المنبرالحر

العراق وأزمة الهوية الوطنية / خضر عواد الخزاعي

ليس من شك أننا اليوم نعاني بالعراق أزمة عميقة تفرعت عنها كل ألأزمات اللاحقة أنها أزمة الهوية الوطنية التي نشأت مع تفكك الدولة العثمانية وأنهيارها وتشكيل أول نواة للدولة العراقية الحديثة في العقد الثاني من القرن الماضي فالمعروف أن الأسلام لم يكن ليقر لأي أمة بأي شكل من أشكال الهوية الوطنية لأنه يؤمن فقط بهوية العقيدة الأسلامية التي ينضوي تحتها كل مسلم أيًّا كان مكانه أو شكله أو لغته .
أن مشكلة العراق المعاصر هو أنه وقع بين فكي كماشة الأنتماء الوطني والعروبي وفي كلاهما كان الدين والطائفة القاسم المشترك لتعميق هذه المشكلة فهو صراع بين هوية العراق العراقي وهوية العراق العربي وهو صراع قديم أوجده ذلك الشكل الهزيل الذي رافق مرحلة التأسيس للدولة العراقية في العام 1921 ولقد ترسخت الهوة العميقة بين المفهومين بعد العام 2003في أعقاب سقوط نظام البعث ودخول القوات الأمريكية العراق ووصول الأحزاب الدينية الى سدة الحكم .
أولاً لناخذ بشيء من مفوم الوطنية كما عرفته الأمم المتحدة في مؤتمر اليونسكو المنعقد في مكسيكو في العام 1982 فالوطنية كما يعرفها المؤتمر (هي جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان، ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات، وان الثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته والتي تجعل منا كائنات تتميز بالإنسانية )
أن السمات التي أشار اليها التعريف هي جزء حيوي من الواقع الروحي والفكري والثقافي للعراق والعراقيين لكن للأسف هناك من يجد في الطائفة وليس بالعراق عراقيته وهناك أيضاً من يجد بالقومية وليس بالعراق عراقيته قبل أيام ومن على الفضائيات الاعلامية شاهد الكثيرون أحد علماء الدين السنة وهي يصرخ مستنجداً برجب طيب اردوغان حفيد محمد الفاتح كما يصفه لكي ينقذ أبناء جلدته السنة مما هم عليه وكان يرفع خلفه علم تركيا وفي نفس الوقت ومن على فضائية أخرى كان هنالك شأن آخر لرجل دين شيعي حينما سأل عن موقفه فيما اذا وقعت الحرب بين أيران والعراق وكان الرجل صريحا جدا حينما أجاب بأنه سيقف بالطبع الى جانب أيران .
هاتان الحادثتان أبرزتا حجم المشكلة التي يعاني منها العراق فالسني لايرى بالعراق إلا امتدادا للدولة العثمانية متمثلة بتركيا والشيعي لايرى بالعراق إلا امتدادا آخر للدولة الفارسية متمثلة بأيران لكن أين يكون مكان وامتداد العراقي الكردي والكلدني والتركماني والمسيحي والصابئي والأيزيدي ؟
فهل العراق العراقي للعراقين فقط ؟أم هو العراق القومي الذي يشكل جزء من محيطه العربي ؟ أم هو العراق المتنوع الدين والطائفة ألأسلامي ؟
من المؤكد أن العراق لم يكن نتاجا دينيا لا بأرثه ولا بتأريخه فالدين متمثلاً بالفتح الاسلامي دخل العراق بعد مايقارب الأربعة الاف سنة من من وجود العراق الذي عرف ببلاد ما بين النهرين أو بلاد الرافدين Mesopotamia)) وهو بطبيعة الحال لم يكن جاهلياً كما هو الحال بالجزيرة العربية فلقد سبقت حضارة سومر وبابل وأكد وآشور الفتح الاسلامي بعصور متقدمة فعلى ضفاف هذه الارض زرعت الأرض ومدت قنوات الري وشرعت القوانين وكتبت الحروف واخترعت العجلة .
أيضاً العراق لم يكن عربياً بنشأته فالأقوام التي أستوطنته في فجر التاريخ هي بالأصل أما أقوام محلية أو مهاجرة من شمال العراق كما يؤكد ذلك المؤرخ طه باقر ( أن السومرين لم يأتوا من جهات بعيدة خارج القطر وإنما كانوا أحد الأقوام الذين عاشوا في جهة ما من وادي الرافدين في عصر ماقبل التاريخ ثم استقروا في السهل الرسوبي منه في حدود الالف الخامس قبل الميلاد أو بعد ذلك الزمن عندما أصبح هذا السهل صالحا للسكنى) باقر، طه، مقدمة في ادب العراق القديم، الدار الدولية للاستثمارات الثقافية، مصر، 2004,ص81 .
كذلك يذكر المؤرخ البريطاني هنري فيلد أصل سكان العراق فيقول (أن سكان الأهوار هم النسل المباشر للسومرين الذين عاشوا في العراق قرابة خمسة الالاف عام خلت، وأنهم دفعوا للحياة في الأهوار لغرض الحماية) سليم، د.شاكر مصطفى، الجبايش، دراسة انثروبولوجية لقرية في اهوار العراق، اطروحة دكتوراة في الفلسفة مقدمة لجامعه لندن, ج1, مطبعة الرابطة، بغداد, 1956, ص25.
ويقول الجاحظ في كتابه البيان والتبين أن أعداد العراقيين كان يقدر أبان الفتح الاسلامي ب 7 ملاين نسمة أكثرهم لم يكونوا يجيدون اللغة العربية حتى القرن الثالث الهجري .
أذن هذا العراق لم يصنعه الفتح العربي الأسلامي ولم يضف له من شيء بقدر ما أخذ منه الكثير الكثير فلقد كانت تقطن هذه الأرض أمة منتجة متحضرة قدمت للعالم اللغة والحضارة والكتابة والصناعة والقوانين حين كانت الجزيرة العربية وأصقاع شاسعة من العالم تعاني من الجاهلية والتخلف والبداوة كان من سوء حضها أن تكون ساحة قتال بين قوى متناحرة مرة بين العرب والفرس ومرة بين العثمانين والفرس ومرة بين المغول والعثمانين .
هناك مسألة مهمة في الاسلام العراقي وهي أن المذهبين الرئيسين فيه التشيع والتسنن لم يكونا من صنع خارجي بل هما نتاج العقل العراقي وما صاحبه من تطور خلال حقب تاريخية متعددة فالمذاهب السنية، مثل الاشعرية والحنفية والحنبلية نشأت في العراق ونفس الحال بالنسبة للمذاهب الشيعية مثل الجعفرية والاسماعيلية والزيدية والنصيرية أيضاً نشأت في العراق بالأضافة إلى ما قدمه الفكر العراقي من تنوع أبداعي في مجالات الفكر واللغة والتراث والتنوع الفلسفي من تصوف ومعتزلة ناهيك عن المجالات الاخرى في الأبداع الحضاري والفنون التي دخلت ضمن ما سمي بالحضارة العربية الاسلامية.
أنها مهمة غاية بالصعوبة لسهولتها أن تجعل العراقي يشعر بوطنيته بعيداً عن مؤثرات الدين والقومية التي صارت لصيقة به منذ الألف وأربعمائة عام بعد ان أجبرته الظروف القاسية أن يتخلى عن تأريخ عمره يقدر بأكثر من سبعة الاف عام فالوطنية بأوج أزدهارها وهي تقارع الأحتلال البريطاني لم تستطع أن تخلع رداء الدين والتدين وأمامنا هذا النموذج من التصور الديني للوطنية كما صاغه المرجع الديني الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي في العام 1920 وقد صدر بشكل فتوى رداً على مشروع الأنتداب الأنكليزي للعراق يقول الشيخ الشيرازي بفتواه (لا أحد من المسلمين أن ينتخب أو يختار غير المسلم للأمارة والسلطنة على المسلمين ) ويعلق السيد علي الوردي على هذه الفتوى بما يلي (أن هذه الفتوى كانت عملاً أساسياً في تطوير الوعي السياسي بالعراق فهي قد جعلت الدين والوطنية في أطار واحد وهذا جديد لم يكن الناس يألفونه من قبل وبذا اصبح الوطني متدينا والمتدين وطنياً ) المصدر لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الجزء الخامس ص 104 أذن نحن في رحاب النظرة الدينية للواقع العراقي لانستطيع أن نفصل الدين عن الوطنية ويمكن لنا أن نسيس القضية الوطنية لكن لايمكن أن نسيس الدين لأغراض الوطن حتى حاكم العراق الطاغية صدام الذي عرف بعدائه الصريح للدين ورجاله وحمل لواء العلمانية للدولة البعثية وأقدم على أعدام أثنين من أبرز رموز الحركة الدينية بالعراق بجناحيها السني والشيعي حيث أقدم على أعدام الشيخ عبد العزيز البدري في حزيران من العام 1969 وبعدها أعدم سماحة الامام محمد باقر الصدر في نيسان 1980 لم يستطع في أواخر أيامه أن يتحرر من سطوة الدين وتأثيره السايكلوجي حين أصر أن يصطحب معه في محاكمته الشهيرة نسخة من القرآن الشريف بعد أن أطلق لحيته ونسي محاكماته لرفاقه الذين أخذ عليهم بناء الجوامع أو ترددهم عليها وقال كلمته الشهيرة ( أن الرفيق البعثي الملتزم بمباديء البعث والمضحي من اجلها هو عند الله افضل من عمر بن الخطاب ) .
في التاريخ العراقي المعاصر ربما لانجد شخصية أنتهجت مسلكاً علمانياً في أدارة الدولة دون المساس بقدسية وروحية الدين ورجالاته كما فعل الزعيم عبدالكريم قاسم مؤسس الجمهورية الأولى وأول رئيس لوزرائه في النظام الجمهوري ولقد كان حنا بطاطو مصيبا ودقيقاً في وصفه لشخصية قاسم حين قال عنه ( أنه نسيج موَحِد ) وربما خدمه في ذلك نسبه فهو من أب سني زبيدي ومن أم شيعية من الكرد الفيلية ومن الطرائف التي تذكر عن جهل الكثيرين بانتمائه المذهبي الرواية التي ينقلها حسن العلوي في كتابه الشيعة والدولة القومية والتي يدور بها الحوار بين عبدالعزيز القصاب رئيس مجلس النواب العراقي في العهد الملكي وعبدالهادي الجلبي رئيس مجلس الاعيان في بيروت بعد ثورة 14 تموز 1958 حيث يسأل عبد العزيز القصاب صديقه الجلبي (من أين اتيتم ايها الشيعة بهذا الرجل البغيض ؟ ) ( ويقصد عبدالكريم قاسم ) أذ أستطاع عبد الكريم قاسم بحنكتة الوطنية وحكمتة أن يخفي أنتمائه المذهبي حتى لرجال النخبة والمقربين منه آنذاك وأن يبعد نفسه عن كل ماكان يمكن أن يجعله رجل طائفة وليس رجل دولة وأعتقد أنه نجح في ذلك .
ختاماً اتصور أن موضوع البحث الدؤوب لهوية عراقية وطنية سيظل لزمن طويل آخر مطلباً وحلماً يرواد الملايين من العراقيين في ظل هيمنة صراع دولي تقوده أطراف عراقية علمانية ودينية بمسميات أثنية وقومية العراق لن يكون فيها العراق اِلا غنيمة الرابحين .