوليكية ابان العصور الوسطى على فرض مفاهيمها المتخلفة والرجعية للدين على المجتمعات الاوربية الى حدوث ردة فعل عكسية جعلت الناس ينفرون منه وتمثلت ردة الفعل هذه بظهور عصر التنوير في القرن الثامن عشر كجزء من عصر العقلانية الكبير الذي اسس لقيام النظام الشرعي للاخلاق والمعرفة بدلا من الدين ..فعندما تحرر الفكر المسيحي بالخطوة الجريئة التي اقدم عليها الراهب الالماني مارتن لوثر (1483-1546) وحرقه لصكوك الغفران التي كان يرسلها بابا الفاتيكان لتباع على الفقراء من الناس ليضمن غفران خطاياهم ودخولهم الجنة من خلال رسالته الشهيرة والمؤلفة من 95 فقرة والتي اسماها (لاهوت التحرير في الحل من العقاب الزمني للخطيئة)...عندها دق اول مسمار في نعش التسلط الديني على المجتمعات الاوربية وبمرور الزمن تحول الدين الى تراث انساني وفكري لا يتعدى مداه جدران الكنائس.. واصبح علاقة شخصية تربط الانسان بخالقه لا يحاول احد فرض مفاهيمه او سلوكياته على الغير واما الاسلام فولد كحركة ثورية قام بها النبي محمد (ص) على مجتمع كان يسوده الظلم والجور والعبودية والتعصب فطرح نفسه نموذجا لهذا الدين بسلوكه واخلاقه التي تمييز بها عن اقرانه حتى لقب (الصادق الامين ) في مجتمع اظن ان الامانة والصدق كانتا فيه نادرتين واستطاع بشخصيته المقنعة ان ينشر دينه الاسلام بين مجتمعه البدوي الجاهلي المتعجرف قبل البرجوازيات الحاكمة والمتنفذة في قريش والتي كانت تخاف على مصالحها الاقتصادية والسياسية من هذا الدين الجديد الذي ينادي بالعدالة والمساواة حتى قال (ما اوذي نبي مثل ما اوذيت ) ..وكانت لهذه الشخصية النادرة التي امتلكها الدور الاكبر بانتشار الاسلام فأغلب الذين امنوا بهذا الدين الجديد من الصحابة الاوائل لم تكن عندهم رؤية واضحة او دراية بعلم اللاهوت او الاديان السماوية وان ما طرحه محمد (ص) كان يمثل ثقافة غريبة عليهم تجاوزتها الجزيرة العربية منذ قرون منذ ان ادخل حيي ابن عمرو الخزاعي اول الاصنام الى الكعبة والتي جاء بها من احدى رحلاته التجارية الى الشام متأثرا بتراث الروماني الذي كان يسيطر على تلك المنطقة ان ذاك ..ولم يكن الموحدون يمثلون سوى قلة نادرة في الجزيرة العربية ولا يمتلكون ثوابت مادية او فلسفية لعقيدتهم لذلك كان كفار قريش يحتجون على النبوة بادعائهم كيف يكون لنبي تكلمه السماء ان يمشي في الاسواق ويأكل الطعام كما جاء في سورة الفرقان (وقالوا ما لهذا النبي يأكل الطعام ويمشي في الاسواق فيكون معه نذيرا او يلقي اليه كنز او تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون ان تتبعون الا رجل مسحورا ).. هذه هي النظرة التي كانت سائدة على الدين في تلك الفترة ..ويذكر احمد ابن حنبل في مسنده والذهبي في (سير اعلام النبلاء ) قصة الاعرابي الذي اشترى منه النبي فرسا ثم انكر عليه الاعرابي ذلك وطالبه بشاهد فشهد الصحابي خزيمة بن ثابت للنبي فقال له النبي كيف تشهد بما لم ترى فقال (شهدت بتصديقك يا رسول الله وفي رواية اخرى شهدت على شهادتك لو علمتك كاذبا ما اتبعتك ) بهذه الحماسة وهذا السمو انتشر الاسلام الذي بدأ غريبا برجل وصبي وأمرأة ليغطي ارجاء الجزيرة العربية خلال فترة الرسالة القصيرة والتي دامت ثلاثا وعشرين سنة استطاع من خلالها اشاعة روح ومفاهيم الاسلام الحنيف ونشر الاخوة والتسامح بين ابناء المجتمع لكن التغيير الذي طرأت على مفاهيم وثوابت هذا الدين بعد وفاة النبي (ص) بظهور الخلافة كمرجعية سياسية ودينية للامة وانتهاجها مبدأ نشر الدين عن طريق ما سمي (بالفتوحات الاسلامية ) ادى الى تحويله من رسالة الهية انسانية الى وسيلة لاستعباد الناس واذلالهم وسلب حرياتهم وممتلكاتهم وتراثهم الحضاري باسم هذا الدين الحنيف ..كما يروي ابن خلدون في مقدمته ..عندما دخل عمرو ابن العاص الى مصر فاتحا سنة 19 هجرية فوجئ بمكتبة الاسكندرية الكبيرة والالاف من الكتب التي تحتويها فأرسل الى الخليفة عمر بن الخطاب (رض) يستفتيه في أمرها فجاءه الرد من مركز الخلافة الاسلامية المدينة المنورة ..ان انظر في هذه الكتب فان كان فيها ما يرضي الله فدعها وان لا فجعلها للنار ..فما كان من عمرو بن العاص الى ان جعل هذه الكنوز الثمينة والنتاج الفكري والانساني لمئات السنين طعاما لنيران حمامات الاسكندرية ولمدة ستة اشهر ..ويعلق ابن خلدون على هذه الحادثة بقوله (ان حرق مكتبة الاسكندرية من قبل عمرو بن العاص ساهم في تأخير تقدم وتطور البشرية لالف سنة ) وقد استغل الخلفاء الامويون والعباسيون هذه السلطة المقدسة ابشع استغلال وتحولوا الى واستمر هذا الفكر الشاذ والدخيل على العقيدة الاسلامية الى وقتنا الحاضر وكلما اراد طاغية او غاصب السيطرة على العباد لبس عباءة الدين كما فعل السلطان العثماني سليم الاول حين بدأ حكمه الدموي التوسعي بأن اعلن نفسه خليفة للمسلمين ولبس عباءة وعمامة رسول الله ليحقق طموحاته الشخصية والقومية باسم الدين وقدسية الخلافة وكذلك حين انهزم صدام حسين من الكويت وكسرت اسطورته على يد اسياده الحلفاء الغربين ونكفئ يلملم جراحه بعد ان خلفت حماقاته بلدا فقيرا بعد ان انهارت وتلاشت بناه التحتية واقتصاده وجيشه ليعلن حملة الايمانية الكارتونية والتي سخر لها كل امكاناته والاقلام الرخيصة ليخدع الناس بلباس الدين الذي كان هو ابعد الناس عنه وعن سلوكه ليذهب بعدها الى مزبلة التاريخ .. و السؤال هنا ..هل ان مجتمعاتنا الاسلامية بحاجة الى استنساخ التجربة الغربية وهل نحن قادرون على تحويل الاسلام من دين يحاول المتمسكون به او المدعون ذلك ان يتحكموا بمقدراتنا وارواحنا وارزاقنا الى منظومة فكرية وانسانية تعمل على بناء الانسان روحيا واخلاقيا وسلوكيا بما يتلاءم مع متطلبات العصر الحالي حتى نستطيع مواكبة باقي الامم في سيرها نحو الرقي والازدهار بدلا من السعي لسحبنا الى الخلف والعودة بنا الى القرن الاول الهجري بكل حيثياته ومعطياته كما يحصل الان في بعض دول عالمنا الاسلامي.