المنبرالحر

حق الإنسان في حرية التعبير / عبد الأمير شمخي الشلاه

حلمت مرة بالربيع وحينما استيقظت وجدت فراشي مليئا بسلال الورد
حلمت مرة بالبحر وحينما استيقظت, وجدته مليئا بالسمك
ولكنني حلمت بالحرية واستيقظت, وجدت نفسي مطوقا بالحراب
محمد ماغوط
لقد اكتسب الإنسان في عملية الارتقاء الطويلة من الأدنى الى الأعلى، ومن البسيط الى المركب جملة من حقوق محورية، أضحت بمرور الوقت، ميزاناً ومؤشراً على تحضره ومدنيته، ويقف في سلم أولويات هذه الحقوق، حق التعبير عن الرأي الذي اكتسب في زمن التحولات الإنسانية نحو الديمقراطية مكانة مرموقة، وصار شاهداً على صدق التطبيقات الديمقراطية لدى الأنظمة السياسية في العالم، وقد تصدر قائمة الحريات الفكرية.(1).
والإنسان، ومنذ نشأته الأولى عبر عن مدركاته العقلية والشعورية بوسائل مختلفة، وتراكمت لديه المعارف تدريجياً، لتكون لديه وجهة نظر متكاملة عن الطبيعة والمجتمع والنفس وكل الظواهر المحيطة به وعلى الصعُد المختلفة.
وقد تدرجت وسائل الإنسان في التعبير عن الخطوط والنقوش البدائية على جدران الكهوف، ورسم الحيوانات والأدوات والرقي، الى المقاطع والحروف في تشكيل اللغات، وبشكل يرسم تطوراً تصاعدياً في الذهنية التي فجرت ثورات تاريخية عدة في مسارها، ابتداءً بالثورة النحاسية وتأسيس القرى والزراعة ثم المدينة، وتأسيس نظام الدولة الأولى في بلاد سومر، ثم الثورة الصناعية في أوربا وصولاً الى الثورة المعلوماتية التي ابتدأت منذ خمسينات القرن الماضي في أوربا أيضا وفي أميركا، والتي تركزت بداية في الاتصالات التي بها ومن خلالها تمكن الإنسان من توسيع دائرة الآراء والمعلومات بمعدل زمني قياسي.(2).
ما التعريف المتفق عليه لحرية التعبير عن الرأي؟
لقد وردت تعاريف عدة تتفق جميعاً في إطار عام يؤدي الى نفس الدلالة، ومما ورد بهذا الشأن: " هي الحرية في التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق الكلام او الكتابة او عمل فني بدون رقابة او قيود حكومية، بشرط ان لا يشمل طريقة ومضمون الأفكار والآراء ما يمكن اعتباره خرقاً لقوانين او أعراف الدولة او المجموعة التي سمحت بحرية التعبير "
فحرية التعبير بهذا المعنى هي قدرة أفراد المجتمع في حق اعتناق الآراء دون إكراه، وقدرتهم على التعبير عنها بوسائل متعددة دون تهديد خارجي.
وقد صاحبت حرية التعبير عن الرأي بعض أنواع الحقوق التي تعتبر من أجزاء المنظومة ذاتها، مثل حرية العبادة، والحق في المجتمع السلمي، إذ يعتبر هذا الحق جزءاً لا يتجزأ من حرية الرأي واحد الطرق المشروعة للتعبير عنه، بما يضمن بلورة جماعية للرأي عند عقد الاجتماعات العامة او المؤتمرات والمسيرات والاعتصامات.
حرية التعبير في المواثيق الدولية
اعتبرت المادة (19) من الإعلان العالمي إن " لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية ".
وكذلك المادة (20) أكدت: إن لكل شخص حق حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية، وقالت المادة في الفقرة / ثانياً: لا يجوز إرغام احد على الانتماء الى جمعية ما.
في المضمون والمعنى ذآتها أكدت المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على:
1- لكل فرد حق اتخاذ الآراء دون تدخل.
2- لكل فرد الحق في التعبير، وهذا الحق يشمل حرية البحث عن المعلومات او الأفكار من أي نوع وتسلمها ونقلها بغض النظر عن الحدود الجغرافية، وذلك أما شفاهة او كتابة او طباعة، وسواءً كان ذلك في قالب فني او بأية وسيلة أخرى يختارها.
3- ان ممارسة هذه الحقوق التي تنص عليها الفقرة (2) من هذه المادة تحمل في طياتها واجبات خاصة، وكذلك فإنها قد تكون خاضعة لبعض التقييدات، ولكن هذه التقييدات يجب ان ينص عليها القانون وهي ضرورية من اجل:
أ- احترام حقوق الغير وسمعتهم.
ب- حماية الأمن القومي او النظام العام او الصحة العامة او الأخلاق.
ينبغي أن يتعرف الجمهور المتلقي باعتباره القطب الأهم في معادلة حرية الرأي والتعبير على المعلومات عن طريق تنوع وسائل الإعلام المهيأة له بما يتيح لكل فرد التأكد من صحة الوقائع وتكوين رأيه بصورة موضوعية. كما يجب أن يتمتع الصحفيون بحرية الإعلام، وان تتوفر لهم اكبر التسهيلات الممكنة للحصول على المعلومات.
إن حرية الرأي الذي تستمد الصحافة أساسها منه تعني:
قدرة الفرد والصحفي في التعبير عن أرائه وأفكاره بحرية تامة مهما كانت الوسيلة التي يستخدمها سواءً أكان ذلك بالاتصال المباشر بالناس ام بالكتابة ام الإذاعة ام الصحف ام بواسطة الرسائل.
وقد جاء قرار الجمعية العامة 53/144/ في 29/12/1998 ليؤكد على حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها دولياً.(3)
وتحقق حرية التعبير والصحافة الكثير من الأغراض، منها كف سلطة الحكومة عن التدخل في الحريات الشخصية للأفراد وحماية حقوقهم لاختيار نهج حياتهم، كما ان حق التعبير يطور الممارسة السياسية وتعددية المشاركة الديمقراطية، ويسمح بصد الأخلاق السياسية للآخرين.
كما إن وجود المؤسسات الصحفية والإذاعية ودور النشر القادرة على إدامة مهامها بحرية واستقلالية يساهم بشكل فعال بالكشف عن فساد الحكومات. وممارسة حرية التعبير يساعد كذلك على ضمان حماية استمرارية الديمقراطية، وإذا كان مجرد النص في أي دستور على حق الرأي والتعبير، لا يعني انه حق مفتوح، والسؤال الذي يثار، وفق أية رؤية ثقافية وفلسفية يجري فيها تفسير او تأويل النص الدستوري الخاص بحرية التعبير والصحافة، فالصحافة هي عالم الحصول على المعلومة المتعلقة بقضية ما من مصادرها المختلفة وبلورة صياغة الآراء الخاصة والتعبير عنها. إن حرية الصحافة والإعلام عموماً وتشريعاتهما باعتبارها ابرز وسائل حقوق التعبير عن الرأي، يشكلان الفضاء الرحب لمراقبة حرية التعبير عن الرأي.
وقد أفرزت دساتير الدول الديمقراطية آليات متقدمة في مجال حرية التعبير، فقد نص الدستوران الفرنسي والأمريكي مثلاً ما مفاده: (لا يصدر قانون يحد من حرية الخطابة أو الصحافة، او يحدد من حرية الناس في عقد اجتماعات سلمية).
أما الدستور الايطالي فحقق خطوة متقدمة بالتشريع، فقد اقر في المجال الصحفي:
" لا يجوز أن تكون الصحافة خاضعة لترخيص او رقابة "
إلا إن سلامة التشريع والنصوص الدستورية في بلاد الديمقراطية الغربية، ليست ضمانة أكيدة لحرية الرأي والتعبير أمام سطوة رؤوس الأموال المحتكرة لدور النشر ومحطات الإذاعة والتلفزيون كما يقول الباحث (كامل الدلفي).
فتأثير إمبراطوريات الإعلام على المتلقي، يجعل من حرية التعبير تحت التأثير المقنن نظراً لما تملكه هذه المؤسسات الإعلامية العملاقة من تأثيرات هائلة على الرأي العام.
وتتسع حرية التعبير لتشمل مجالات متعددة كالصحافة والتخاطب والتظاهر سلمياً وحرية الاجتماع، كما إنها تشمل مجالات حديثة كالفضائيات وشبكات الانترنت.(4)
هكذا يمكننا القول انه: لا توجد حرية رأي وتعبير دون حرية تداول وتبادل المعلومات، ويعتبر الإعلام ميداناً رئيسياً لمشاهدة تطبيقات هذا المفهوم.
وقد أكدت الدورة الأولى للجمعية العامة ذلك، وأصدرت القرار (59 د15) في 24/12/1946 الذي ينص على:(ان حرية الإعلام حق من حقوق الإنسان الأساسية، وهي المعيار الذي تقاس به جميع الحريات التي تكرس الأمم المتحدة جهودها لها).
وكذلك إعلان اليونسكو في دورته العشرين في 28/ تشرين الثاني) 1978 بشأن المبادئ الأساسية الخاصة بإسهام وسائل الإعلام في نشر السلام والتفاهم الدولي ومبادئ (جوها نسبرغ) حول الأمن القومي وحرية الوصول الى المعلومات. وفي الأول من تشرين الاول عام 1995 تم إقرار ما عرف بمبادئ جوهانسبرغ بشأن الأمن القومي وحرية التعبير والحصول على المعلومات.(5)
حرية التعبير في التشريعات العراقية
جاء الموقف القانوني من حرية التعبير في الدستور العراقي ليؤكد من خلال المادة (38) على ان: " تكفل الدولة " بما لا يخل بالنظام والآداب ثلاث ضمانات تمثلت في:
اولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.
ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلام والإعلان والنشر.
ثالثاً: حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وينظم ذلك بقانون.
من نافلة القول، التأكيد على ان أسس النظام السياسي والاقتصادي، وماهية القيم والأخلاق الاجتماعية السائدة والمتصارعة في المجتمع هي التي تتحكم بالمساواة النهائية لمضمون حرية التعبير، ويرى الباحث (صادق التميمي): " انه من المستحيل وضع بيان نهائي ثابت ومحدد ومنصوص عليه تفصيلاً لما تشتمل عليه حرية التعبير والصحافة بحسب الطبيعة المتغيرة والمتحولة للعلاقات الاجتماعية، بل هناك مبادئ وقواعد عامة تكون بمثابة مرجعيات للمحاكم في التصدي لمفهوم حرية التعبير وفقاً للمواثيق الدولية والعراقية.(6)
الآن لابد لنا من وقفة عند عبارة (بما لا يخل بالنظام العام والآداب) التي تصدرت المادة (38) التي اشرنا إليها آنفاً، والخاضع تفسيرها لاجتهاد مصادر القرار، ما لم يتم توضيح حدود العبارات دستورياً , لان العبارة تحمل في طياتها إشكاليات تلقي بظلالها على سلامة تطبيقات وممارسات حرية الرأي والتعبير مستقبلاً تقديرية للقضاء في تفسير النص المذكور، بذلك يكون الصحفي والإعلامي عرضة للمساءلة القانونية تحت حجة مخالفة النظام العام والآداب.
لذلك فان سن قانون للعمل الصحفي والإعلامي، سيقلل الى حد كبير من سقف الاجتهادات التي تبرر تقييد العمل الصحفي والإعلامي. وقد جاء في المادة (46) من الدستور ما نصه:(لا يكون تقييد أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناء عليه، على أن لا يمس هذا التحديد والتقييد جوهر الحق والحرية).مثالاً، فان قانون مكافحة الإرهاب يقرر في طيات بنوده عمومية تخضعه لمزاج التأويل والاجتهاد، وقد يتحول الى سيف ذي حدين كما يقال.ناهيك عن استمرار سريان مفعول قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 الذي يحتوي من المواد التي تكبل حرية الرأي والتعبير، مثل المادة (81) عن النشر، والمادة(84) عن الترجمة، والمادة (204) عن تأسيس الجمعيات، والمادة (364 / أ) بخصوص الإضراب عن العمل وغيرها من مواد الفصل الثالث.(7)
كذلك قوانين وقرارات الحاكم المدني لسلطة الائتلاف سارية المفعول التي تنص على فرض القيود على الجمعيات والنقابات وتحديد مواعيد فتحها أو إغلاقها ومراقبة أعمالها ووضع الحراسة عليها وحلها او إبقائها.
وقرار رقم (17) الذي اعتبر (بريمر) بموجبه جنود بلاده غير خاضعين الى مساءلة المحاكم الجنائية العراقية، وقد تمكن العراق أخيرا بعد مفاوضات مضنية مع الولايات المتحدة، من إخضاع الجنود الأمريكان الى أحكام القضاء العراقي، استناداً الى الاتفاقية الأمنية التي أصبحت نافذة المفعول مطلع عام 2009 م.وكذلك قرار (66) بتشكيل هيئة الإعلام في العراق.
تواجه المحللين مهمة التصدي لإشكالية الإعلام الموجه، التي تضع الحرية الواسعة التي كفلها الدستور العراقي والمواثيق الدولية في حيز ضيق، بسبب ان الكثير من الإعلاميين في بلادنا يعانون من مشكلة التبعية الدائمة لسياسات قنواتهم او صحفهم او لسياسات السلطة أو المعارضة، كل بسبب ما يؤمن به عملياً.فعندما تهيمن ظاهرة الإمعات على أي وسط فكري او ثقافي فانه بالتأكيد سيفقد كلاً او جزءاً من حرية التعبير التي ينبغي ان تكون عنواناً لكل نشاط يفضي الى الوصول الى هذا الهدف السامي المتمثل بحرية التعبير.
فهذه الحرية تعد عنصراً حيوياً للبحث عن الحقيقة، ولا سيما الحقيقة السياسية، ولن تكون هناك حرية تعبير حقيقية، دون الحق في الوصول الى المعلومات والكشف عنها من قبل الهيئات الحكومية، وبغير ذلك فانه لن يستطيع الصحفي والإعلامي ان يمارس مهامه على الوجه المطلوب.
ان مصداقية وسائل الإعلام وشفافيتها واستقلاليتها، تتضح من خلال بلورة رأي عام مشارك في صنع القرار، لكن علينا الإقرار بأن وجود إعلام حر بالمطلق ليس مطلباً واقعياً، ذلك لاختلاف قناعات الإنسان وعواطفه التي تحدد في كثير من الأحيان مواقفه وأقواله وتوجه تفكيره، وفي الوقت نفسه تقلل من مصداقيته.
لذا فان قضية الإعلام غير الموجه، قضية نسبية خاضعة للتفكير الإنساني، فعلى الرغم من تعدد المصادر الخبرية، والكم الكبير من الوسائل، إلا إن اغلبها موجه، ولديه أهداف خاضعة مسبقاً لإيديولوجيات، او لمصالح سياسية او قناعات حزبية، او أحكام مطلقة مسبقة.وتبقى حرية الفكر عن القضايا الصعبة والمعقدة جداً حتى في أكثر المجتمعات تسامحاً، وهي تتعلق بقدرة الأفراد والجماعات على التعبير عن أفكارهم وآرائهم من دون أي مخاوف او تبعات من الأجهزة الرقابية السياسية.(8)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1- من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
2- الانتخابات الحرة والنزيهة (جاي س– جودوين) الثقافة الديمقراطية العدد (2) ص 35.
3- كامل الدلفي/ رئيس مركز الان للثقافة الديمقراطية/ ملحق صحيفة الصباح/ 16 شباط 2007 .
4- نفس المصدر .
5- المواد (19) من الإعلان العالمي و (19) من العهد الدولي وكذلك المادة (20) فقرة ثانيا من قرار الجمعية العامة 53/144 في 29/12/1998.
6- مصدر سابق / المادة (25) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .
7- عن وثائق حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة في الأعوام 1946-1978-1995.
8- صادق التميمي/ دراسة بعنوان (المحاكم العليا في حماية حرية التعبير والصحافة/ ملحق صحيفة الصباح/ العدد / 1783/18كانون الاول 2007 .