المنبرالحر

ش. ك. ع.. / ريسان الخزعلي

في العام 1959، كنت قد أكملت الصف الاول البتدائي في مدرسة طي الريفية - قرية الهّدام التابعة لناحية الميمونة في لواء العمارة يومذاك. ومدرسة طي الريفية، تم تأسيسها عام 1939، وتخرج فيها الكثير من الذين تفوقوا لاحقاً في الحياة، وعلى مستويات عدة: أدبية، فنية، ووظيفية، نتيجة الجهود التعليمية المخلصة، التي كان يبذلها معلمو تلك السنوات. ولا أبالغ حين اقول: أني تعلمت القراءة والكتابة بعد اكمال الصف الأول  بسرعة، لاحظها عليَّ المعلمون والاهل والمعارف والتلاميذ من أقراني، وقد تقدمت على كثير ممن كانوا اكبر مني سناً في الصفوف الأخرى.
في تلك السنوات، كانت الرسائل (المكاتيب) تمثل وسيلة اتصال مهمة متبادلة بين أهل القرية وذويهم في المدن (صباح الخير اذا كان صباحا، ومساء الخير اذا كان مساءً، لا يهمنا سوى ألم فراقكم، واعتدال أوقاتكم... الخ)، كما ان تلك الرسائل كانت التواصل الروحي المستمر بين الجنود الذاهبين او المأخوذين الى الخدمة العسكرية الاجبارية وأهليهم، وكان انقطاعها يترك حزنا وقلقاً لا يوصفان.
في رسائل الجنود، كنت   أُلاحظ بدهشة، رسومات  قلوب يقطر منها الدم، أو مخترقة بسهام، ثقوب سجائر سود، أبيات من الشعر الشعبي (أحبابي إشلون حالتكم بعدنه، إشبدينه والوكت عنكم بعدنه، إنچان انتم نسيتونه بعدنه، إبذچركم كل صباح إو كل مسيّه)، وهي طرائف تعبيرية بسيطة صادقة، تُعبرّ عن اللوعة والاشتياق، تتناسب مع مدركات الناس القرويين الطيبين، في تلك الأيام. وان الذي كان يدهشني أيضاً، وأنا أقرأ تلك الرسائل بطريقة القاء النشيد المدرسي، بكاء الآباء والأمهات خلال قراءتي لها. ومن انشاءات الرسائل تلك، تعلمت ان أعدَّ رسائل جوابية مماثلة، وتعلمت رسم القلوب ووضع ترصيعات حروف السجائر، وكتابة  اشياء أحسبها شعراً، وهي ليست من الشعر بشيء.  وكنت لا أقرأها لاصحابها عد اكمال الصيغة النهائية تحسباً من غموضها عليهم. هذا المناخ التراسلي، كما ادركت لاحقاً، ربما كان من اسباب تشكيل ولعي الشعري وتجاربي في الكتابة.
بعد ان (شاع صيتي!) في كتابة وقراءة الرسائل، لاحظت ان فلاحاً كان ينفرد بي احياناً، او يطلبني من  والدي ان اذهب معه الى بيته كي اقرأ بعض الرسائل (المهمة). في رسائل الفلاح كنت اقرأ اشياءً واشياء جديدة وغريبة على ما اعتدته في رسائل الجنود، فلا قلوب مثقوبة، ولا حروقاً ولا اشواق، ولا (شكراً) لقارىء الرسالة، ولا ظروفاً، ولا طوابع بريدية، ولا جهات ارسال، وانما عبارات غامضة لم افهمها اطلاقا، والغريب انه كان ينصت   بطريقة تثير دهشتي الطفولية، وتخيفني احيانا.  وبعد اكمال القراءة يقبلني ويدسُّ في يدي اشياء تُفرح طفلا مثلي، كي يطفىء فضولي، حين اسأله،   ماذا تعني هذه الحروف التي اخذت مكان المرسل (ش. ك. ع)؟ ومع ذلك لم يتوقف إلحاحي في معرفة سر هذه الحروف الرموز، لكنه كان يدارى هذا الإلحاح قائلاً بأنها اسم المرسل (شاكر كامل عليوي) مثلاً، وهكذا كلما طلب مني قراءة رسالة لاحقة، اسأله، هل أنها من شاكر..؟ فيضحك، واعرف انها منه فعلاً، لكن استغرابي بقي مستمراً عن سبب عدم ذكر عبارة ابنكم المخلص شاكر كما هو معتاد في اختتام رسائل الجنود.
دارت السنوات، وأدركني شيء من الوعي، كما أدركت بعضاً منه مبكراً، واصبح ذلك الفلاح متعلماً يفوقني، ورمزاً نضالياً في القرية. وقد همس لي ذات يوم، بعد عقدين من الزمان وبمصادفة جميلة، ضاحكاً وبالعراقية الجنوبية طبعاً:
ها! هسه عَرفت (ش. ك. ع) لو بعدك!؟ تره الشين: شوعيه، والكاف: كلها، والعين: اعماره..!