المنبرالحر

هل نجحت الدولة العراقية الحديثة في تحقيق الوحدة الوطنية؟ (1-2) / د.عبد العظيم جبر حافظ

ان المجتمع العراقي واحد من المجتمعات التي تتسم بالتعدد والتنوع (القومي والديني والمذهبي والاثني واللغوي)، والمشكلة التي يتصف بها المجتمع العراقي فضلاً عن ملامسته لقيم الثقافة في العصر الحديث، لكنه ظل يحمل الكثير من ترسبات (البداوة) والعصبية، فضلا عن طبيعة الانظمة السياسية التي لم تدرك هذا التعدد وتنوعه وتحولاته ومواكبته عن عمق، ولم تدر اختلافاته بشكل عقلاني وموضوعي (وقد يكون هناك قصد)! كيف؟ لأن تشكل الدولة العراقية الحديثة لم يات وفقاً لظروفها الذاتية والموضوعية الداخلية، بل بشروط خارجية املتها الإرادة الخارجية (المملكة المتحدة) مع مساعدة الإرادة السابقة (الداخلية) والتي كانت في اغل?ها مرتبطة (بالعهد العثماني) والتي استمرت في نهجها التمييزي ما بين الانتماءات الاجتماعية والدينية والمذهبية والعرقية والإثنية(1).
وسيادة مجموعة من العسكريين والمدنيين وبعض الشخصيات المرتبطة بالإدارة العثمانية سابقا، وتعاونت مع الاحتلال البريطاني بعد ذلك. ولم تعر اهتماما ذا بال إلى شريحة واسعة من الشعب العراقي للمشاركة في الإدارة والحكم.
يمكن القول، ان أول بادرة خلقت فجوة كبيرة بين الدولة العراقية والشعب في العصر الحديث، كانت تنصيب (فيصل) ملكا على العراق.!! والسؤال الذي يثار هنا، هل ان العراق كان عاجزا عن ايجاد (رئيس أو ملك) من العراق لحكمه؟ لاسيما وان هناك عددا من الشخصيات الوطنية العراقية طرحت نفسها للترشيح أو ان هناك من الشخصيات العراقية التي من الممكن ان تصبح حاكمة على العراق، لكن الإرادة الخارجية مع الإرادة الداخلية (الضيقة) وقفت في وجه ترشيح (عراقي) لرئاسة العراق، ويعد ذلك أول افتراق في تأسيس الدولة والمجتمع*.
وامتازت الحقبة الملكية من تاريخ العراق السياسي الحديث، بميل شديد إلى عد (السياسة) وسيلة لتاديب الشعب وضمان امتثاله لرؤية النظام السياسي (قمع حركات الفرات الاوسط، قمع قبائل الجنوب، الاشوريين) بدلا من ان تكون السياسة أداة لاحتواء واستيعاب التعددية والتنوع، فكان (فيصل) ميالا إلى (المركزية) لاعتقاده بانها السبيل إلى وحدة المجتمع والدولة. وتبرز هنا، ثلاثة عوامل مترابطة تشير إلى ميادين مختلفة للعمل السياسي والاجتماعي في العهد الملكي، يتمثل العامل الأول: في النظام الوراثي: مع كل ما يشتمل عليه في تنظيم السلطة، وفي?العلاقة بين البنى الاجتماعية والدولة، فقد كان لشبكات الاسياد وازلام السلطة دور حاسم في التاريخ السياسي للدولة، بدءا من الاشخاص الذين تعاونوا مع (النظام الملكي)، وانتهاء بالجماعات المتحلقة حوله، واقترنت هذه العملية بصعود السياسات القبلية.. فشكل النظام الوراثي طريقة لضمان التماسك، نظرا لكون الاشخاص المنتمين إلى هوية الحاكم أو المعتمدين عليه إلى حد كبير سوف يشاركون مصيره، وهذا ما يفسر سبب بذل مجهود كبير للحفاظ على تلك الرابطة، كما يسهم في اثبات ان سياسة الهوية لا ترتكز على أسس معيارية، بل هي متاصلة في فرص حيا?ية (براغماتية). اما العامل الثاني: تمثل في الاقتصاد السياسي في العراق، حيث تعاظمت أهمية العائدات النفطية التي وضعت نفوذا ماليا وغير مسبوق بايدي القائمين على الدولة في ذلك الوقت... بما عززت اشكالا في النظم الوراثية التي ضمنت اعتماد الأقلية في الحكم. والعامل الثالث: وهو يرتبط بالعاملين السابقين، ويكمن في الدور الذي أداهُ العنف في تاريخ العراق السياسي، فالنظام السياسي تحدى القيم والمصالح واستخدام القوة والقمع والاكراه، ومن ثم فان السيطرة على وسائل العنف كانت إحدى الاغراءات التي استمالت من وضعوا أيديهم على جها? الدولة العراقية(2).
وشكل العنف جزءاً مهماً من تاريخ العراق السياسي، وعلى الرغم من ان طبيعة النظام السياسي العراقي (الملكي) كان ديمقراطيا وبرلمانيا (بحسب القانون الأساس لعام 1925) لكنه كان ديمقراطيا وبرلمانياً شكلا وليس مضمونا. فان سمة البنية السياسية والمجتمعية كانت - طائفية- وعشائرية- وهي بذلك تتقاطع مع فكرة الديمقراطية، ولان النخبة الحاكمة كانت (الأقلية) والتي حاولت الاهتداء إلى مشروع وطني بغية تهدئة الأوضاع، لكن العوامل العرقية والطائفية كانت من المحددات الرئيسة لذلك التوجه، مما خلق أوضاع التذمر والفرقة بين الحكم والشعب*. وهذا ما يفسر صعود الأفكار الراديكالية لاسيما في جنوب العراق (الشيوعية، الإسلامية، القومية) بسبب التخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والاستبداد السياسي الذي رزح تحته العراقيون، الأمر الذي أدى إلى ضعف روح المواطنة، وضعف في مفهوم الوعي بالدولة، والتباس الهوية، مما أنتج من ثم صراعات سياسية/ ايديولوجية شهدت آثارها في الحكومات الجمهورية المتعاقبة (1958-2003).
نعود إلى القول، حتى بداية القرن العشرين، لم يكن العراق (موحدا) في (دولة عراقية) لها وحدة سياسية نظرا للتعدد والتنوع في مجتمعه، ولم يدفعهم وعيهم الاجتماعي والسياسي إلى تشكيل (أمة/ دولة)، تستقطب مشاعرهم وانتماءاتهم وولاءاتهم وتوحدهم في هوية وطنية واحدة، وهو ما أدى إلى نمو روح (المحلية) القوية في المدن والريف وحماية نفسها، وكقاعدة عامة كان سكان (المحلة) في المدن يعيشون في عالم خاص بهم، فلم يكن عندهم وعي وفهم حقيقين لمفهوم (الدولة/ الوطن/ الهوية)، وأوضح مثال على قوة (العقلية المحلية)، واستمرار روح العصبية القب?ية فيها، هو (اعلان دستور محلة "البراق" في النجف واستقلالها عن الحكم التركي علم 1915) الذي يمثل حالة تاريخية في منتهى الدلالة على حالة التعدد والتنوع والتجزؤ الحضاري الذي كانت تعيشه الجماعات المحلية، كما يعكس التكوين المجتمعي العراقي للمدن العراقية(3). واعلان عريضة (الفيدرالية) للبصرة عام 1921 (كما مر في الفصل الأول)، بمعنى ان العراقيين لم يعرفوا معنى الدولة الحديثة كما ظهرت في اوربا في العصر الحديث، أي دولة تقوم على تفاعل وتلاحم شرائح المجتمع عبر مؤسسات المجتمع المدني، وحق التعبير الحر واحترام الآخر المختل?، وفي الوقت ذاته خلق آلية التفاعل بين الدولة وأفراد المجتمع المدني.
وعندما دعي (فيصل) ليكون ملكا على العراق، كانت مرجعيات الخلاص التي سادت آنذاك، تتمثل في (نظرية الحاكم العادل) التي قامت على أساس (العقل السني)، وانتظار الإمام الغائب في (العقل الشيعي). فالى أي مدى كان فيصل يدرك اهمية العمل لبناء دولة ومجتمع. يبدو انه عجز عن ذلك، (ما عدا تأسيسها النظام الإداري بمساعدة الإدارة البريطانية) لتامين مصالحها. والدليل على ذلك (المذكرة) التي قدمها إلى الحكومة العراقية في 15/ اذار/ 1932 قبل وفاته بوقت قصير، والتي دعا فيها إلى اقامة روابط ثابتة من المشاعر المشتركة بين العناصر المختلفة?في محاولة تشكيل (شعب عراقي). وبعيدا عن الخوض في تفاصيل هذه المذكرة فانها تعد أول محاولة لكشف المشكلات الاجتماعية والسياسية والدينية والمذهبية/ الطائفية. ويمكن القول ان دعواته أو نداءاته للحكومة (فيصل) باشراك (الأغلبية) (الشيعة) في الدولة، وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى (الكورد) قد جاء متاخرا جدا. لماذا؟؟
أولا: لانه من غير الممكن ان يعي هذه المشكلة الخطيرة بعد (12) عاما، والمشكلة كانت ماثلة للعيان.
ثانيا: انه كان جزءا من المخطط البريطاني بابعاد (الأغلبية) من الحكم وتاييدا من - الأقلية- ولان الانكليز رأوا ان - الشيعة- هم الخصم العنيد لبريطانيا، فقرروا حرمانهم من الاشتراك بالسلطة.
ثالثا: اما عن ما قيل بان - الأغلبية- الشيعة لم يكونوا مؤهلين أو لم يحملوا مؤهلات دراسية وعلمية وفنية في إدارة الدولة، فتلك أسباب واهية وشاذة، خلقتها الإدارة البريطانية- والمتعاونون معهم من الطبقة الحاكمة، وكأنه لا يعرف والانكليز كذلك، بان المراكز العلمية والحوزات تزدهر بالعلم والمعرفة والثقافة منذ عقود طويلة، وتخرج فيها الأعداد الكبيرة من العلماء والأدباء والمؤرخين.
رابعا: برزت اولى مظاهر الاستحواذ على السلطة في أول تشكيلة وزارية برئاسة (عبد الرحمن النقيب) عام 1921، والتي ضمت (9 وزراء) (سبعة سنة وواحد يهودي، وواحد شيعي) وشمل التمييز أغلب الوظائف الحكومية (القضاء، التعليم، الشرطة، الجيش)، وفي مجلس النواب حيث كان يجري ترشيح نواب من محافظات وطوائف لمحافظات الوسط والجنوب، فطيلة العهد الملكي لم يشغل سوى (5) رجال شيعة مناصب رسمية لمدة أقل من (3) سنوات. وكذلك الأمر بالنسبة للعهد الجمهوري (1958-2003) فقد شغل - رئاسة الوزراء- ثلاثة (شيعة) فقط، (ناجي طالب لمدة عشرة اشهر) في عهد?عبد الرحمن عارف والثاني (سعدون حمادي) من حزب البعث لمدة ستة اشهر بعد انتفاضة اذار/ 1991، وبعدها (محمد حمزة) لمدة قليلة من الزمن كإجراء شكلي.
خامسا: ان أول وضوح (لافتراق طائفي/ مذهبي، حصل في الدولة العراقية الحديثة، ما جاء في المذكرة، من ان (العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سُنّية). وهذا اعتراف واضح وصريح (وان كان - يحمل مظهر- الوصف) بان هناك تمايزا واضحا بين أفراد الشعب العراقي، أي ان الأقلية هي التي تهيمن على جميع مناصب الدولة، من جهة، واعتراف (بالأغلبية) من جهة أُخرى.
سادسا: لما كان (الملك) راعي الدولة العراقية، لزاما عليه ان يعمل بالمساواة، فلماذا لم يخف هواجسه من (الشيعة والكورد)، بانهم خصوم سياسيون؟ اذن هناك مشكلة تتعلق بحقوقهم وحرياتهم، وعدم تكافؤهم مع الآخرين، وَلَما لمْ يجد علاجا قبل هذا الوقت؟ بل هو عالجه بالقمع والقتال!
سابعا: وعلى الرغم من ذلك، فإن (فيصل) عندما عرض (مذكرته) على شخصيات سياسية حكومية لمعرفة الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وايجاد سبل لمعالجته، لم يطرح المشروع (المذكرة) للنقاش في البرلمان ولا في مجلس الوزراء، ولا في وسائل الاعلام، بل وحتى الردود القليلة جدا كانت مجرد امنيات واعتراف بالواقع، بل والأكثر من ذلك (رفض جعفر العسكري) تأسيس مدرسة لاعداد الموظفين تخرج طلابا مؤهلين لتولي وظائف في اجهزة الحكومة، ولما كان الانتساب إلى المدرسة المذكورة سيجري على أساس النسبة السكانية لكل محافظة، فانه سيترجم عمليا بقبو? (65%) من الأغلبية و(2%) من الاقليات الأُخرى، وهذا مالا يمكن ان يتصوره (العسكري) وغيره، مدعيا الأنسب والأفضل ان تجعل الحكومة نفسها فوق القومية والطائفية، وان تترك مسألة التوظيف إلى الكفاءة الشخصية، بمعنى بقاء وحصر الوظائف للمحاباة والانتماء الطائفي، وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى قبول الطلاب في الكليات العسكرية(4). فضلا عن إفشال تجربة اول جامعة عراقية (جامعة آل البيت) التي تأسست عام 1924، وانتهت الدراسة فيها عام 1930، التي لم ترضِ أطراف داخلية وخارجية، غير ان اسمها اقترن (بال البيت)(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) للمزيد ينظر: تشارلز تريب: صفحات من تاريخ العراق المعاصر، المصدر السابق، ص32-38. وأيضا: فيليب ويلارد ايرلاند: العراق لدراسة في تطوره السياسي، المصدر السابق، ص46 وما بعدها. وأيضا: غسان العطية: نشاة الدولة؛ المصدر السابق، ص257-278. وأيضا: البرت م. منتشاشيفلي: العراق في سنوات الانتداب البريطاني، ت/ د. هاشم صالح التكريتي، مطبعة جامعة بغداد، 1978، ص175-194.
* من المفهوم والمشاع ان اختيار النظام الملكي كان استجابة لمطلب الاستفتاء الشعبي في العراق، والحقيقة كانت هناك مطالبة بالنظام الجمهوري في اوساط المثقفين ظهرت في أواخر سنة 1914، وقبل بدء الحملة البريطانية، وكذلك أيضا الوسط العشائري في بعض المحافظات والمناطق (النجف، ابو صخير، الشامية)، ومقالات في الصحافة وسياسيين عراقيين، لكنها تراجعت أمام الإرادة البريطانية، نقلا عن: جاسم المطير: الجدل مستمر حول الديمقراطية منذ 3000 سنة، دار امل الجديدة، ط1، دمشق، 2013، ص127-132.
(2) للمزيد ينظر، محمد زكي ابراهيم: الديمقراطية الغائبة (مئة عام من تاريخ العراق المعاصر)، دار الرافدين، ط1، لبنان، 2002، ص5، وأيضا: تشارلز تريب: صفحات، مصدر سبق ذكره، ص36-37. وأيضا: د. عبد الوهاب حميد رشيد: التحول الديمقراطي في العراق، المصدر السابق، ص143-147. وأيضا: ستيفن لونكريك وفرانك ستوكس: العراق منذ فجر التاريخ حتى ثورة تموز 1985. ت/ مصطفى نعمان أحمد، مؤسسة مصر مرتضى للكتاب العراقي، ط1، بغداد، 2009، ص81-112. وأيضا: حنا بطاطو: العراق (الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العهد العثماني حتى قيام الجم?ورية، ت/ عفيف الرزاز، الكتاب الأول، المصدر السابق، ص29-55.
* حول الطائفية في العراق، ينظر، يسار صالح: العراقيون والدولة المذهبية، دار الحكمة، لندن. د.ت.
(3) ينظر، ابراهيم الحيدري: الشخصية العراقية، ج1، (البحث عن الهوية)، دار التنوير، للطباعة والنشر، ط1، بيروت، 2013، ص198.
(4) للمزيد ينظر، د. صلاح عبد الرزاق: مشاريع ازالة التمييز الطائفي في العراق من مذكرة فيصل إلى مجلس الحكم (1932-2003) منتدى المعارف، ط2، بيروت، 2012، ص15-36 وأيضا: عبد الكريم الأرزي: مشكلة الحكم في العراق من فيصل إلى صدام، د. ت، ص1، وأيضا: جعفر العسكري: مذكرات، تحقيق: نجدة فتحي صفوت، دار السلام، لندن، 1988، ص191-199. و: توفيق السويدي: وجوه عراقية عبر التاريخ، دار رياض الريس، لندن، 1987، ص24.
(5) للمزيد ينظر، سيار الجميل: جامعة آل البيت في العراق (1924-1930)، مشروع تأسيس جامعة عراقية إسلامية اجتهادية (المصداقية والفشل)، دار ضفاف، دمشق، 2012.