المنبرالحر

الوطنية مبدأ وفعل حقيقي بالتضحية والايثار.. / هند وصفي طاهر

.. اشعر بألم وحزن ووجع لا مثيل له، لما حل بمدينة الموصل المفجوعة، ليس فقط لما ابتلى به اهلها من كابوس داعش وبقايا البعث، وانما بمواقف هزيله لـ (قادتها الامنيين) وبالطبع اتلمس ذلك الوجع بوجه كل من التقي به هنا في بغداد، وحتى عبر صفحات التواصل الاجتماعي لاصدقاء ومعارف في كل مكان من هذه المعمورة، فحالة الهلع والخوف التي يعاني منها الكثير من اهالي الموصل، وضواحيها، يذكرني ليس بما جرى من اقتتال طائفي في سنوات 2006 او2007 فحسب، وانما لسنوات عجاف ماتزال مرارتها وكوابيسها تراودني
حينما كانت تتعرض القرى الكردية لهجمات وحشية من قبل مرتزقة نظام صدام وبشكل مستمر، قبل الكارثة الكبرى في حملات الانفال سيئة الصيت عام 1988، وعن الموقف البطولي للانصار الشيوعيين ودفاعهم عن اهالي تلك القرى المسالمة، وعدم تركهم في مهب الريح، رغم التفاوت الكبير بين ما تملكه جحافل النظام من اعداد وتجهيزات، والنصير الشيوعي الذي لايملك سوى وطن في قلبه، وبندقية في يده.. لذا وجدت من الضروري استذكار تلك الاحداث وتسجليها.. بعيدا عن أي مظهر من مظاهر الاستعراض، فالايمان بقضية عادلة والدفاع عن مباديء سامية تجعل الانسان يقاوم ويدافع الى النفس الاخير، وقطعا يرفض فكرة الاستسلام...
***
تجربة خاصة ومشاهدات عشتها ستبقى مغروسة في ذاكرتي مهما حييت. كنت قد التحقت بقوات الانصار البيشمركة، التابعة للحزب الشيوعي العراقي، لمقارعة نظام صدام المجرم عام 1985 وبعد ان انيطت لي مهمة العمل على جهاز اللاسلكي، والتدريب لفترة وجيرة لاتتجاوز 14 يوماً، فقد شكل ذلك تحديا لقدرتي في استيعاب واجادة شيء جديد بالنسبة لي، اضافة الى التكيف مع قساوة الحياة وسط الجبال، وانا ابنة المدينة التي تعودت على الحياة السهلة المترفة، والقادمة من احدى البلدان الاوربية، بعد غربة قسرية ابان الحملة الشرسة لنظام صدام المقبور على الحزب الشيوعي عام 1978... وهنا لابد من الاشارة الى دور النصيرات الرائدات اللواتي سجلن مواقف شجاعة وبطولية، واستطعن مد جسور المحبة بنسج علاقات طيبة مع نساء واهالي القرى، والذي كان له دور كبير بتسهيل مهمة أي نصيرة التحقت بعد سنوات.
.. وفي بداية عام 1987 وتحديدا صباح الخامس من كانون الثاني، بدأت قوات النظام المستقرة في مواقع ليست بالبعيدة عن موقعنا في الفوج الاول لقاطع بهدينان (كلي مراني) بالتقدم والهجوم بجحافل كبيرة وتجهيزات متطورة، امام ما نملكه من تجهيزات واعداد، لتشكل بذلك معادلة غير متكافئة... كانت مهمتي هي العمل على جهاز اللاسلكي لوحدي، بعد ذهاب زميلي بالعمل قبل الاحداث لقاطع بهدينان، لظرف خاص به وذلك القاطع يبعد مسافة يومين سيراً على الاقدام.
لذا شكل ذلك الأمر تحديا كبيراً لي، اذ بات عليّ مواصلة العمل ليل نهار لمدة تجاوزت اليومين دون انقطاع، بارسال واستلام برقيات من القيادة والى الافواج والقطاعات الاخرى.. وبالطبع فقد كانت طبيعة عملي تتطلب اليقظة والحذر والحرص على عدم تسرب أي خبر اضافة الى الدقة... وبعد ثلاثة ايام استطاع زميلي بالعمل ان يلتحق وهو الرفيق العزيز سالم لاسلكي، ليقدم لي العون والمساعدة، كما التحقت اعداد من المقاتلين الانصار من الافواج والقواطع الاخرى...
قاتلت قواتنا ببسالة وقاومت لاكثر من اسبوعين وقدمنا شهيداً واحداً وهو الشهيد البطل "جنان" الشاب المفعم بالشجاعة والحماس، ليسهم بدمه الطاهر في مساعدة قرى مسالمة احرقتها نيران مرتزقة صدام، ولضمان انسحاب اهالي القرى من الاطفال والنساء والشيوخ معنا بأمان، وقد قامت مجاميع من انصار الفوج بتأمين الطريق الى منطقة "كافية" البعيدة عن موقع الهجوم.
كان بحوزتي جهاز اللاسلكي، ويكبر حجمه جهاز الستلايت بقليل وقد وضعته على ظهر الحيوان وطلبت من احدى الامهات ان تضع اطفالها الثلاثة فوق البغل ليتسنى لها الامساك بيد الاكبر سناً.. بينما توليت انا رعاية أولئك الصغار الذين تجمدت دموعهم على خدودهم التي اصطبغت بلون احمر قرمزي من شدة البرد.. وقفت حائرة امام معاناة الاطفال، فما زال الطريق طويلاً امامنا قد يتجاوز اليوم او اليومين، للوصول الى منطقة كافية، الاكثر امانا والتي تقع فيها احدى مقراتنا.. اخرجت قطع الجوارب التي املكها ووضعتها في ايديهم... كل واحد منا وجد طريقة ليخفف بها عن معاناة هؤلاء الابرياء... وقد خرج اهالي منطقة كافية لاستقبالنا بالطعام والماء.. مما خفف من حالة الوهن والجوع والعطش الذي اصابنا... بعد انسحاب القوات من منطقتنا وعودتنا الى مقرنا في مراني بسلام لكم هذه المشاهدة...
***
ثمة حقيقة اسجلها للتاريخ... لابد من التفريق بين بعض الضباط الشرفاء، واغلب الجنود الذين زجوا قسرا لقتل الابرياء من اهالي المنطقة، وحتى الدخول في قتال مع قوات البيشمركة، وبين مرتزقة اسماهم صدام بالفرسان، وهم جحوش مهمتهم قتل الاطفال والنساء وكل الابرياء دون ان يرف لهم طرف. اصبنا بحالة الذهول حينما دخلنا مقرنا، فما شاهدناه كان خارج عن كل توقعاتنا... ان من دخل المقر هم الجنود الطيبون حيث اوهموا قادتهم الجبناء الذين اختبؤوا خلف الجبل باحراق المقر بالكامل، ولكن الجنود لم يحرقوا سوى غرفة صغيرة من هذا الجانب وغرفة من الجانب الاخر كانت اسطبلاً للحيوانات ليشكل المنظر من بعيد سحابة دخان كثيفة... وكأن كل شيء سوى مع الارض بالكامل... ولم يعبثوا بشيء بل كتبوا عبارة قلوبنا معكم على جدران احدى الغرف... فتحية لهؤلاء الجنود الرافضين لنظام صدام المجرم... الذي ترك العراق في مهب الريح واختفى في حفرة كالجرذ، بينما كان يتراكض ازلامه على شواطيء دجلة بملابسهم الداخلية ابان دخول قوات الاحتلال العراق عام 2003.
واخيرا كم أود ان اعبر بان الوطنية ليست كلمة تقال في خطبة لتمرير سياسة طائفية لقادة متعجرفين... الوطنية مبدأ وفعل حقيقي بالتضحية والايثار.... فالقادة الوطنيون لثورة 14 تموز المجيدة قاتلوا وضحوا بانفسهم الى جانب الزعيم عبد الكريم قاسم، كما وقفت الجماهير بطوابير امام وزارة الدفاع، والزعيم يرفض تزويدها بالسلاح حفاظا على ارواحهم.