المنبرالحر

مظلوم على هامش قطار الموت / حمدي العطار

الاحداث الكبيرة تنتج ابطالا وضحايا، ومجرمين ومتفرجين .. واحيانا مظلومين !
وحينما نشر استعراض لكتيب "القطار" الذي حمل قصيدة ملحمية تجسد مأساة "قطار الموت"، القطار الذي اراد الانقلابيون في 1963 ان يجعلوا منه قبرا حديديا لمئات المعتقلين من كوادر الحزب الشيوعي، فيما كان لسائق القطار عبد عباس المفرجي رأي آخر دفعه الى السير سريعا بالقطار، فأنقذ ما يمكن إنقاذه.. حينها لم يخطر ببالنا ان يكون على هامش قطار الموت "انسان مظلوم". ولم ندرك ذلك الا بعد ان ارسل الينا صديقنا جليل راهي مكطوف القصة الغريبة التالية:
كنت موظفا في سكك البصرة حيث تعرفت على مدير محطة المعقل أحمد عبد الستار الشيخلي. وقد حرضني احد زملائي على أن أسأله عن قطار الموت. فلما سألته: عمو شنو قطار الموت؟ هاج هيجانا ارعبني واخذ يسب ويلعن من اخبرني بذلك. ذهبت الى غرفتي حزينا لأنني اغضبت ذلك الرجل الطيب. لكن لم تمر لحظات حتى دخل هو عليّ وقبلني معتذرا، وقال:
سأحكي لك الحكاية. القطارات تصنف حسب اهمية حمولتها، فهناك قطار الحمل العادي، يليه قطار المهمات العسكرية، فقطار المهمات العسكرية الخاصة، يليه قطار الركاب وهو الدرجة الافضل. وكنت انا ناظرا لمحطة قطار الحمزة الشرقي عندما جاءت برقية مفادها ان قطارا سينطلق من بغداد نحو السماوة، وعلى متنه حمولة خاصة جدا، وله افضلية على كل القطارات. وكان مفروضا ان يصل هذا القطار (قطار الموت) الى محطة الحمزة بعد ساعتين من ذلك، حسب السرعة المحددة له. لكن في تلك الاثناء اتصل بي ناظر محطة الرميثة راجيا ان أستقبل قطارا صاعدا نحو بغداد، لأن ارصفة محطته قليلة والقطار المذكور سيصل الى الحمزة بعد عشرين دقيقة. ولم اكن اعلم بالطبع أن سائق القطار النازل (قطار الموت) كان يخالف التعليمات وينطلق مسرعا، وقد وصل بالفعل الى محطتنا قبل موعده، بينما قطار الرميثة لم يصل لسبب لا اعرفه.
حين دخل قطار الموت المحطة جلست على الرصيف اضرب رأسي بيدي، لأنني سأكون السبب في تأخير انطلاقه فيما كنت اسمع صراخ الناس الذين تجمعوا حوله، وارى امرأة تكسر جرة على أحد ابوابه لعل الماء يسيل منها الى المعتقلين في عرباتهم الملتهبة من الحر، وأحد الشيوخ المسنين يضع طرف عباءته المبلل بالماء في ثقب الباب لعل أحدا من الضحايا يمتص ما فيها من ماء. وأعتقد الناس أنني اتعمد تأخير القطار فأخذوا يضربونني وأنا جالس في الارض، واصرخ باكيا لشدة شعوري بالذنب! حتى جاء احد الموظفين واخبرني بسحب القطار الصاعد نحو الرميثة، وان بامكان النازل (قطار الموت) التحرك الآن. ووقتها كان قد بدأ النفير العام في مدينة السماوة، بانتظار وصول القطار بحمولته البشرية المشرفة على الهلاك.. وعندما وصل وفتحت الابواب من قبل "الحرس القومي" وسقط الضحايا على الارض، اندفع الناس متجاهلين العيارات النارية التي اطلقها الساديون، وراحت كل مجموعة تعتني بواحد من الضحايا، حتى تم نقل الجميع الا ثلاثة، قيل انهم لقوا حتفهم من شدة الحر ..
هذه القصة تبقى تُذكّر الناس بموقف سائق قطار الموت البطل (المفرجي ) الذي اطلق للقطار العنان كي ينقذ المعتقلين، وبناظر محطة الحمزة (احمد عبد الستار) الذي أتهم ظلما بتـأخير حركة القطار..
"الزمان"
25/1/2015