المنبرالحر

القناعة .. ومدينتي / سعاد الكناني

هذه مدينتي طفولتي وصباي ومدرستي بساحاتها وباصاتها ومقاهيها واسواقها وشوارعها التي مررنا بها مئات المرات لم يكن يعكر مزاجنا شيء برفقة نهر دجلة واهب الخلد للزمان ونحن ننتشي به ونتابع نوارسه وزوارق الصيادين تتراقص بين ضفتيه .
كنا صغارا، نشتري قطع الحلوى (الجكليت) بتلهف للتسابق في قراءة الورقة التي تلف بها، والتي كنا نسميها ورقة الحظ.
كنا نضجر وكأن مستقبلنا صار في مهب الريح عندما لا نجد هذه الورقة.. «القناعة كنزُ لا يفنى» اكثر العبارات التي كنا نقرأها، لم نكن نعي معنى القناعة.
كبرنا قليلاً، اصبحت هذه العبارة موضوعاً أنشائياً يتكرر دائماً.
في احد بيوتات الكرخ كانت تسكن امرأة فقيرة مع اولادها الثلاثة. كان وضع بيتهم يستوقفنا نحن الصغار: حصيرة على الارض، ومسامير مثبتة في الجدار لتعليق الملابس. كنا نأسف ونتأثر بوجع طفولي لوضعهم. قالت لي امي عن جارتنا انها امرأة عزيزة النفس و»قنوعة.»
لم تعلن يوماً احتياجها، رغم كفاف عيشها. كانت تردد: حالنا افضل من حال غيرنا.
تذكرت هذه المرأة: وتذكرت ايام الحصار. كانت اياما قاسية وعصيبة على اكثر الناس. كم كان الجوع مرعبا، وكم كان الناس عاجزين عن فعل اي شيء. باع الكثيرون ممتلكاتهم وملابسهم ومقتنياتهم من اجل ديمومة الحياة لا غير.
كم من المواقف المؤلمة شهدنا في تلك الفترة. اتذكر احدهم في محل عملي اغمي عليه ذات يوم لان فطوره الصباحي ولسنوات كان يقتصر على الخبز والشاي، وفقط يوم الراتب يأتي بصرّة فيها قطعة خيار او جبن مع الخبز ..
كان الحصار يفوق احتمالنا، وكان الاعلام يسعى لتضليل الناس والشد من عزيمتهم ببرامج مملة منفرة. اذكر احد الزملاء في العمل جاء متذمراً ذات يوم لان زوجته استخدمت كمية السكر، باعتبارها اماً مدبرة ، وصنعت منه مع نخالة الطحين حلوى للاولاد. سألناه عن مذاق الحلوى... قال (خشب حلو) او (تخته مشكره )، ضحك الجميع.. و»شر البلية ما يضحك» كما قالت لنا ورقة جكليت ذات يوم.
اليوم اتساءل: اين القناعة لدى البعض؟ هل غابت مع غياب اوراق الحظ، ام ان هؤلاء كانوا يخدعوننا بالحديث عن القناعة كي يبقى صبر العراق صبرك ياجمل، وهم يتقاسمون ثرواته؟.
هؤلاء الشرهون لم تعد تكفيهم الرواتب العصية على الفهم بارقامها الفلكية.. والمليارات التي تدخل جيوبهم بدون حق تتحول الى ترليونات وعقارات في بنوك ودول خارجية.. صاروا كما نار جهنم كلما رميت فيها صاحت هل من مزيد ؟!
اموال نازحين، وميزانية ناس، تسرق في وضح النهار ووفق القانون! كان الله في عون العراقيين المغلوبين على امرهم. وعسى ان ترفع الغمة عن عيون المخدوعين بولاتهم.