المنبرالحر

تحقيق القضاء أم تحقيق النيابة؟ / زهير كاظم عبود

في العديد من الندوات القانونية يتساءل المهتمون بالقضايا القانونية والمتابعون عن الفرق بين النظام القضائي الذي تعتمده الشقيقة جمهورية مصر العربية على سبيل المثال لاالحصر وبين النظام القضائي العراقي المعمول به في العراق. وبغية تبسيط المسألة وشرحها بالشكل الذي يصل الى فهم القارئ والمهتم من غير الملم بالاصطلاحات القانونية أو الفهم القانوني للنصوص والنظريات وفلسفة القانون، ينبغي أن نبين أفضلية الاتجاهين، والجوانب الايجابية والسلبية في كل منهما، ومعرفة أي منهما الأصلح لمجتمعنا وأنفع للمتهم والأقرب الى تحقيق العدالة، ومن أجل ذلك لابد من تبيان مساوئ وعيوب ومحاسن ?ل نظام على حدة ثم بعد ذلك نفاضل بينهما لكي نخرج بنتائج مقبولة .
أن موضوع إناطة التحقيق الابتدائي بجهة معينة تقوم به على الوجه المرسوم له قانوناً هو محل أتفاق بين غالبية القانونيين، ويتم العمل بموجبه في أغلب تشريعات و قوانين دول العالم ، ولكن هنالك اختلافاً بين هذه القوانين حول مسألة تحديد الجهة التي تباشر التحقيق، فنرى أن قسماً من هذه القوانين قد أناط سلطة التحقيق بقضاة التحقيق والمحققين وأعضاء الضبط القضائي تحت أشرافهم في حالات محددة، والقسم الآخر أناطها بأعضاء النيابة العامة والتي تختص أصلاً بتوجيه الاتهام ومباشرته أمام القضاء .
وسنتعرض أولاً لنظام الفصل بين سلطتي التحقيق والاتهام والمعمول به في العراق، بالنظر لبروز أوجه الاختلاف بين الأنظمة القانونية في هذا المجال، فقد قيلت مبررات كثيرة بخصوص مسألة الفصل بين سلطتي التحقيق والاتهام ومن هذه المبررات :-
1- أن الفصل بين سلطتي التحقيق والاتهام وجعل كل واحدة منها مناطة بجهة معينة مستقلة عن الأخرى، يؤدي الى توزيع الاختصاص وتثبيته بصورة أكثر دقة، وأن هذا الأمر يؤدي الى أعطاء أمكانية أكبر في ترسيخ خبرة فنية عالية في التحقيق والاتهام معاً، لأن الفصل يؤدي الى توزيع الاختصاص وبالتالي تمكن سلطة التحقيق من التركيز على عملها دون متابعة النتيجة، حيث ستكون من مهمة سلطة الاتـهام .
2- أن الفصل هذا يؤدي الى توفير أقصى حد ممكن من الضمانات للحرية الشخصية بخصوص حق الدفاع، وذلك لآن إجراءات التحقيق تتسم بروح الحياد، بخلاف ماهو عليه الحال بالنسبة للاتهام الذي يعتمد أساساً على الخصومة .
3- أن مهمة التحقيق تقتضي ثقافة خاصة تختلف عن تلك التي تلزمها وظيفة الادعاء العام، حيث أن الخبرة الشخصية التي تكون عند قاضي التحقيق أوسع من تلك التي عند رجال الادعاء العام، بحكم ممارسة القاضي لشتى أصناف الدعاوى وكافة أعمال القضاء، بينما يكون دور عضو الادعاء العام محدوداً نسبة الى دور القاضي الجنائي في هذا المجال .
أما فيما يتعلق بالانتقادات التي توجه اليه هذا النظام، فلا نجد من الانتقادات العملية الموجهة اليه سوى أنه يؤدي الى بعثرة الجهود المبذولة من قبل سلطة التحقيق وسلطة الاتهام والى مضيعة الوقت، حيث أن القضية التحقيقية تدور بين هاتين السلطتين، ولكن مثل هذه الانتقادات يمكن الرد عليها ودحضها وذلك بتعميق التعاون بين أجهزة التحقيق والاتهام، فهذين الجهازين يكملان عمل بعضهما ويتلاحمان في الجهد سوية من اجل انجاز العملية التحقيقية، سواء في مباشرة التحقيق أو مراقبة مشروعية الإجراءات والقرارات، والتأكيد على أن سلطة التحقيق وسلطة الاتهام هما من أجهزة الدولة القضائية الملقى على عاتقهما كشف الجرائم ومعرفة مرتكبيها بأسرع وقت ممكن وبصورة تضامنية .
أما ما يتعلق بنظام الجمع بين سلطة التحقيق وسلطة الاتهام فأن من مبرراته هو تعجيل الإجراءات وسرعة أنجاز التحقيقات وتوفير الوقت والجهد والمحافظة على القضية من الضياع أو التلاعب فيها وحصرها في جهة واحدة كما يقول الدكتور حسن صادق المرصفاوي في كتابه (أصول الأجراءات الجنائية ص 331).
ولكن هذا النظام لقي الكثير من الانتقادات منها :-
1- أن القول بأن جمع السلطتين في يد واحدة يؤدي الى سرعة أنجاز التحقيقات وسرعة حسم القضايا أن صح فهو قول محفوف بالمخاطر وتحيط به المشاكل والصعوبات، لأن من الصعب على الشخص الذي يباشر سلطة الاتهام أن يكون محايداً ولا يتحيز في التحقيق لإثبات ماسبق أن أدعى به .
2- أن الادعاء العام في حالة جمع السلطتين في يده يكون ذا مصلحة في أثبات الاتهام المسند للفرد، وعدم أتاحته الفرصة الكافية أمام المتهم لتحقيق دفاعه .
3- أن الجمع بين السلطتين يجعل الادعاء العام خصماً ومحققاً في آن واحد، وهذا ما يوجب التفريق بين الاتهام والتحقيق لما بين الاثنين من تعارض، حيث أن الاتهام يضع الادعاء العام في مصاف الخصوم، ولايمكن للخصم أن يحقق العدالة والحياد مع تحقيق مصلحته في آن واحد .
4- كما أن جمع سلطتي الاتهام والتحقيق بيد القاضي، قد يفتح له باباً للطغيان والتسلط يهدد حريات الأفراد، وهذه الخطورة تبرز أيضاً في حالة الجمع بين السلطتين بيد الادعاء العام أو بيد سلطة أخرى مهما اختلفت التسميات .
وهناك بعض من الكتاب والفقهاء القانونيـين من يرد على هذه الانتقادات الموجهة لهذا النظام، حيث يرى البعض أن الجمع بين السلطتين لا يؤثر على سير التحقيق، وذلك لأن الادعاء العام أو النيابة العامة تكون خصماً ومحققاً في آن واحد لايشكل عائقاً في التحقيق، لأن الخصومة هذه أن صحت فهي نظرية ولا أثر لها من الناحية العملية .
فالنيابة العامة أو الادعاء العام هو خصم عادل، والشيء المهم لديهما هو تبرئة البريء أو إدانة المتهم، أما القول بأن عضو الادعاء العام يخضع للسلطة التنفيذية من الناحية الإدارية في حين يتمتع القاضي باستقلال تام ولا سلطان عليه الا ضميره والقانون، هو قول لاأثر له في الحياة القضائية العملية، حيث أن الضمير هو المرجع الأول والأخير لكليهما .
أما القول بأن عضو الأدعاء العام يتأثر بالشواهد الأولى للقضية فأن ذلك لايمنع من أن يتأثر القاضي بها وهو بشر مثله .
كما أن القاضي المنفرد (الذي يعمل في القضية والنواحي)، يقوم بالتحقيق في القضية التحقيقية، فإذا كان فعل المتهم المخالف للقانون يشكل (جنحة) فأنه يقوم بإحالة القضية التحقيقية على نفسه ليقوم بمحاكمته، فيكون له دوران في التحقيق والمحاكمة .
وأما البعض الآخر فيرى أن هذه المبررات تنتفي عند التعرف على الطبيعة القانونية لهيئة الادعاء العام الذي يميزها عن بقية أجهزة الدولة الأخرى، فهيئة الادعاء العام تنتمي الى الدولة (النظام القانوني) باعتبارها جهازاً إجرائيا يهدف الى اقتضاء حق الدولة والمجتمع في العقاب من مرتكب الجريمة بالذات دون غيره، مما يجعلها تمارس في الوقت نفسه مهمتين أولاهما مهمة الاتهام وما تقتضيه من الأجراءات اللازمة لتحريك ومباشرة الدعوى العمومية ضد مرتكب الجريمة، وثانيهما مهمة الرقابة لضمان تطبيق القانون بصورة سليمة من قبل الأجهزة التي تمارس الاجراءات الجنائية.
بعد أن تبين لنا عيوب ومزايا كلا النظامين، لابد لنا أن نفاضل بينهما:
فنقول أنه من الأفضل أن يصار الى تفويض التحقيق الى قضاة التحقيق والمحققين العدليين وأن يتم تثبيت عناصر من ضباط الشرطة الحقوقيين والمختصين بالتحقيق ومعرفة حقوق الإنسان، بأعمالهم التحقيقية تحت أشراف قضاة التحقيق، وتفويض الاتهام الى هيئة الادعاء العام، لما لهذا من فوائد تتمثل في عملية ترسيخ الخبرات الفنية لدى هيئة التحقيق القائمة بشؤون التحقيق الابتدائي وهيئة الادعاء العام القائمة بشؤون الاتهام، ولما يؤدي إليه من حسن أدارة الدعوى العامة من تاريخ رفعها الى تاريخ إصدار القرار النهائي فيها، ولما يؤدي إليه أيضا من ضمان حرية وحقوق الفرد المتهم وبما يكفل ضمانات تحقيق حقوق الإنسان، حيث أن الخصم لايمكن أن يحقق العدالة كاملة حتى ولو كان هدفه الكشف السريع عن الجريمة وعن فاعلها والشركاء فيها، لأن نفسيته تبقى نفسية خصم وأن وضعية الخصم هذه تؤدي بهيئة الادعاء العام (النيابة العامة) سواء عن قصد أو دون قصد الى التشدد مع المتهم وإساءة الظن به، وأن تعتني هيئة الأدعاء العام بأدلة الاتهام أكثر من أدلة الدفاع، وهذه الأدلة قد تؤدي الى براءة المتهم فيما لو وجهت العناية الكافية لها، وكل هذا له تأثير سيىء على القضية إذ قد يبني عضو الادعاء العام رأياً باتجاه معين، بينما الحقيقة تكمن في اتجاه آخر.
أن من الضروري أن تتناوب على القضية والدعوى الواحدة أيد مختلفة، مستقلة احداها عن الأخرى، لتقوم كل يد بجزء من أجزائها برأي مستقل عن الآراء الأخرى، أو أن يتم حرمان من أضطلع بإحدى المهام من القيام بمهمة أخرى في الدعوى .
أن تعدد الآراء يكون أكثر ضمانا للمتهم، وأكثر تحقيقا للعدالة، حيث يتم تدقيق القضية التحقيقية أكثر من مرة ومن أكثر من جهة .
أن من المهم الأخذ بمبدأ الفصل بين جهتي الاتهام والتحقيق، وأن تقتصر مهمة قاضي التحقيق على التحقيق في الوقائع المقدمة إليه من الادعاء العام، وتعزيز دور الادعاء العام في مجال تحريك الدعوى العامة .
وقد سار القانون العراقي في ظل قانون أصول المحاكمات الجزائية البغدادي الملغى على مبدأ الجمع بين السلطتين، سلطة الاتهام وسلطة التحقيق، وكان يقوم بذلك النائب العمومي، حيث كان يشغل هذه الوظيفة من الناحية العملية رجال الشرطة، ولكن بصدور قانون ذيل قانون الأصول الجزائية البغدادي رقم 42 لسنة 1931 تم إلغاء وظيفة النائب العمومي واستحدثت وظيفة الادعاء العام، وبموجب هذا الذيل أنيطت مهمة الاتهام بالادعاء العام واستحدثت وظيفة المحقق ومنح صلاحية التحقيق في الجرائم تحت أشراف (حكام) الجزاء، وبمقتضى المادة السادسة منه أنشئت (دائرة الادعاء العام) تحت رئاسة المدعي العام، وبمقتضى الفــقرة الأولى من المادة الخامسة منه أستبدل تعبير (نائب عمومي) بتعبير (محقق)، وبذلك انتقلت سلطة النواب العموميين في التحقيق الى المحققين وأغلبهم من ضباط الشرطة، وأما سلطة الاتهام وتعقيب الدعاوى الجزائية أمام المحاكم الجزائية فقد أنيطت بالمدعي العام ونوابه.
ثم أصدر المشرع قانون ذيل آخر لقانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 56 لسنة 1933 وضح فيه اختصاص المدعي العام ونوابه، حيث بينت المادة الخامسة منه حق المدعي العام ونوابه في الأشراف على أعمال المحققين عندما يقومون بالتحقيق وعلى المحققين أتباع أوامره وتوجيهاته.
وبموجب هذا الذيل فقد أستحدث المشرع وظيفة (قاضي التحقيق) وأنيطت به مهمة التحقيق والأشراف على المحققين عندما يمارسون أعمال التحقيق، وبهذا يكون المشرع أقر مبدأ الفصل بين وظيفتي التحقيق والاتهام بصورة تامة .
وبعد صدور قانون أصول المحاكمات الجزائية الحالي المرقم 123 لسنة 1971، فقد أقر القانون ما كان سائداً قبل صدوره في ظل قانون الاصول البغدادي وذيوله الملغى، حيث خول المشرع بموجب هذا القانون سلطة الاتهام لهيئة الإدعاء العام، وسلطة التحقيق لقاضي التحقيق وللمحقق تحت أشراف قاضي التحقيق.
وفي هذا الصدد خولت المادة (35) من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي ألغيت بقانون الأدعاء العام رقم 59 لسنة 1979 خولت الادعاء العام بقولها ((أ- على المدعين العامين ونوابهم في حدود اختصاصهم حال علمهم بوقوع جناية أو جنحة هامة أن يخبروا بها رئيس الأدعاء العام، ولهم أن يحضروا محل وقوعها ويضعوا اليد على القضية ويتسلموها ممن حضر قبلهم من أعضاء الضبط القضائي، ويتخذوا الأجراءات المبينة في المادة (34) حتى يحضر قاضي التحقيق أو المحقق فيتسلمها ويباشر التحقيق فيها.
ب- تكون إجراءات التحقيق التي يتخذها الأدعاء العام بمقتضى هذه المادة والمادة (34) بحكم الأجراءات التي يتخذها قاضي التحقيق أذا قام بها رئيس الأدعاء العام أو كان المدعي العام أو نائبه الذي قام بها من صنف الحكام).