المنبرالحر

البرنامج الاقتصادي الحكومي.. ومهام التنمية الوطنية / د. صباح قدوري

تقف اليوم امام حكومة د.حيدر العبادي واجبات ومهمات كبيرة وجسيمة، ينتظر الشعب العراقي وبفارغ الصبر من هذه الحكومة انجازها، وفي مقدمتها معالجة الوضع الامني وتامين الاستقرار في ربوع الوطن، وخاصة بذل جهود استثنائية للاسراع في القضاء على (داعش) وعصاباتها من التنظيمات الارهابية، وتحقيق السلم الاهلي بين مكونات الشعب العراقي كافة، عبر حل المشاكل السياسية والطائفية والاثنية بين الاطراف المشاركة في العملية السياسية ومع اقليم كردستان لمصلحة وحدة العراق وشعبه، والتوجه الجدي نحو تفعيل دور اداء مؤسسات الدولة المختلفة، استنادا الى مبادئ الادارة الرشيدة المبنية على اسس الديمقراطية الحقيقية والشفافية والنزاهة والمسؤولية، والافصاح عن المعلومات، ومحاربة الفساد المالي والاداري المستشري في المفاصل الادارية والحزبية.
ان الخلفية الايدولوجية المعتمدة من الحكومات المتعاقبة والمستندة الى توصيات الحاكم العراقي السابق (بول بريمر) بعد الاحتلال في 2003، وبمؤزارة من بعض الاقتصاديين اللبراليين الجدد وتماشيا مع سياسات المنظمات المالية الدولية (الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية)، والتاكيد في البرنامج الاقتصادي الحكومي الحالي ضمن محاور منها : ( تشجيع التحول نحو القطاع الخاص، الاصلاح المالي والاداري للمؤسسات الحكومية)، كلها تقر وتدعم فقط الخصخصة، وتعني (الملكية الخاصة)، التي تتوجه عادة نحو المشاريع ذات الربحية السريعة لتحقيق اقصى ربح ممكن، واطلاق الاسعار في السوق على اسس المنافسة الحرة بدون اي قيود، ما يمهد الطريق في النهاية الى الهيمنة الاحتكارية للشركات الكبرى وتثبيت اقدامها في السوق والتصرف بالاسعار والجودة لمصالحها الخاصة، والقبض على الشركات الصغيرة والمتوسطة وطردها من الاسواق .
اما اقتصاد السوق على وفق هذه الايدولوجية، فيعني ابعاد الدولة عن السوق وعدم تدخلها في تنظيم ومراقبة النشاط الاقتصادي، والسوق نفسها تقوم بذلك من خلال العرض والطلب والمنافسة الحرة.
ضمن هذه المعطيات نرى، ان حالة الاقتصاد العراقي اليوم تحتاج الى التوجه نحو تطبيق نوع من الاقتصاد المتوازن على وفق الملكيات المتنوعة (الحكومية، التعاونية ، المختلطة)، وحتى القطاع التطوعي، اذا اصبح جزءاً من الثقافة العراقية مستقبلا، مع اجراءات الحماية للانتاج الوطني العراقي من غزو الاسواق بالمنتجات الخارجية وتحرير الاسعار من اي قيود.
ولتحقيق هذه المهمات وغيرها يتطلب من الحكومة الحالية التفكير الجدي بعملية الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي، من خلال تبني رؤية واضحة وشفافة لاستراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، بناء على رؤية محددة تضمن البعد الاقتصادي والاجتماعي الشامل لهذه العملية على وفق جملة من التوجهات منها، مايلي:
اولا: البعد الاقتصادي
١ـ اصلاح الهيكل الاقتصادي الذي يستند الى ستراتيجية واضحة وشفافة لتنشيط وتفعيل القطاعات الانتاجية، وفي مقدمتها الزراعة والصناعة والتشييد والابنية وغيرها ، وتامين البنى التحتية والتكنولوجيا الحديثة اللازمة لها، بغية تخليص الاقتصاد العراقي من بنيته الاحادية الجانب والاعتماد على الريع النفطي، وذلك لتنويع مصادر القطاعات الاقتصادية للمشاركة في انتاج الناتج المحلي الاجمالي، والتامين الدائم لمصادر تمويل الميزانية العامة للدولة.
٢ـ تفعيل دور القطاع الخاص الوطني وتشجيعه للمساهمة في زيادة الاستثمار والانتاج والتشغيل، من خلال التمويل الميسر للصناعات الصغيرة والمتوسطة بالتعاون مع الغرف التجارية واتحاد الصناعات العراقية. اما القطاع الخاص الاجنبي فيجب الاستفادة منه بشكل عقلاني ومدروس للاستثمار في القطاعات ذات الصناعات الكبيرة التي تتطلب الخبرة والمهارة العاليتين غير المتوافرتين لدى الكادر الوطني، وذات التكنولوجيا المتقدمة والمتطورة، وتجب دراستها بإمعان من جميع جوانبها المالية والادارية والتنظيمية والقانونية، على وفق اسس المصالح المشتركة وصيانة السيادة الوطنية.
٣ـ اصلاح النظام المالي والنقدي من خلال البنك المركزي الجهة الوحيدة المستقلة والمتخصصة برسم السياسة النقدية، من دون التدخل في واجباته الاساسية في عملية تامين الاستقرار النقدي، وعن طريق الحفاظ على الرصيد الاحتياطي من العملات الاجنبية لديها ، وسعر صرف الدينار العراقي مقابل سلة العملات الاجنبية ، ومراقبة ظاهرة التضخم من خلال السيطرة على ارتفاع الاسعار مقابل تعزيز القوة الشرائية للدينارالعراقي، و تفعيل وتنشيط دور المصارف وتقديم الدعم اللازم للقطاع الخاص من القروض الميسورة بفوائد منخفضة، و متابعة عمليات الاستيراد على وفق الوثائق الحقيقية لها ومراقبة تنفيذ الاعتمادات المستندية ووصول البضائع، تلافيا لحدوث عمليات الفساد المالي وغسيل الاموال، اضافة الى السعي لزيادة معدل النمو الاقتصادي والتشغيل، وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الدخول والثروات في المدى المنظور.
٤ـ في الجانب المالي يجب الاهتمام باستخدام معايير علمية ومنطقية في تبويب واعداد الموازنة العامة، تعتمد على قياس كفاءة الاداء والانتاجية، و التحكم بالموارد المالية المتاحة بشكل عقلاني، بحيث تكون تقديرات الميزانية اقرب الى الواقع على اساس الاهداف والبرامج الحقيقية .
٥ـ الزام وزارة المالية بتطبيق "قانون الادارة المالية" الذي ينص على تطبيق شفافية الموازنة تجاه استخدام الاموال العامة في مجال التنمية الوطنية المستدامة وفقا للمعايير الدولية المتبعة، وتزويد المجتمع بمزيد من البيانات والمعلومات عن الحالة الاقتصادية، والموازنة العامة للدولة بغية الاطلاع على اولويات وتفاصيل اوجه الانفاق ومصادرالمال الحكومي.
٦ـ معالجة الخلل البنيوي في تركيبة الموازنات السابقة ، بسبب التفاوت الكبير في نسبة توزيع نفقات الموازنة بين الانفاق العام التشغيلي التي يمثل معدلا بحدود ٧٠بالمئة والانفاق العام الاستثماري بحدود ٣٠بالمئة من مجموع الميزانية. وتسبب هذه الحالة عجز الموازنة عن خلق ديناميكية على مستوى تحقيق النمو الاقتصادي فمثلا ٥-7 بالمئة ، والذي تشترط وجود استثمارات ضخمة يحتاجها البلد في مجال اعادة بناء البنى التحتية، تاهيل القطاع النفطي الى ٩ ملايين برميل يوميا حتى عام ٢٠٢٠ ، وباسعار معتدلة للنفط ، وكذلك النهوض بالقطاعات الانتاجية. ولتحقيق ذلك يتطلب توزيع نفقات الموازنة بالمناصفة بين التشغيلية والاستثمارية في المديين المتوسط والبعيد.
٧ـ اصلاح النظام الضريبي بما يحقق العدالة والحد من الفساد المالي والاداري المستشري فيه.
٨ـ اصلاح النظام المحاسبي بحيث يرتقي الى مستوى القياس العالمي ، من خلال توحيد الانظمة المحاسبية المتعددة المعمول بها حاليا في القطاعين العام والخاص، وتطوير اساليب الرقابة المالية وجودتها، ورفع القدرات المهنية للعاملين في حقلي المحاسبة والادارة، واستخدام ادوات جديدة لمعالجة وظيفة النظام المحاسبي لانتاج المعلومات الاقتصادية على الصعيدين الكلي (الماكروي) والجزئي (المايكروي)، وتطبيق معايير المحاسبة الدولية، ما سيعود بفوائد كثيرة على توثيق المعاملات التجارية الداخلية للشركات الوطنية والاجنبية او الشركات العالمية المشتركة.
٩ـ تطبيق نظام مالي حديث بالاعتماد على التكنولوجيا المعلوماتية لانتاج البيانات والمعلومات المالية اللازمة لعملية اتخاذ القرارات الاقتصادية والادارية.
١٠ـ ضرورة تفعيل وتطبيق مبدأ اللامركزية الادارية والمالية للاقاليم والمحافظات العراقية.
ثانيا: البعد الاجتماعي
يجب ان تحقق التنمية الوطنية الشاملة أبعادها ومردوها الاجتماعي، من خلا ل انجاز المهمات الاتية:
١ـ معالجة ظاهرة البطالة عن طريق تامين فرص العمل اللائقة للجميع، والقضاء على الفقر وتقليل الفوارق الطبقية، من خلال تامين فرص تشغيل اكثر للطبقة الوسطى لتوسيع حجمها وتقليص حجم الفئة الفقيرة والتي تحت خط الفقر.
٢ـ اعتماد سياسات اقتصادية واجتماعية شاملة للجميع لتحقيق مبدأ العدالة الاقتصادية والاجتماعية، بهدف تقليص التفاوت الكبير في مستويات الدخل وتراكم الثروات بين الافراد وبين مناطق البلاد.
٣ـ المسؤولية الاجتماعية تجاه البيئة وحمايتها من التلوث والدمار.
٤ـ المساهمة في سوق العمل عن طريق تاهيل وتدريب القوى البشرية العاملة، لمواكبة التكنولوجيا الحديثة، بهدف رفع الانتاج والأنتاجية وجودتهما.
٥ ـ الاعتناء بجودة الانتاج وتقديم افضل الخدمات التسويقية على وفق المعايير القياسية، لصالح المستهلك وحمايته.
٦ـ تامين نظام الضمان الاجتماعي لمساعدة الفقراء والعاطلين عن العمل، واتباع وسائل فعالة لتوزيع الدخل بين افراد المجتمع بعدالة قدر الامكان.
٧ـ توفير نظام مجانية الصحة لجميع المواطنين.
٨ـ توفير التعليم المجاني بجميع مراحله لأبناء الشعب كافة.
٩ـ رفع الوعي العام والمستوى الثقافي والحضاري للمجتمع، وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني في ممارسة الديمقراطية والمشاركة في صنع القرار والرقابة الشعبية.
ثالثا: استدامة التنمية
ان الابعاد الاقتصادية والاجتماعية المنوه بها آنفا اذا اخذت بها بعناية وجدية على وفق رؤية واستراتيجة مدروسة على اسس الاهداف والاولويات والبرامج، فان عملية التنمية الاقتصادية - الاجتماعية التي هي من صلب اوليات واجبات الحكومة، ستحقق بلا شك مفهوم الاستدامة للتنمية الشاملة، على وفق الاهداف الاتية:
١ـ انتقال اقتصاد العراق تدريجيا من اقتصاد ريعي احادي الجانب ذي طابع استهلاكي الى اقتصاد متنوع ذي صفة انتاجية من خلال اعادة الهيكلية الاقتصادية لصالح القطاعات الانتاجية وهو اقتصاد منتج للقيمة المضافة، اي يساهم في زيادة تراكم رأس المال.
٢ـ اشباع الحاجات الملحة والمتنامية للمواطنين من خلال اعتماد سياسة الاقتصاد الانتاجي، فهو وحده القادر على رفع انتاجية العمل، بما يساعد على رفع مستويات المعيشة وتوفير السلع والخدمات للمواطنين.
٣ـ ضمان استمرار النمو الاقتصادي بوتيرة منتظمة في الامد المنظور.
٤ـ الحد من سياسة الاستيراد المفتوح المعمول به حاليا والاقتصار على المنتجات والسلع المختلفة المطلوبة للانتاج والاستثمار والاستهلاك من السلع الضرورية والمستلزمات الوسيطة للانتاج الصناعي والزراعي للقطاعات المختلفة، والاعتماد على الانتاج الوطني من السلع والخدمات المتوافرة وحمايته من خلال تفعيل واعادة بناء المؤسسات الانتاجية الحكومية، وتشجيع القطاع الخاص للمساهمة في الاستثمارات الانتاجية ،وتفعيل منظومة الرسوم الكمركية، وكذلك التفكير لتصدير المنتجات النفطية البتروكيمياوية والكبريت والاسمدة وغيرها، وبعض المنتجات الزراعية كالتمر والحبوب وغيرها، مما يساعد على تعديل الميزان التجاري لصالح العراق في الامد المنظور.
٥ ـ اعتماد الموازنة نظاماً للمعلومات في صياغة الاستراتيجيات التنفيذية للمشروعات العامة.
٦ـ تحسين آليات متابعة الاداء الاداري والمالي والتنفيذي لمشروعات الموازنة.
٧ ـ تعزيز العملية الرقابية من خلال تطبيق المعايير الرقابية والمراجعة الدولية ودليل قواعد السلوك الاخلاقي للمحاسبين المهنيين.
٨ ـ محاربة الفساد المالي والاداري من خلال التعاون بين هيئة الرقابة المالية والنزاهة والقضاء والرقابة الشعبية.
٩ ـ دعم وتسهيل عملية تطبيق سياسات محاسبية موحدة على القطاعات الاقتصادية كافة.
١١ ـ الانتقال من الأساس النقدي لعملية المحاسبة الحكومية المعمول به حاليا للايرادات والمصروفات الى تطبيق اساس الاستحقاق.
١٢ ـ توحيد اساليب إعداد التقارير والقوائم المالية الحكومية والافصاح عنها بشكل دوري على وفق المعايير الدولية.
ختاما، ان اشكالا كثيرة ومختلفة من الدمار الذي يمكن اجتنابه تنبع من الخصخصة واقتصاد السوق في ظل غياب التحضير الاجتماعي والتكنيكي الكافي. ان ما جرى ويجري في اوربا الشرقية ومعظم البلدان المتخلفة والعراق منها، هو اعتناق نسخة من رأسمالية السوق الحرة (مؤدجلة) بقوة ضمن وصفة ( العلاج بالصدمة)، ليس لها اي اساس تجريبي. تشير بعض المعلومات والتقارير والابحاث واستطلاعات الرأي في اوربا الشرقية والوسطى، ومن تجربة دول الرفاهية ومنها على سبيل المثال الدول الاسكندنافية، لا تعكس غير اهتمام قليل بالأشكال البحتة للرأسمالية ، بل خيار يتضمن الحماية الاجتماعية. ان تفشي الفساد في سياسات الخصخصة والسوقنة، التي تنفذ في ظل القواعد المعمول بها، قد خلق مقاومة يتطلب إما التسوية الشاملة وإما القمع؟!. ولتحقيق بديل اخر، قد يظهر نوع جديد من التسوية الاجتماعية يتضمن خليطا مؤسساتيا يختلف عن الراسمالية الاوربية الكلاسيكية، وفي انسجام مع العقلانية الاقتصادية بشكل صحيح، والبيئة الاجتماعية والتنظيمية والقانونية لكل بلد.