المنبرالحر

احزاب السلطة وسوءاستخدام مفردة التوازن / د. علي كاظم الرفيعي*

بعد ان تعرى نهج المحاصصة الذي اصطبغت به ما يسمى بـ (العملية السياسية) في العراق وما انتجته من فساد على كافة المستويات بفضل وقوف القوى المدنية ومنظمات المجتمع المدني والعناصر الوطنية المستقلة، بدأت الاحزاب المهيمنة على المشهد السياسي في البلاد بمحاولة تجميل صورة المحاصصة التي غدت مفردة مرفوضة ومقززة للمواطن بمفردة اخرى وهي (التوازن) ظناً منها احزاب السلطة بأنها ستنطلي على أبناء الشعب.
في البدء لا بد لنا من معرفة المقصود بكلمة (التوازن) في اللغة العربية
هذه الكلمة هي مصدر لـ(وَزَنَ)، يقال وازن بين الشيئين موازنة / ووِزاناً، أي ساوي وعادَلَ، و(تَوازنَ الشيئان، أي تساويا في الوزن.
هذا التعريف اللغوي ينبغي ان ينعكس على الفهم السياسي لمفردة التوازن، أي ان المقصود بها احقاق المساواة والعدالة.
فهل كان قصد قادة احزاب السلطة تحقيق ذلك؟ أم ان فهمهم فهم نفعي، وبعبارة اوضح ،انهم استغلوا المفردة للحصول على منافع مادية شخصية لهم ولاقربائهم والمقربين اليهم؟
دستور العراق لعام 2005 والذي يمثل القانون الأعلى والأسمى في البلاد نص في مواد عديدة منه على مبدأ المساواة، فالمادة (14) جاء فيها الآتي:
(العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او الدين او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي) كما نصت المادة (16) منه على:(تكافؤ الفرص حق مكفول لجميع العراقيين وتكفل الدولة اتخاذ الإجراءات لتحقيق ذلك)، وهناك نصوص اخرى في باب الحقوق والحريات تؤكد ذلك.
هل احترم ابطال المحاصصة ممن يملكون الصلاحيات القانونية في ادارة مؤسسات الدولة والمبادئ الأساسية وحقوق المواطن التي تطلبها الدستور؟ الجواب بالتأكيد هو النفي لذلك وتحت تأثير رفض التيارات المدنية السياسية وغضب الشارع العراقي لنهج المحاصصة رأينا في الفترة الاخيرة اغلب قادة الاحزاب السياسية الدينية والقومية التي شاركت في كل الحكومات التي تشكلت بعد عام 2003 يهاجمون في خطبهم المحاصصة، الا انهم بدأوا يعزفون نغمة جديدة (نوتة) باستخدامهم مفردة (التوازن) بحجة انها وردت في وثيقة الاتفاق السياسي التي كانت وراء مشاركتهم في حكومة السيد العبادي.
ومن هذا المنطلق رأينا مؤخراً قادة احد مكونات التحالف الوطني ينتقدون قرار رئيس الوزراء بتعيين امرأة في منصب (امين بغداد) وكالةً واصفين هذا القرار بأنه يشكل عودة الى اسلوب التعينات في الوظائف العليا وكالةً وبأنه يعد استحواذاً على المواقع واخلالاً بالتوازنات.
لابد ان نوضح للقارئ الكريم الخلفية التي دفعت هذا المكون السياسي لمهاجمة قرار رئيس الوزراء باشغال منصب امين بغداد هو ان المكون المذكور يرى ان هذا المنصب هو من حصته وفقاً لاسلوب المحاصصة الذي اعتمدته الاحزاب والكتل السياسية المشاركة في الحكم.
يعلم كل العراقيين ان اسلوب اشغال الوظائف العليا في الدولة وكالة هو اسلوب انتهجته الحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا وهذه الحكومات ضمت نفس الكتل السياسية منذ هذا التاريخ وحتى الان، وقد لجأ رؤساء الوزارات والوزراء خصوصاً في حكومة السيد المالكي لهذا الاسلوب تهرباً من الذهاب الى مجلس النواب وهو الجهة المخولة قانوناً بالموافقة على اشغال هذه الوظائف اصالة وذلك خوفاً من عدم موافقة المجلس على الاشخاص المرشحين لهذه المواقع بسبب الخلافات ليس بين الكتل السياسية وحسب ، انما حتى داخل التحالف الواحد الذي يضم احزاباً وتجمعات مختلفة، هذه الخلافات وكما يعلم الجميع تعود لاسباب شخصية ونفعية ضيقة اكثر منها مهنية تستند الى معايير الكفاءة والنزاهة.
قبل ان نوجه السؤال الى قادة المكون السياسي الذي اعترض على تعيين المهندسة ذكرى علوش بمنصب أمين بغداد وكالةً، نوضح عدم معرفتنا بالخلفية السياسية لهذه السيدة، وهل انها تنتمي الى احد الاحزاب المعروفة في الساحة السياسية ام انها مستقلة، كل ما نعرفه عنها انها كانت تشغل وظيفة (مدير عام) دائرة المشاريع في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.
ان السؤال الذي نطرحه بهذا الصدد هو ان التوازن - أن صح هذا الوصف- حاصل؟ هل أي هل كان متحققاً قبل تعيين السيدة علوش؟ وقد تم الاخلال به بهذا التعيين؟ هل ان ميزان (التوازن) كان دقيقاً وعادلاً طيلة سنوات الوضع الجديد في العراق؟ هل ان اشغال موقع واحد امين بغداد قد اخل بكفتي ميزان التوازن؟ وهل يعد ذلك استحواذاً على السلطة؟ من كان وراء معظم ان لم نقل جميع التعيينات في الوظائف العليا في الدولة؟ أليست نفس احزاب السلطة ومن ضمنها المكون السياسي الذي يرى ان هناك اخلالاً بالتوازن؟ التساؤلات في هذا الصدد عديدة وقابلة للمزيد.
يعلم الجميع ان اغلب المناصب العليا وحتى الوظائف التي تليها في الدرجة في الدولة قد تم اشغالها وكالة بمرشحي الكتل الثلاث (التحالف الوطني تحالف القوى العراقية والوطنية التحالف الكردستاني) وبحصص غير متساوية، كما ان مجلس الوزراء شكل لجنة اسماها (لجنة التوازن) في الدورة الثانية لمجلس النواب ضمت ثلاثة وزراء هم السادة (روز نوري شاويس حسين الشهرستاني صالح المطلك) وقد انيطت بهذه اللجنة مهمة دراسة طلبات الوزراء باشغال الوظائف في وزاراتهم وكذلك الهيآت المستقلة والتوصية الى مجلس الوزراء او مجلس النواب بالموافقة على تعيين الاشخاص المرشحين لها على (اساس التوازن!!!.)
ان مبدأ الشفافية يقتضي ان يطلع ابناء شعبنا على المعايير التي اعتمدتها هذه اللجنة في توصياتها باقرار التعيينات. هل تم اعتماد معايير المهنية والكفاءة ونظافة اليد في المرشحين لهذه المواقع؟ هل اوصت هذه اللجنة بتعيين عناصر مدنية مستقلة ليس لها من قريب او بعيد علاقة باحزاب السلطة؟ والعراق كما يعلم الجميع يزخر بكفاءات علمية وادارية من مختلف الاختصاصات.
ان اجراء جرد لكافة شاغلي الدرجات الخاصة من وكلاء الوزارات وسفراء ومستشارين ومدراء عامين منذ عام 2003 وحتى الان سيظهر لنا ان التعيينات في هذه المواقع استندت الى ترشيحات احزاب السلطة وهي ترشيحات ليس بالضرورة تقتصر على اعضاء هذه الاحزاب وانما ترتبط في اغلبها الى العلاقات الشخصية والمنافع المادية التي قد تحصل عليها هذه الفئة او تلك من وراء الاشخاص الذين رشحتهم لاشغالها كما سيظهر لنا هذا الجرد ان هناك بعض العوائل والاسر قد نالت نصيباً كبيراً في التعيينات فتجد _مثلاً ضمن عائلة واحدة او بيت واحد_ عدداً من ذوي الدرجات الخاصة يزيد عددهم على الثلاثة او الاربعة افراد. فهل كل هؤلاء ينطبق عليهم معيار الكفاءة والمهنية؟ والآخرون من العراقيين من اسر وعوائل اخرى لم يحصلوا على فرصة واحدة في الحصول على وظائف عادية في الدولة. ان جرداً للموظفين الذين يعملون في سفاراتنا في الخارج من دبلوماسيين وادريين سيظهر لنا ان عدداً لايستهان به من ابناء المسؤولين واخواتهم وازواج بناتهم. ان مثل هذا الجرد سيظهر لنا ان اسوأ المسؤولين وافشلهم وافسدهم هم الذين اختارتهم المكونات السياسية للمواقع العليا في الدولة، ويكفي ان نذكر القارئ الكريم بالارقام التي اعلنتها اللجنة المالية في مجلس النواب الى ان هناك ما يصل الى (700) درجة خاصة ومايزيد على (4) آلاف مدير عام ومن بدرجتهم في الدولة. هذا الرقم الخرافي هو رقم غير مقبول اطلاقاً في دولة تسعى الى التنمية الاقتصادية والبشرية. وهذه الارقام جاءت نتيجة سياسة المحاصصة التي انتجت الفساد المالي والاداري.
على قادة الاحزاب السياسية المهيمنة على زمام الامور في البلاد الاقرار بأن حالة الفساد التي استشرت في جسد الدولة قد وصلت الى مستويات خطيرة جعلت من الصعوبة ان لم نقل من المستحيل مكافحة آفة الفساد في زمن قصير.
ان مفردة (التوازن) هذه النغمة الجديدة وكما ذكرنا في بداية هذا المقال والتي اخذت ترد على ألسنة بعض قادة أحزاب السلطة وممثليها في مجلس النواب، ما هي الا مفردة اخرى يراد منها تحسين صورة المحاصصة التي يستنكرها المواطن العراقي ويعرف حقيقة الداعين لها والاهداف من ورائها.
العراق يخوض اليوم معركة مصيرية مع قوى الظلام ومن يدعمها، وبقدر ما يحتاج الى دعم لقواته المسلحة والحشد الشعبي فانه يحتاج وبذات الوقت الى الكفاءات والخبرات المستقلة من ابنائه بعيداً عن السياسات النفعية والشعارات الزائفة.
ان بناء مستقبل آمن للاجيال القادمة يتطلب من ابناء شعبنا الذين يتطلعون الى دولة مدنية وحياة ديمقراطية سليمة الوقوف بوجه آليات الفساد التي يروم الفاسدون والمفسدون استمرار العمل بها وبأية تسمية كانت.
رئيس التحالف المدني الديمقراطي
*