المنبرالحر

الشيوعيون.. "كَفَرَة"! / عبد الكريم العبيدي

كانت لحظة مبهرة، توهجت فيها ذاكرتي بلقاءِ صديق قديم، لم أره منذ تسعينيات القرن الماضي، جمعتنا صحبة طيبة، تأسست على مقاعد الدرس، ونمت مع مسارات التفاعلات الحياتية والفكرية، وتركت في ذاكرة كل منّا، تصورات حميدة، ظلَّتْ محتفظة بألقها الجميل طيلة افتراقنا على مدى أكثر من عقدين.
لم أَأْبه بزغب لحيته المتناثرة، ولا بالمحابس الفضية التي تزيّن أصابعه، فقد صدح شلال الذكريات يتغنى بأيامنا القديمة، وبمباهج الحياة التي كنّا نصنعها عنوة، رغم بؤس النهارات والليالي، وضيق الأمكنة وخطورتها في دولة المخابرات والخوف والحروب. وحين وصلنا بأسئلتنا إلى حالنا الآن، اتضح لي أنه يعيش بمستوى معاشي ميسور، ويسكن في دولة أجنبية، وأنه سيسافر قريبا جدا عائدا الى منفاه الاختياري. سررتُ بذلك، وهنأته على هجرته، على العكس من انزعاجه المفاجئ، ليس من ردودي على أسئلته عن مراحل عملي بعد سقوط النظام السابق، بل من كوني أعمل في صحيفة "طريق الشعب"!
اعتقدتُ، في أول الأمر أن الجريدة بنظره كدائرة إعلامية ليست بمستوى "قدراتي وحرفيتي"، خصوصا، حين ظل يعدد "مناقبي وقدراتي"، ويكرر بعض أسماء المؤسسات الإعلامية والصحفية العالمية والعربية التي أخبرته عن عملي فيها.
لا، لقد اتضحت لي فجأة سعة ارتداده الطائفي، وتوغله في التعصب والغلو الذي يعمي البصيرة، بل وبإمعانه في محاربة ومعاداة العلمانية بتطرف واضح. فقد أبدى أسفه مرارا على عملي في الجريدة، وامتعض كثيرا ممّا آل بي الحال، وظل يدعو إلى "هدايتي" والى "أن يفتح لي الله سبل نجاته" وينعم علي بمنصب جديد يليق بي وبقدراتي.
ابتسمت، وأخبرته عن رضاي بعملي الحالي، وبسروري بروح المحبة التي تجمعني مع أسرة التحرير والفنيين وبقية العاملين في الجريدة. لكنه أوضح أن كل هذا لا يعنيه، وعاد وكرر أسفه وأبدى انزعاجه. وهنا كان لا بد أن أسأله لماذا؟، فأجاب:
- الشيوعيون "كَفَرَهْ" يا أخي، لا ينبغي مد يد العون لهم، لأنك، والعياذُ بالله ستغدو ملحدا مثلهم! وأنا أخشى عليك من عذاب الآخرة! تُب توبة نصوحة، وابتعد عنهم!
كان أكثر ما أدهشني أن أعوام الهجرة والعيش في تلك الدولة المتطورة التي هاجر إليها أحالته إلى بؤس ما هو عليه بدلا من أن يغدو متحضرا مدنيا علمانيا محبّا للحياة وللإنسانية وللتنوع والاختلاف. وكم حزنت لخاتمة شخص يعيش في هذا القبو المظلم، دون ان يعين نفسه أو يسمح لاعانته على كشف الغمامة عن عينيه. ولذلك كان لا بد أن انغمر في سطور ردود كاشفة، أملاها عليَّ واجبي الأخلاقي، ووازع الوفاء قبل طغيان مؤثراتي الفكرية والثقافية.
قلت له:
"ثمانون عاما، وهؤلاء "الكفرة" يحملون العراق بحدقات عيونهم، ثمانون عاما وهؤلاء يناضلون من أجل وطن حر وشعب سعيد، ثمانون عاما وهؤلاء يقدمون مواكب الشهداء تلو الشهداء، ليرووا بدمائهم الندية تربة هذا الوطن، ثمانون عاما وهؤلاء ينثرون المؤثرات الفكرية ويشيعون التفاعلات الثقافية، ويتغنون بالسلام والمحبة لهذا الشعب، بلا منَّة ولا فضل ولا استعلاء".
وقلتُ له:
"صار عدد منهم نوّابا في البرلمان العراقي (حميد مجيد موسى، مفيد الجزائري)، فلم يغيبوا يوما واحدا، وترأس بعضهم لجانا فيه، ولم تُسجَّل عليه شائبة واحدة، وكانوا مثالا للنزاهة والإخلاص وحب الوطن والتفاني من أجل ازدهاره، وكانوا يتبرعون برواتبهم الشهرية للحزب والجريدة وللعاملين فيها".
وقلتُ له:
"أصبح مفيد الجزائري أوّل وزير للثقافة بعد التغيير، وأصبح رائد فهمي وزيرا للعلوم والتكنولوجيا، وصبحي الجميلي وكيلا لوزارة الزراعة، فهل تلوثت أيديهم بذرة فساد إداري أو مالي؟، هل اختلسوا؟، هل نهبوا؟، هل تلاعبوا بالمال العام؟، بل هل سُجلتْ عنهم شائبة واحدة"؟، أليسوا "كفرة"!؟
وقلتُ له:
شهران، وأنا طريح الفراش، ومنقطع عن العمل في الجريدة، وإذا بهؤلاء "الكفرة" يأتون لعيادتي في بيتي البعيد جدا عن موقع الجريدة، يُرسلون وفدا رفيع المستوى وعلى رأسهم رئيس التحرير ووزير الثقافة الأسبق "مفيد الجزائري" وهم يحملون مرتبي الشهري، وباقة ورد، وعلبة حلوى، طبقا للعادات العراقية!
قلتُ له:
أتفق معك أنهم "كفرة"، في عدائهم الشديد للباطل ونصرتهم للحق والعدل، وأنهم كفرة في معارضتهم للفوضى وحبهم للسلام، وكفرة في محاربتهم للفساد وانحيازهم للنزاهة، وكفرة لأنهم أعداء لكل من يعادي العراق، وأصدقاء لكل من يحب هذا الوطن، وهم كفرة ملحدون لأنهم لا يخشون في قول الحق، ولا يبحثون عن جاه أو سلطة أو كراسي أو مال من السحت الحرام.