المنبرالحر

الثورة التي أدهشت العالم / قصي الصافي

فارق الحياة الثائر الفيتنامي الكبير فو جياب في الرابع من أكتوبر، ووفاءً لذكراه سيكون هذا المقال محاولة متواضعة للبحث في الأصول الإجتماعية والتأريخية لثورات الشعب الفيتنامي، و الكشف عن سر نجاحها في الإنتصار على أكبر الإمبراطوريات، كالإمبراطورية الصينية والفرنسية والأمريكية.
يمتد تراث المقاومة لدى الشعب الفيتنامي إلى قرون في عمق التأريخ ، فقد عانى من الإحتلال الصيني لما يزيد على الألف عام ، لم يهنأ خلالها التنين العملاق بالإستقرار، ولم تتوقف التمردات والثورات الشعبية ضده إلا بهزيمته، وإستقلال فيتنام ، وتأسيس امبراطوريتها ( التنين الصغير )، وقد كان الإرث العريق في مقاومة المحتل ملهماً للشعب الفيتنامي في مقاومته للإحتلال الفرنسي ومن ثم للتدخل الأمريكي. تسلل الفرنسيون إلى البلاد في البداية على شكل بعثات تبشيرية لنشر المسيحية، ولم يكن للأباطرة في بداية الأمر أي إعتراض، طالما أن الفرنسيين يزودونهم بالسلاح بما يكفي لقمع ثورات الفلاحين، ألا أنهم في فترات إستقرار نسبي شعروا أن تحول الناس عن أديانهم ومعتقداتهم سيقوض شرعية الإمبراطور، فالكونفوشيوسية وعبادة الأسلاف وغيرها من المعتقدات السائدة كلها توصي بفروض الطاعة للإمبراطور على إعتباره ولي الأمر الأكبر ، وليس في المسيحية شئ من هذا، ولذا شن الإمبراطور حملة اعتقالات ضد التبشيريين، الأمر الذي وفر للفرنسيين ذريعةً لإرسال حملة تبشيرية مع جيش عسكري، وهكذا بدأ إحتلال البلاد تدريجياً حتى أصبحت فيتنام بكاملها تحت سيطرتهم عام 1885.

من الطبيعي أن أي محتل يرغب بتحويل مستعمراته إلى مصادر لإنتاج الثروة، فماذا وجدت فرنسا في فيتنام، وماذا كان عليها أن تحدث من تغيرات ليكون احتلالها لفيتنام صفقةً مربحة؟. عدم الإستقرار في الريف والثورات المستمرة جعلت نشوء الإقطاعات الكبرى غير ممكن ، فلا أحد يجازف بشراء مساحات كبيرة من الأرض، وإن فعل فمن المستحيل ادارتها ، لذا كانت أراضي القرية مقسمة إلى حصص صغيرة، تزرع فيها كل عائلة محاصيل منوعة بكميات تحقق اكتفائها الذاتي، وتسود القرية علاقات تعاونية، ويحتكم أهلها إلى الأكبر سناً من الشيوخ. بالطبع مثل هذا النمط من الإنتاج لم يكن مناسباً للإنتاج التجاري الذي يتطلب إنتاجاً واسعاً ، فأستخدم الفرنسيون سياسة ضم الأراضي وبيعها على شكل اقطاعات كبيرة لزراعة الرز، كما ادخلت عليها التكنولوجية المتطورة لإنتاج الرز بكميات تجارية لغرض التصدير. وقد نفذت هذه السياسة في الجزء الجنوبي بشكل خاص نظراً لإنبساط اراضيه مقارنة بالشمال الجبلي. وهكذا خسر معظم الفلاحين أراضيهم، منهم من بقي بلا عمل، ومنهم من تحول إلى أجير زراعي. أما في المدينة فقد كان النظام الإداري قائماً على الأسس الصينية القديمة، فرجال المندرين الذين درسوا الكونفوشيوسية واجتازوا امتحانها هم الذين يشغلون الوظائف، وبالطبع لم يكن هذا النظام مناسباً في ظل التطور الصناعي والتجاري، فقد تم أستبدالهم بموظفين فرنسيين في البداية ، إلا أن تشغيل الفرنسي كان مكلفاً، مما دعا الفرنسيين إلى فتح المدارس والجامعات للفيتناميين . خسر رجال المندرين وظائفهم ، كما أن المتعلمين الجدد كانوا أكثر بكثير من الوظائف المتاحة، خاصةً أن المناصب المهمة لا يشغلها ألا الفرنسيون. أما التجارة فقد هيمن عليها الصينيون لخبرتهم العريقة في التجارة، ولوفرة المال لديهم. يبدو أن الفرنسيين قد انتجوا احتياطياً بشرياً كبيراً للثورة ضدهم من الفلاحين والمتعلمين الجدد، ورجال المندرين، أي معظم فئات الشعب. لم تتوقف الإحتجاجات والتمردات المسلحة التي قابلها الفرنسيون بقسوةٍ غير مسبوقة، وقد ظهر في تلك الفترة فان بوي تشاو، وهو من رجال المندرين، وقد فاز بثقة وتأييد الطبقة الوسطى فأسس حركة " إذهب شرقاً " عام 1905, وهي حركة تدعو الفيتناميين إلى السفر إلى اليابان للدراسة وتعلم التكنولوجيا الحديثة ، كي يقودوا بلادهم إلى مصافي الدول المتقدمة ، وبهذا لن يكون للفرنسيين ذريعة باحتلال البلد تحت إدعاء أنهم يحملون رسالة إنسانية، تتمثل في نقل التكنولوجيا وقيم الحضارة الأوروبية. كان فان بوي تشاو يدير حركته من اليابان، إلا أن ضغوط فرنسا أجبرت اليابان على ترحيله إلى الصين ، وهناك أسس حركة " التحديث" التي ركزت كذلك على المطالبة بالتعليم للجميع ، وبالإنتقال السلمي للسلطة إلى الفيتنامين ، وقد لقيت الحركة دعماً كبيراً من حركة الكومنتانغ القومية الصينية بقيادة صن يات صن. كانت الحركة سلمية إلا أن العنف الفرنسي والقمع المستمر لأعضائها اجبرها على العمل المسلح. فاتخذت مواقعها جنوب الصين لمقاومة الإحتلال، إلا أن الحركة لم تؤمن بالثورة الشاملة ،بل بضربات الإستنزاف أو الإنقلاب العسكري الذي جربوه عبر أعضاء الحركة من الضباط الفيتناميين الصغار في الجيش الفرنسي فكان إنقلاباً فاشلاً. تم خطف فان بوي تشاو من قبل عملاء للفرنسيين وحكم بالإعدام ، إلا أن الحكم لم ينفذ لتمتع الرجل بشعبية كبيرة، فوضع تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته. أما طبقه الإقطاع الجديدة فقد شكلت الحزب الدستوري، وهو حزب يدعو إلى بقاء الإستعمار الفرنسي مع فتح الأبواب لدور سياسي وأداري أكبر للفيتنامين ، أي أنهم بالحقيقة يبحثون عن دور أكبر لهم وليس لعموم الشعب. بقي أن نتحدث عن محرك الثورة الرئيسي الذي إستطاع أن يحشد أغلبية الفلاحين وأبناء الطبقة الوسطى ألا وهو الحزب الشيوعي الفيتنامي، وهل يمكن الحديث عن الحزب الشيوعي دون أن نذكر القائد الفذ هوشي منه ورفيقه فو جياب!.
نشأ هوشي منه ضمن عائلة ناشطة ضد الإحتلال الفرنسي، وكان شاباً ذا ثقافة عالية وتجربة غنية في معايشة الفلاحين والإنغماس في معاناتهم وتعليمهم. ومع ذلك لم يشأ أن يشكل رؤياه الفكرية ألا بلقاء العالم وجهاً لوجه، وأغناء تجاربه بالسفر، مما دعاه إلى ترك وظيفته والعمل كمساعد طباخ في السفن الفرنسية. أتاح له ذلك العيش في نيويورك وبوسطن ثم لندن وأخيراً إستقر في باريس مع مجموعه من الناشطين الفيتناميين الاشتراكيين ، وقد عمل صحافيا في الصحف المحلية حيث كرس معظم مقالاته لحق الشعوب في تقرير مصيرها وتحقيق استقلالها. بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى توجه مع مجموعه من الناشطين الفيتناميين والاشتراكيين الفرنسيين إلى مؤتمر فرساي مطالبين بإستقلال فيتنام ، فلم يجدوا إذناً صاغية. ثم توجه إلى أميركا لمقابلة الرئيس ولسن الذي أصدر حينها لائحة الحقوق ذات البنود الأربعة عشر والتي تتضمن حق الشعوب بتقرير المصير، وبالطبع لم يفلح في ذلك، فالرئيس ولسون قد أصدر بيانه بحق الشعوب في تقرير مصيرها لسببين ، الأول : لغرض التنافس أخلاقياً مع لينين الذي تركزت سياسته على دعم الشعوب في نضالها لتحرير بلدانها ، وثانياً : كانت الولايات المتحدة تريد أن تعتق أوربا بعض مستعمراتها وتكسر احتكارها للتجارة معها، لتفتح لأميركا أبواب التجارة والإستثمار فيها ، وكان التركيز على دول أمريكا اللاتينية وليس الفيتنام. لم يكن هوشي منه قد إعتنق الماركسية آنذاك ، وإنما كان متأثراً بسياسات الإتحاد السوفيتي في دعمها للدول النامية وهذا ماشجعه على التوجه إلى موسكو ، فأعجب بالتقدم الصناعي المتسارع الذي انجزته الثورة، إضافةً إلى ما حققته في مجال المساواة والعدالة الإجتماعية . عاد من موسكو ماركسياً بعد أنهاءه دورة دراسية مكثفة في الفلسفة والإقتصاد. ومن الجدير بالذكر أنه قبل وبعد أن أصبح ماركسياً لم يعرف التعصب والإنغلاق الاديولوجي ، بل كان قائداً براجماتياً حر التفكير. محطته التالية ستكون في جنوب الصين حيث أسس في عام 1925 منظمة الشبيبة الثورية الفيتنامية ( الفيت من ) بالتنسيق مع فان بوي تشاو وباقي القادة الوطنيين ، وهي منظمة تعني بتثقيف الشباب وتدريبهم على فنون القتال وحرب العصابات، وقد كانت الحركة القومية الصينية بقيادة تشانغ كاي تشيك الداعم الرئيسي للحركة ( قبل أن ينقلب القوميون الصينيون على الحزب الشيوعي الصيني ).
الأزمة الإقتصادية العالمية في عام 1929 وماتلاها كان لها تأثير كبير في إنخفاض أسعار المنتجات الزراعية مما إنعكس على الفلاحين في فيتنام فهبوا في ثورةٍ عارمة ضد ملاك الأراضي، ليقابلهم الفرنسيون بالعنف والتنكيل . كان موقف الحزب الشيوعي ساعتها محرجاً ، فلم يتهيأ الحزب عسكرياً لمواجهة مباشرة مع الجيش الفرنسي، فعدم التكافؤ يصفه هوشي منه بالقتال بين النمر والفيل ، فإذا وقف النمر مواجهاً الفيل سيسحقه الفيل لضخامة حجمه ، أما إذا هاجم النمر الفيل بصولات سريعة، فتسبب له بالجراح المتكررة سينهك تدريجياً حتى يخر أرضاً ( إشارة إلى حرب العصابات )، ومن جانب أخر فإن عدم إشتراك الحزب وترك الفلاحين يقتلون سيفقد الحزب مصداقيته. قرر الحزب الإشتراك بالثورة وكانت النتائج كارثية إذ قتل آلاف الشيوعيين وأعتقل الآف آخرون، إلا أن شعبيته قد تعاظمت وإكتسب تعاطف وثقة معظم فئات الشعب، مما أتاح للحزب إمكانية تأهيل تنظيماته السياسية والعسكرية بسرعة قياسية وخاصةً بعد التحاق الشاب فو جياب بهوشي منه.
الميزات التي يتمتع بها كل من هو شي منه وفو جياب قد أغنت التجربة الفيتنامية واكسبت الثورة طابعاً مميزاً .فقد كان هو شي منه يتمتع بالحنكة والمرونة السياسية، وكما اسلفت أنه توسم بمؤتمر فرساي أن يدعم إستقلال بلاده، كما حاول لقاء الرئيس الأمريكي ولسن لنفس الغرض، وقد تحالف مع كل القوى الوطنية الفيتنامية، ولم تعترض علاقاته مع الكومنتانغ الصينية أية موانع ايديولوجية ، وبجانب تلك المرونة كان يمتلك من الثبات المبدئي ما يستفز اعدائه ، وكان الشعب يروي الحكايات عن شجاعته بطريقةٍ لا تخلو من المبالغات و الأسطرة، وهو أمر طبيعي لشعب يفخر بقائده. حين توفي والده أصر على العودة إلى فيتنام، فاعتقله الفرنسيون ليعرضوه إلى شتى أنواع التعذيب، وفي إحدى جلسات التعذيب تظاهر أنه فقد الحياة ، وهو يعلم أن جثث الموتى ترمى بعيداً في أكياس بلاستيك، وكان قد حدث ماتوقع تماماً، فمزق الكيس واستطاع الهرب والعودة إلى جنوب الصين. أما فو جياب فقد كان قد بدأ نشاطه في حزب ( فيتنام الجديدة ) وهو في الرابعة عشرة من عمره ، وسجن في التاسعة عشرة من عمره بتهمة تنظيم الإضرابات ألطلابية ، فقضى في السجن ثلاثة عشر شهراً ، بعدها أكمل دراسة القانون في جامعة هانوي، ألا أنه كان مولعاً بالتأريخ وخاصة العسكري منه فأختار أن يكون مدرساً للتأريخ. تشاء الأقدار أن يلتقي في الجامعة مع شخصية سيكون لها شأن أيضاً في تأريخ فيتنام ، الا وهو )نغو دييم( وهو قومي يميني يقضي جياب -الإشتراكي الفابي آنذاك- معه ليال طوال في مناظرات ونقاشات لم تحسم ، ويبدو أنها لم تحسم ألا عسكرياً،حين يصبح جياب في المستقبل المخطط الستراتيجي العسكري للثورة و يصبح )نغو دييم ( عدو الثورة الأول كرئيس معين من قبل أميركا لفيتنام الجنوبية. المفارقة الثانية أن دييم هذا قد ألقي القبض عليه مرةً من قبل الثوار لتعاونه مع الفرنسيين في ملاحقة الشيوعيين، وأرسل إلى هو شي منه الذي ناظره لساعات، ثم عرض عليه الإنضمام إلى الثورة ضد الإحتلال الفرنسي مؤكداً له ( لتتخذ قرارك بحرية ولتعلم أنك حر طليق مهما كان قرارك ) فرفض العرض وأطلق هو شي منه سراحه، وسافر بعدها إلى أميركا ليستقر هناك حتى يحين دوره.
أرسل جياب من قبل الحزب الشيوعي إلى جنوب الصين، ليلتقي لأول مرة بهو شي منه ، ومن هنا تبدأ رفقتهما النضالية الطويلة، والتي يكشف خلالها جياب لا عن ثقافة سياسية عالية فحسب، بل عن قدرات كبيره في التخطيط العسكري، فرغم أنه لم يدرس العلوم العسكرية اكاديمياً ، إلا أنه كان موسوعياً في هذا المجال حتى قيل أنه كان يحفظ خطط نابليون عن ظهر قلب، وقد أثبت مواهبه في التخطيط الستراتيجي في حرب العصابات مع اليابانيين والفرنسيين ومن ثم الأميركان ، حتى صار الغرب يلقبه بنابليون الأحمر.
احتلت اليابان فيتنام عام ١٩٤٠، فكلف جياب بتنظيم ميليشيا من المتطوعين لمقاومة الإحتلال الجديد، وقد إستطاع تعبئة أعداد كبيرة من المقاتلين وخاصةً من الفلاحين. وقد لقيت المقاومة دعماً كبيراً ليس من الصين والإتحاد السوفيتي فقط ، بل من قبل كل دول التحالف. استمرت المقاومة حتى سقوط الإمبراطورية اليابانية أثر قصفها بالقنابل النووية من قبل الولايات المتحدة ، فانسحب الجيش الياباني وسارع هوشي منه بقواته إلى هانوي ليعلن إستقلال بلاده وإنتصار الثورة، وقد كان البيان الذي ألقاه يتضمن اقتباسات حرفية من إعلان إستقلال أميركا الذي صاغة )جفرسون (، وكأنه أراد تذكير الإدارة الأمريكية بالقيم التي قامت على اساسها جمهوريتهم، والتي لم يكفوا عن ترديدها والتفاخر بها، متوسماً بهم دعم إستقلال بلاده. إلا أن الفرنسيين قد عادوا بجيوشهم لتبدأ حرب الهندالصينيىة الأولى بين الثوار الفيتناميين من جانب، والفرنسيين وقوات الإمبراطور )باو داي( في الجانب الآخر. في المرحلة الأولى من الحرب كانت القوات الفرنسية متمركزة في المدن الكبرى، وبفعل الضربات الموجعة لها من قبل الثوار، فكر الفرنسيون بالإنتشار في القرى بقصد وأد المقاومة في منابعها وبؤر انطلاقاتها، وقد كانت النتائج عكسية تماماً بحكم شعبية الثوار وتعاضد الفلاحين معهم، والذين كانوا يزودونهم بكل حركات وسكنات القوات الفرنسية. لقد كانت معركة )ديين بيين فو ( عام ١٩٥٤ هي المعركة الحاسمة التي فقد فيها الفرنسيون أي أمل في إستمرار احتلالهم لفيتنام ليجنحوا بعدها إلى المفاوضات، ففي تلك المدينة الواقعة في وادٍ عميق بين الجبال انشأ الفرنسيون قاعدةً عسكرية كبيرة، استجلبوا إليها عشرات الآلاف من العسكريين، وجهزوها بأضخم المعدات. حسب خطة فو جياب حفر الثوار انفاقاً بين الجبال، نقلوا عبرها معداتهم ومنها الثقيل نسبياً كمضادات الطائرات، وزحفوا سراً على سفوح الجبال، حتى حاصروا القاعدة ، وقد إختار جياب موسم العواصف ورياح المونسون، والتي يصعب فيها تحليق الهليكوبترات ، وهكذا حوصر الفرنسيون دون سبل للإمدادات ودون حماية جوية، فقتل في المعركة ما يقارب ١٥٠٠٠ عسكري فرنسي قبل استسلامهم . وصف المؤرخ العسكري )مارتن وندرو (تلك المعركة قائلاً " لأول مرة بتأريخ حركات التحرر أن تتطور حركة من مستوى حرب العصابات إلى مستوى أداء الجيوش النظامية بالغة التنظيم". بعد تلك المعركة عقد مؤتمر جنيف بحضور ممثل عن الحزب الشيوعي الفيتنامي وفرنسا والإتحاد السوفيتي والصين وبريطانيا والولايات المتحدة. أصر الثوار على إستقلال فيتنام كاملةً بتأييد الإتحاد السوفيتي والصين بينما أصر الغرب وأميركا على إنسحاب الثوار أولاً من المناطق المحررة وأجراء إنتخابات. عرض ممثل الصين )شو إن لآي( حلاً وسطاً بتقسيم فيتنام إلى شمالية يحتفظ بها الشيوعيون ، وجنوبية يحكمها الأمبراطور إلى حين الإنتخابات. إنتهى المؤتمر بالإتفاق على عرض الصين ولم توقع أميركا لإصرارها بعدم السماح ببقاء الحزب الشيوعي في الحكم ، كما أن هو شي منه كان غاضباً من أقتراح الصين ، ألا أن شو إن لآي برر ذلك بأن الكفاح يكون على مراحل ومازال أمام الثوار خيار ألإستمرار بالقتال حتى تحقيق الوحدة والإستقلال الكامل ، وهنا قال هو شي منه قولته الشهيرة " يبدو أن الصينين مستعدون للقتال حتى آخر فيتنامي ".
على أعقاب المؤتمر شب الخلاف بين الفرنسيين الذين ارادوا أن يحكم فيتنام الجنوبية الإمبراطور )باو داي( وبين الأميركان الذين يفضلون )دييم( الذي ذكرناه سابقاً، وقد حسم الخلاف بإجراء إستفتاء شعبي بينهما. إقترح الكولونيل جوزيف لاندسيل أن تكون للإستفتاء بطاقة حمراء تمثل )دييم( وأخرى خضراء تمثل الإمبراطور، فاللون الأحمر حسب المعتقدات الفيتنامية مجلبة للخير، بينما الأخضر نذير شؤم ،وهكذا يأمل الأميركان أن الفيتناميين سيختارون )دييم(. على أية حال فقد أجبر الناخبين على وضع البطاقات الحمراء حسب آلاف الشهادات ، وكانت النتيجة أشبه بإستفتاءات الحكام العرب ٩٨٫٣% لصالح المرشح الأمريكي دييم ، وقد نصحه الأميركان بإعلان النسبة ٧٣% لتكون قابلة للتصديق، إلا أنه أصر على إعلان نسبته ليفتح أبواب السخرية منه في العالم.
تميز عهد دييم بعزلة السلطة عن الشعب إذ لم يتمتع بأي دعم شعبي عدا مؤازرة اليمين والإقطاع له. ويعود ذلك إلى الأسباب التالية:
1. المسألة الزراعية : حين أعلن هو شي منه إستقلال فيتنام الشمالية عام ١٩٤٥ كان الإصلاح الزراعي أول خطواته، فأسس التعاونيات الحكومية على الطريقة السوفيتية في البداية، إلا أن ذلك قد أثار الفلاحين الصغار الذين فقدوا ارضهم ، مما دعاه إلى أعادة أراضي الفلاحين الصغار وأعادة نظام القرية الفيتمامية القديم الذي تحدثنا عنه في الحلقة الأولى، وحول الإقطاعات الكبرى فقط إلى تعاونيات حكومية. كتب لهذا المشروع النجاح ، فطبقه في المناطق التي حررها الثوار في فيتنام الجنوبية أيام الحرب مع الفرنسيين ، إلا أن دييم عندما حكم الجنوب ألغى الإصلاح الزراعي وأعاد الملكية للإقطاعيين مما جعل الفلاحين يفقدون أراضيهم.
2. المسألة الإجتماعية: في حربه ضد الفيتكونغ عمل دييم بسياسة تهجير الفلاحين من قراهم إلى قرى أخرى، أملاً بقطع صلاتهم بالشيوعيين في المناطق المجاورة، وقدسور القرى ووضع الحراسات العسكرية لمنع دخول عناصر غريبة إليها، وبهذا أصبح الفلاح لا يشعر بغربته في قرية غير قريته فحسب ، بل يشعر بانه أصبح سجيناً داخلها. وأذا ما علمنا قدسية العلاقة بين الفيتنامي وقريته ، ندرك مدى الإنعكاسات النفسية والإجتماعية الناتجة عن تلك السياسات.
3. المسألة السياسية : كان )دييم( دكتاتوراً متهوراً فهو لم يكتف بإعتقال وقتل الشيوعيين فقط بل كل من يهمس بإنتقادٍ لحكمه وإن كان بسيطاً . كما أنه ألغى الإنتخابات التي تم الإتفاق عليها في مؤتمر جنيف. ومن الجدير بالذكر أن دييم كان يعيش متنعماً في اميركا عندما كان الثوار يقاتلون الفرنسيين لثمان سنوات، وهذا ما لم يكسبه أي شعبية ، كما أن التدخل الأمريكي الكبير والمتزايد لتثبيت حكمه يجعل عزلته عن الشعب أشد على إعتباره ذنباً أستعمارياً.
4. المسألة الدينية : كان الكاثوليك يستأثرون باغلبية المناصب، والكنيسة هي المالك الأكبر للاقطاعات ، بينما لا يشكل الكاثوليك حسب إحصاء ١٩٦٠ أكثر من 10%. وقد كان لإنتحار مجموعة من رجال الدين البوذيين حرقاً في شارع بسايجون صدًى مدوياً ليس في فيتنام فحسب بل في العالم.
عزلة دييم وعدم شعبيته اكسبت الثوار قوةً ووفرت لهم دعماً شعبياً كبيراً، فلم يستطع الأميركان حماية حكمه حتى وصل تعداد قواتهم ٤٥٠٠٠٠ عسكري أميركي. وفي عام ١٩٦٣ شعرت الإدارة الأمريكية أن دييم آيل للسقوط ولا سبيل لحمايته وأنهم استدرجوا إلى مستنقع حقيقي، فبادرت المخابرات المركزية الأمريكية بتدبير إنقلاب ضده،خطف فيه وقتل. توالت بعده حكومات عسكرية لم تكن أفضل حالاً، حتى قرر الأميركان بفعل ضربات الثوار وأزدياد احتجاجات الشعب الأمريكي أن تسحب قواتها تدريجياً والدخول في مفاوضات سرية في باريس مع حكومة هانوي تحققت بعدها الوحدة في ١٩٧٥. مما يؤسف له أن هو شي منه لم يشهد هذا الإنتصار فقد توفي عام ١٩٦٩.