المنبرالحر

نزيهة الدليمي نموذجاً للوزيرة والمناضلة في ثورة ١٤ تموز المجهضة / رضي السماك‏

كان فريدريك انجلز واحداً من أبرز كبار المفكرين والفلاسفة التنويريين الذين اعتبروا عن حق إن مقياس تحرر أي مجتمع برمته إنما يتحدد بمدى تحرر المرأة فيه. وبالطبع لا يُفهم من كلامهم هنا التحرر بمعناه الابتذالي الاباحي لجسد المرأة ، أو بما ترتديه مما يُسمى ملابس عصرية التي دون الحد الادنى من الحشمة المتعارف عليه في القيم العالمية الإنسانية العالمية المشتركة، كما هو الحال في الدول الرأسمالية الغربية ، بقدر ما يعني مدى نيلها الحد الأدنى على الأقل من حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والأسرية. ولم يُعرف عن أي مجتمع في عالمنا المعاصر غابت عنه هذه الحقوق النسوية اتصف بتحرره الكامل في جميع المجالات المذكورة ٠ كما لا يمكن أن يكون مجتمع متحرر بالكامل وتكبله في ذات الوقت القوانين الجائرة والعادات والاعراف البالية المتخلفة ، وتتفشى فيه الاُمية والجهل ويتدنى فيه الوعي السياسي على نطاق واسع ، ناهيك عن العصبيات القبلية والدينية والطائفية ، وهذا كله كما هو معروف افضل بيئة أ تستفيد من الانظمة الشمولية والدكتانورية وتوفر لها الوسائل المناسبة لممارسة اللعب على تأجيج الفنن والنعرات القائمة على العصبيات لتشطير الشعب وبخاصة الطبقات والفئات ذات المصلحة الحقيقية في التحولات الديمقراطية السياسية تيعاً لسياسة " فرّق تسد " العتيدة ، ومن ثم طمس وعي الجماهير الكادحة المنتمية الى طوائف وقوميات وعشائر وقبائل مختلفة وجرها والهائها بالصراعات الثانوية المدمرة على حساب معاركها الطبقية التي تهدد مصالح الطبقات المهيمنة في الدولة في المجتمع والمتدثرة بمختلف الرداءات المذهبية والقبلية والعشائرية والقومية تبعاً لمواقع هيمنتها في مواقع هذه الفئات ٠
وبالرغم من مرور نحو ستة عقود ونيف على تحقيق معظم الأقطار العربية استقلالها من ربقة الاستعمار وقيام الدولة الوطنية، إلا ان وضع المرأة مازال يرزح مكانه ، وقد تكشّف ان ما نالته المرأة تحت حكم دولة الاستقلال العربية لم يكن إلا انجازات شكلية قشورية جرت في ظل بنية اجتماعية متخلفة متقادمة لم يطاولها التغيير الجذري الحقيقي في ظل تغييب مديد للديمقراطية عن ادارة الحكم وتوالي الانقلابات العسكرية في الجمهوريات العربية . بل ظلت اوضاع المرأة تنتقل من حال سيئ إلى حال أسوأ ، ولا سيما بعد الانتكاسات المتوالية التي مُنيت حركات التحرر الوطنية وقوى التغيير الديمقراطية في ظل تغول السياسات الأمنية للدولة الشمولية ملكية أكانت أم جمهورية ، ناهيك عن تعاقب الضربات و حملات القمع الوحشية بحقها ، والتي رافقها أيضاً الاجهاز على كل المكتسبات اليسيرة المتواضعة التي حققتها المرأة العربية في سياق نضالها المشترك مع أخيها الرجل ضمن حركات التغيير الديمقراطي الاجتماعي ، حتى أضحى تمثيلها اليوم في المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية والصحفية لا يعكس بالمرة ما لعبته من أدوار تاريخية محورية ، سواء من أجل تحرر اوطانها ، أو من أجل الإصلاح الشامل وفرض التحولات الديمقراطية والسياسية الجذرية، بما في ذلك مساواتها مع الرجل في نيل حقوقها المشروعة كافة ، أو من أجل المساواة الكاملة بين الفئات المهمشة ، لأسباب قبلية او دينية او عنصرية او مذهبية، والفئات الموهومة بانها ذات حظوة لدى انظمة فرق تسد . ومن نافلة القول ان معاناة المرأة وأوضاعها التمييزية انما هي أشد وأسوأ إذا ما كانت منتمية للفئات المنبوذة والمضطهدة والمهمشة .
ولعل الفترة القصيرة التي حكم خلالها الزعيم الوطني العراقي الراحل الشهيد عبد الكريم قاسم قائد ثورة ١٤ تموز/ يوليو العراقية( ١٩٥٨-١٩٦٣) ،هي من الفترات السياسية القصيرة النادرة التي نالت فيها المرأة في عالمنا العربي جزءاً هاماً من حقوقها في شتى المجالات، ففي خلال تلك الفترة ذاتها تمكنت أول إمرأة عربية في تاريخ العرب الحديث من تقلد منصب وزير ، وذلك عندما أصدر قاسم في يوليو من عام ١٩٥٩ مرسوماً جمهورياً بتعيين الشخصية النسوية التقدمية المعروفة الدكتورة نزيهة جودت الدليمي وزيرةً للبلديات ، والتي استغلت هذا المنصب ليس للوجاهة وتحقيق المنافع الشخصية، كما هو الحال لدى اغلب النماذج النسائية الوزارية العربية التي جاءت بعدها في الدول العربية بل سخرته بأقصى ما تستطيع ضمن سيرورة نضالها من أجل خدمة شعبها وحقوق المرأة بوجه خاص ، فقد تمكنت ،بشهادة المراقبين المحايدين ، من تنشيط وزارة البلديات وإعادة تنظيم أجهزتها لتتمكن من خدمة المجتمعات المحلية ، وبخاصة القروية، في مختلف المجالات الصحية والبيئية والتعليمية ، بدءاً من العمل على تطوير بنياتها التحتية ، وكذلك ايفاد المهندسين إلى الدول المتقدمة لتأهيلهم في مجال الخدمات والمشاريع العمرانية المختلفة. كما كان لها بصمات واضحة في انجاز واحد من اهم المكتسبات الاسكانية لثورة يوليو / تموز العراقية والمتمثل في مشروع انشاء مدينة الثورة والتي تُعرف اليوم بمدينة الصدر . إلا انه وبسبب الصراعات السياسية المتعددة التي شهدتها تلك الحقبة السياسية الخصبة من تاريخ العراق، بما في ذلك علاقة حزبها ( الحزب الشيوعي العراقي) مع سلطة قاسم والمتذبذبة بين التحالف تارةً والصراع تارات عديدة، وحيث غلب عليها هذا الطابع الأخير اكثر من الأول ، فان فترة توليها تلك الوزارة لم يدم إلا أقل من عام واحد، فقد تم اعفاءؤها في مايو / ايار١٩٦٠من منصبها كوزيرة للبلديات وعُينت في منصب هامشي ( وزيرة دولة بلا حقيبة ) تمهيداً لإخراجها كلياً من التشكيلة الحكومية في نوفمبر / تشرين الثاني من نفس العام .
نزيهة الدليمي التي رحلت عن عالمنا قبل سنوات قليلة ، وتحديداً في عام 2007 عن عمر يناهز ال ٨٤ عاماً ، كانت لها بصماتها الجلية أيضاً في اصدار واحد من اكثر قوانين الاحوال الشخصية تطوراً في العراق والعالم العربي ، والذي كان مثار جدل مجتمعي في الاوساط السياسية والدينية حينذاك وهو جدل لا يخلو جوهريا من اعتبارا طبقية ومصلحية، وكانت من اوائل الطبيبات العربيات والعراقيات اللواتي نلن في وقت مبكر شهادة كلية الطب ( تخرجت عام ١٩٤٧) ، وهي التي أسست رابطة المرأة العراقية التي لعبت دوراً في النضالين الوطني والنسوي من أجل توعية المرأة بحقوقها السياسية والاجتماعية وجذبها نحو الانخراط مع نضالا ت الرجل في معمعان النضالات الوطنية ونظمت الرابطة النسائية التي أسستها نزيهة في اوائل خمسينيات القرن الماضي كعضو دائم في الاتحاد النسائي العالمي . وتولت الدليمي منصب نائب الرئيس فيه ، فضلاعن عضويتها في مجلس السلم العالمي . فرت الدليمي عشية حملة القمع التي شنها نظام البعث الدكتاتوري المقبور على حزبها والقوى الديمقراطية في اواخر سبعينيات القرن الماضي الى اوروبا حيث اختارت من المانيا مقراً لإقامتها التي امتدت حتى وفاتها ، ويُقال بأنها اوصت بدفنها في مقبرة الشيخ معروف الكرخي في بغداد٠ واُعيد الاعتبار لدورها الريادي التاريخي في الحركتين السياسية والنسوية في ظل النظام الديمقراطي الفتي الجديد الحالي حيث قرر مجلس الوزراء بعد وفاتها تكريمها بإقامة تمثال لها وهو اول تمثال يُنحت لشخصية نسوية في تاريخ العراق الحديث. وكان النظام الجديد ممثلاً في محافظة النجف و من منطلق الانفتاح أيضاً على القوى السياسية التي لعبت دوراً وقدمت تضحيات كبيرة من أجل انهاء عقود الدكتاتورية السوداء جنباً الى جنب مع مختلف قوى المعارضة وبضمنها القوى الاسلامية ، ان دشن في العام الماضي قرار اطلاق على احد شوارع مدينة النجف الأشرف أسم زعيم حزبها الشهيد سلام عادل حيث مسقط رأسه ، والذي سقط شهيداً تحت التعذيب الوحشي في الانقلاب الدموي البعثي الأسود في 8 فبراير / شباط من عام ١٩٦٣ ، كما نفذ حكم الاعدام بالرصاص على الزعيم عبد الكريم قاسم قائد ثورة تموز العراقية والذي اعدمه الانقلابيون هو الآخر وهو صائم بعد أن جرجروه الى دار الاذاعة حيث تم اعدامه فيها في نهار ١٤ رمضان /شباط ١٩٦٣من نفس العام في نهار ١٤ رمضان وهو صائم غداة انقضاض جنرالات البعث الفاشيين على السلطة.