المنبرالحر

البنك المركزي التجارب ومتممات المساءلة وأخواتها! / إحسان شمران الياسري*

خاضت المؤسسة النقدية العراقية تجارب مهمة عدة منذ عام 2003. وننطلق من هذه الحقبة من دون ان نغفل التاريخ المجيد لهذه المؤسسة الذي ابتدأ منذ عام 1931 في العراق برسالة وزير المالية المرحوم توفيق السويدي الى مجلس الوزراء بضرورة تأسيس سلطة نقدية عراقية.. وتكللت مسيرة هذه السلطة عام 1947 بتأسيس البنك المركزي العراقي (المصرف الوطني العراقي)..
ومثلما يُقال في أن القوانين تعبر عن الإرادة السياسية للسلطة، فأن عام 2004 كان عاما مهما في تأريخ المؤسسة النقدية العراقية، عندما صدر قانون البنك المركزي رقم 56 والذي أعطى بوضوح ملامح مستقرة لمفاهيم كانت غائبة او مُـغيّبة، وأهمها مفهوم الاستقلالية.
وتأتي أهمية هذا القانون مع أهمية التحول السياسي في مفهوم الدولة ونظامها السياسي ونمط العلاقة بين مؤسساتها الثلاث.. ففي زمن سبق 2003 لم يكن مفهوما أو واضحا ذلك النمط في العلاقة بين المؤسستين التشريعية والتنفيذية، إذ كان العراقيون يرون أن السلطتين في جيب شخص واحد، أما المؤسسة القضائية فربما كان حالها أفضل في مفهوم الفصل بين السلطات، ولكنها عند الشخص الواحد قد تتوقف وتتحد.. وكل ذلك، مع وجود إطار تشريعي قابل للحياة لولا أن تعبر الإرادة الشخصية عليه فتعطله.. وكان البنك المركزي يعيش ويعمل تحت عباءة السلطة الرئاسية وأحيانا عباءة السلطة المالية..
وبعد صدور قانونه الجديد، وسقوط النظام السياسي الذي كان قادرا على استيعاب كل شيء بـ (جرة قلم)، تغيّرت العقيدة وتغيّرت الإرادة، وأصبح القانون أحد أركان البناء المؤسسي في الدولة، ولهذه المؤسسة بالذات (البنك المركزي)..
وكانت أولى التجارب (بعد التغيير) تجربة استبدال العملة العراقية، (عملة صدام، كما كان يسميها التحالف الدولي الذي احتل العراق)، بأوراق نقدية جديدة مطبوعة خارج العراق بمواصفات فنية وأمنية عالية.. وقد قيل أن عملية الاستبدال، رافقتها بعض ممارسات التحايل على آليات ولجان التبديل، وأن بعض الأوراق النقدية التي كان يفترض أن يجري اتلافها في مواقع الاتلاف (المحرقة)، تم إعادة إدخالها أكثر من مرة الى الموقع وقيدها في السجلات ثم أخرجت وأعيدت مرة أخرى.. وهذا يعني أن الذين أعادوا إدخالها أكثر من مرة، أفادوا بعدد المرات المكررة بمبالغ قيمتها الدينارية.. (استعضنا عن عبارة العُـملة بعبارة الأوراق النقدية، ولكل واحدة منهن مفاهيمها القانونية والاقتصادية، إلا أن الأوراق النقدية بمفهومها المرتبط بورقة النقد الدارجة في الاستخدام تؤدي مفهوما أقرب إلى هدف هذه المقالة). وبالرغم من ذلك، مثلت هذه التجربة أكبر تحد للمؤسسة في زمن قلق وتحت معايير ملتبسة في التعامل مع الاحتلال ومع المؤسسات العاملة تحت إشرافه.
وبسبب هذه التجربة التي أريد لها أن تتم سريعا بدعوى التخلص من (عملة صدام) وأية آثار تُذكّر الناس بمرحلة حكمه، تعذر على البنك المركزي ولأكثر من مرة طرح مشروع حذف الأصفار وإعادة هيكلة العملة العراقية، لأن البعض، وخصوصا من أهل السلطة، افترضوا أن أية عملية من هذه الشاكلة، والتي يكون أحد أركانها استبدال الأوراق القديمة بأوراق جديدة، واتلاف الأوراق القديمة، سترافقها ممارسات فساد كتلك التي حدثت عام 2004، وأن المجتمع (شبع) من سماع الأصوات التي تلعن الفساد والفاسدين، وليس ثمة قدرة على إضافة ممارسات فساد جديدة، وفاسدين جدد، و(لاعنين!!)..
وربما تأتي الفرصة للحديث عن هذا المشروع ودواعيه وآليات تنفيذه.
كانت التجربة الثانية للسلطة النقدية في العراق، بعد صدور قانونها الجديد، هي عملية بيع العملة الأجنبية من خلال ما عُـرِف بـ (مزاد العملة الأجنبية)..
وكانت ولم تزل إحدى التجارب التي (ملأت الدنيا وشغلت الناس)، وكانت مثار جدل من أبواب شتى، تناولها العارفون وغير العارفين وتصدى لها كل من رأى نفسه قادرا على الحديث، أو محروما منه.. ولم يكتف الناس من تناولها لذاتها، بل حمّلوها بكل ما يستطيع المقام، وما لم يستطع، احتماله من مصطلحات ودلالات وآثار.. وتشارَك الجميع في إدانتها، ثم تشاركوا في الحيلولة دون غلق نافذتها، وتشارك البعض منهم في جهود الكسب منها. وقد أسهم البعض في (لوي) الأمور لتكون قابلة للمغانم حتى لو كان ذلك على حساب هذهِ المؤسسة وموظفيها وعلى حساب فرص تأسيس مفاهيم المساءلة والمتابعة..
وعلى أية حال، كانت هذه التجربة من أهم ما قام بهِ البنك المركزي محاولا ترشيد استخدام العملة الصعبة من جانب، والمحافظة على احتياطيات العراق من العملة الصعبة في الخارج..
ومن داخل هذهِ التجربة (بيع الدولار) حاول البنك تجريب أكثر من طريقة ومستوى من العلاقة بين مشترين الدولار وبينه، وضغطت الأمور على البنك بسبب الصخب الشديد الذي أحدثه الفراغ النوعي في تفكير بعض المتصدين لمهام المساءلة والمتحمسين لإبداء الحرص على ثروة العراق ومستقبله.. حتى وقف البنك المركزي وحيداً أمام آلاف الألسن التي وجدت في هذهِ المؤسسة الهادئة والصامتة ملعباً مناسباً لتجريب أوتارها الصوتية، واختيار أية نغمات تصلح للمستمع الذي وقف مذهولاً أمام الكم الهائل من النقد والتحليل وتبضيع المشكلة ثم تجميعها ثم تقييمها ثم تعليبها..
ولم تكن المؤسسات الدولية بعيدة عن هذا الملعب، وكانت لها أوتارها، و(جداول النوتة) التي يجب التساوق معها..
فكان صندوق النقد الدولي، وبأعلى صوته، يقول: عليكم أن لا تضعوا أية قيود على بيع الدولار سواء كان نقداً في الداخل، أو عن طريق تمويل التجارة الخارجية بالحوالات، وكان هذا الصندوق يقرأ التعليمات التي يصدرها البنك المركزي ويفكك كل فقرة فيها مخافة أن ترد في السطور أو بينها، إشارة الى وجود قيد أو تحديد على المصارف أو مشترين الدولار.. وكان البنك عندما يكتب التعليمات، يُعيد قراءتها للإطمئنان الى إنها توازن بكل دقة بين ثلاث عناصر أساسية: حماية احتياطيات البنك، تلبية حاجة الاقتصاد العراقي، المؤشرات والرقابة غير المباشرة للمؤسسات الدولية.
حتى سمعت يومياً أحد مسؤولي البنك يقول بوضوح (انتبهوا، قد تفسر هذهِ العبارة على أنها محدد على بيع الدولار).. وقد قال ذلك بعد أكثر من سنتين على إقصاء محافظ البنك المركزي وزج العشرات من موظفي البنك في السجون بما فيهم كبار الموظفين.. بمعنى إن مسؤولاً في البنك المركزي، وبالرغم من المحنة التي مرت بالبنك، والتي كان يفترض بعدها أن يغلق البنك أبوابه ولا يبيع أي دولار، خوفاً من المساءلة الداخلية التي كان فيها حجم الدخان أكثر من الرصاص الذي أطلق في معركة اثبات الوجود والوجود المقابل، بين المؤسسة وبين المتصدين لسياستها (عارفين بما يفعلون أو غير عارفين)، أقول إن مسؤولاً في البنك بالرغم من كل ذلك، لم يزل يدرك إن قواعد الموازنة الثلاثة لم تزل قائمة، وعلينا أن ننظر الى الثلاثي المقدس (الاحتياطيات، حاجة السوق، رأي المؤسسات الدولية) بكل عناية، ولا نفرط في مشاغلنا لتحقيق هذا الثلاثي.. وقد دخل عنصر رابع لا يقل أهمية وتأثيرا وهو البنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، الذي قال للبنك المركزي بوضوح: عليكم أن تقللوا من حجم البيع النقدي للدولار في الداخل لأننا نخشى أن جزءاً منه قد يذهب الى داعش أو الى دول ليست صديقة لنا وخاضعة لعقوباتنا الإقتصادية والسياسية.. وعندها فهم البنك المركزي إن هذهِ الملاحظة، بالرغم من اللغة الودودة التي طرحت بها، إنما هي إشارة في غاية الوضوح الى إمكانية الفدرال الأمريكي منع تزويد البنك بالنقد الأجنبي ما لم يضع حدوداً وقيوداً على تداول هذا النقد وبما يضمن وصوله الى المحتاجين الفعليين، وعدم خروجه الى جهات وقوى معادية.
ويوم واجهت عملية إعداد الموازنة الإتحادية مصاعب في تأمين متطلباتها، أخذ البنك المركزي دورا في تحديد آفاق واتجاهات إعداد الموازنة، بل أسهم في تركيب هيكلها بما يضمن أقل قدر من الأضرار على حياة شعبنا العراقي ومتطلبات النصر في المعركة مع الإرهاب، وهي تجربة مضافة لتجاربه بعد أن كان يُنظر إليه كدائرة إصدار نقد ليس إلا.
وقد باشر البنك بوضع خطط تضمن قدر أكبر من الرقابة على تداول العملة الأجنبية وتؤسس لنظام معلومات متكامل عن المستوردين ابتداء من تقديم طلب شراء الدولار لغرض تغطية الإستيراد ووصولاً الى دخول البضائع والسلع الى العراق ودفع الرسوم الكمركية والأمانات الضريبية.. واعتقد إن هذهِ الآلية تمثل واحدة من تجارب السلطة النقدية في التصدي لقضايا عامة.
ففي غمار البحث عن وصفة سحرية تضمن تمويل الإستيراد، وقطع الطريق على المضاربين، وتأمين موارد معقولة للخزينة، طرح البنك فكرة ايداع مبالغ بالدولار في حسابات المصارف في الخارج، على أن تقوم المصارف بإيداع المبالغ الدينارية لتلك الإيداعات قبل إسبوعين، وهذا يقطع السبيل على المضاربين الذين كانوا يجلبون الدينار الى المصرف في الصباح ويأخذون الدولار ظهراً. كما ألزم المصارف باستيفاء مبالغ من المستورد (مشترين الدولار) في صيغة أمانات كمركية وضريبية، ليوفر قاعدة معلومات عن المستوردين من جهة، وليضمن حصيلة مالية مناسبة، خصوصاً وإن دائرتي الضريبة والكمارك تسألان المستورد عند دخول البضائع الى العراق عن أية فروقات في كمية المواد المستوردة ونوعياتها عمّا قدمه للمصرف بموجب نظام تبادل معلومات تم وضعه بالتفاهم بين الدائرتين أعلاه والمصارف والبنك المركزي.
ويسأل البعض لماذا ارتفع سعر صرف الدولار عمّا كان عليه قبل أشهر، فيما يغفل حقيقة إن السعر ليكون مستقراً، عليك أن تلبي كل الطلب بما في ذلك طلب المضاربين، وطلب دول الجوار، وعليك في ذات الوقت أن تضمن المحافظة على الاحتياطيات. ثم يأتي المُشرّع ليضع في قانون الموازنة محددات على حجم المبيع، وهي أهم رسالة التقطها الجمهور من قانون الموازنة، وتوجّه الدولة، فأصابه القلق على وفرة الدولار.
إن تجارب السلطة النقدية في العراق تمثل تجارب الدولة العراقية في أهم منعطف من منعطفات البناء الإقتصادي والمالي، وستتكفل الأيام بإثبات محدودية الفرص المتاحة في تقديم ما هو أفضل مما وقع. وستبقى المؤسسة النقدية واحدة من أهم المؤسسات ذات العمل يومياً وفي كل ساعة، وهي المؤسسة الوحيدة التي تسكن منتجاتها في أيدينا وجيوبنا وتحت وسائدنا، وعندها يمكن تقدير مدى حساسية التعامل مع القضايا ذات الصلة بها، وتناولها بطريقة بناءة أساسها الفهم للوظائف والأدوار.
ـــــــــــــــــــــــ
* محاسب قانوني وخبير نقد