المنبرالحر

الفساد بين زمنين / مرتضى عبد الحميد

قبل عقود قليلة، كان العراقيون يحتقرون المرتشي وينظرون إليه على انه دون مستوى البشر الأسوياء، حتى أن الكثير من العوائل والعشائر كانت تستنكف وتمتنع عن تزويج إحدى بناتها له.
كان عدد المرتشين آنذاك قليلاً جداً، ويقتصر على البعض من ذوي الدخول الواطئة، (كانت رواتبهم الشهرية لا تتجاوز الأربعة دنانير). إما الرشى التي يأخذونها، فهي تافهة بالقياس إلى ما يأخذه المرتشون اليوم، ولم تكن تتعدى المائة فلس أو الثلاثة دراهم. ومع ذلك كنا نسمي الواحد منهم بـ»أبو الواشر» كناية عن الاستهجان وعدم الاحترام.
والسبب الرئيسي في ذلك، هو أن المجتمع العراقي كان معافى اجتماعياً، ويمتلك من التقاليد والقيم الجميلة، ما يفخر بها كل من انتمى إلى ارض الرافدين. وعلى الصعيد السياسي كانت الحركة الوطنية والتقدمية في أوج نشاطها وعطائها، وقدرتها على استقطاب عشرات ومئات الآلاف من أبناء شعبنا العراقي، وخاصة الكادحين منهم، للنضال من اجل حقوقهم ومطالبهم المشروعة، وبالتالي تكريس كل ماهو جميل ونبيل في حياتهم.
ثم جاءت حادلة البعث وحلفائه في شباط الأسود وما بعده، لتدوس وتسحق هذه المنظومة الرائعة من القيم الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، وفق خطة مبيتة، رسمت خطوطها العريضة وراء الحدود، لتبدأ مسيرة التخلف والتراجع، وصولا إلى الحقبة الكارثية أيام صدام حسين واحتلال العراق، ومن استعان بهم المحتل من الذين فازوا بلعبة الروليت الأمريكي. فأحتلوا مواقع المسؤولية وقادوا البلد من كارثة إلى أخرى، حاملين بأحدى اليدين شهادة عدم الكفاءة وسوء السلوك، وباليد الأخرى شعارهم العتيد «الفساد هويتنا» مضيفين في الوقت ذاته إلى الفساد المالي فساداً إداريا فاقعاً، وفساداً سياسياً قاتلاً.
إن الحصيلة التي حققوها لنا خلال السنوات الاثنتي عشرة العجاف الماضية، لا تحتاج إلى برهان أو دليل، فالكل يعرفها ويعيشها على مدار الساعة، والفساد بأنواعه القديمة والمبتكرة، وخصوصاً الرشوة، بات كابوساً يجثم على صدور العراقيين ويتراءى لهم حتى في أحلامهم، بل انه صار خطراً داهما يهدد بنسف وانهيار أسس المجتمع والدولة معاً.
نسمع ونرى احياناً الواناً من الفساد، ينزوي الخيال خجلاً منها، كما يحصل على سبيل المثال في مأساة النازحين، وسرقة الأموال والمساعدات المخصصة لهم، فهذه منظمة مجتمع مدني تعمل في مجال خدمة النازحين في إحدى المحافظات القريبة من بغداد، أرادت أن تقدم مشروعاً صحياً وتعليمياً لأبناء النازحين، لكن هذا المشروع الإنساني أجهض، لان احد نواب البرلمان اشترط أن يحصل على نسبة 30 بالمائة من المبلغ المخصص لهذا المشروع، مقابل كونه أمّن للمنظمة الموافقة عليه! ويطالب الوسيط الذي عرفهم على السيد النائب بحصته أيضا، دون أن ينسى المحاسب حصته من هذا «الربح الحلال» وهو ما يعده اضعف الأيمان!
وهذا النموذج «الشريف» غيض من فيض واقعنا المأساوي الحالي، والمصيبة انه لا توجد إجراءات فعلية للحدّ من هذه الظاهرة المخيفة، دع عنك القضاء عليها. بل حتى الاحاديث التي كنا نسمعها عن الفضائيين والإجراءات القانونية والتأديبية التي ستتخذ بحق الفاسدين والمفسدين، انزوت هي الأخرى في زواية منسية. فهل سيتذكرها المسؤولون مجدداً، ويبدأون بالتصدي الجدّي لهذا الغول الذي لا يقل خطراً وتدميراً عن الإرهاب والارهابيين؟