المنبرالحر

حركة حسن سريع الثورية .. وقطار الموت / جبار العلي

من خلال التعرف على طبيعة الحركة اتضح انها حددت عدة مواعيد لتنفيذها منذ الشهر الخامس 1963 وبالاعتماد على بعض الجنود الابطال المتواجدين في معسكر الرشيد وسجن "رقم واحد" العسكري وغيرها.
ولأسباب عديدة بحسب ما دار في داخل المعسكرات من تأخير ونقل وغير ذلك تأجلت الانتفاضة الى يوم 3/ 7/ 1963.
وهناك اماكن عديدة كانت تعتبر مقرا آمنا لاجتماعات هؤلاء الجنود الابطال وهذه الاماكن باعتقادهم هي بعيدة عن انظار الحرس القومي الفاشي ومخابرات الحكم الفاشي واهم هذه الاماكن: محل خياطة حافظ لفتة الذي هو احد قياديي الحركة.
وفي معرض مذكرات طالب شبيب كان لدى حزب البعث الحاكم معلومات عن طريق عيونهم عن وجود تنظيم عسكري يضم جنودا وبعض خلايا الحزب الشيوعي الصغيرة التي تنشط في بعض احياء بغداد.
وكذلك هناك العديد من المعلومات التي وردت على لسان كتاب تقدميين وشيوعيين ومنهم د. علي كريم سعيد وزكي خيري وسعاد خيري عن وجود حركة او تمرد باسم " حسن سريع".
خطة الحركة تبدأ بتحرك عسكري شامل انطلاقا من معسكر الرشيد وتمتد الى معسكرات اخرى في بغداد والهدف منها احكام السيطرة على تلك الوحدات والبعض الآخر كان يهدف الى عرقلة وارباك صفوف القوات الحكومية البعثية ونشط في ذلك بعض المدنيين المنضوين داخل حركة حسن سريع.
وبحسب ما ورد في كتاب "البيرية المسلحة" بدأ كل من حسن سريع ومحمد نجيب وقاسم محمد وآخرون تأسيس شبكة اتصالات واسعة وتجنيد أعداد من المتعاطفين من عسكريين ومدنيين معهم.
كانت الخطة تبدأ من معسكر الرشيد - كتيبة الدبابات الاولى - وقاعدة بغداد الجوية والمطار العسكري لتهيئة الطائرات حتى يستطيع الضباط الطيارون بعد تحريرهم من السجن العسكري "رقم واحد" استخدامها وضرب الاهداف المحددة لهم.
ان تفاصيل سير العملية الثورية سبق ان كتب عنها في الكثير من المتابعات وبالاخص في معرض الرد المفصل للحركة الذي تطرق اليه الدكتور علي كريم سعيد في كتابه الموسوم " البيرية المسلحة".
العلاقة بين الحركة وما تبقى من تنظيمات الحزب وعدد من القيادات التي لا تزال حرة، ولا اريد التطرق اليها هنا لانه سبق ان كتب عنها الكثير في الجانب السياسي الايجابي والسلبي.
ان من اهم اسباب فشل الحركة هو عدم وجود قيادة عسكرية من الضباط المتمرسين على القيادة والعمل الثوري اضافة الى اسباب متعددة سبق ان تطرق اليها العديد من المتابعين لها. وكذلك عملية عدم قتل الاسرى تحت شعار (محاكمتهم) وهذا بنظري غير وارد في العمل الثوري لاسباب كثيرة. وكذلك الدور غير الواضح للعسكريين المعتقلين في سجن "رقم واحد" العسكري بين السلبية وانتظار نتائج العملية وامور اخرى كثيرة تتعلق بالتنسيق والتعاون وبالاخص بين قيادة الحركة وبعض الجنود داخل حراسة السجن العسكري وحول كيفية كسر الابواب والسيطرة على مشجب السلاح والتدابير الاخرى.
السؤال المهم الذي يطرح : هل تمت الاستفادة من درس حركة حسن سريع وقبلها؟
النتائج الاولية
في الوهلة الاولى لاخماد الحركة اجتمع مجلس قيادة الثورة حيث طالب عبد السلام عارف بإعدام كافة الضباط والمدنيين المعتقلين في السجن العسكري "رقم واحد" والذين يقدر عددهم بأكثر من ألف ضابط. ويقول هاني الفكيكي ان مجلس قيادة الثورة كان مصرا على اعدام 450 ضابطا من الضباط الشيوعيين ومناصري قاسم وكان في مقدمة الداعين للاعدام عبد السلام عارف والبكر وبحسب ما يدعي الفكيكي في " اوكار الهزيمة" 1993 بان هناك خلافا بين العسكريين المندفعين لاعدام السجناء وبين القيادة المدنية الرافضة للاعدام.
وفي نفس السياق تم اقناع عارف وزمرته بنقل الضباط والآخرين الى سجن نقرة السلمان وان يتم هناك اعدام عدد محدود منهم.
ويدعي الفكيكي وحازم جواد وآخرون ان مجلس قيادة الثورة بقيادة عارف والبكر كانوا مصرين على ارسال السجناء بقطار حمل. ويدعي حازم جواد ان عبد الغني الراوي اقتحم اجتماع مجلس الثورة وقدم لهم ورقة يدعي فيها ان علماء الدين السنة والشيعة اجازوا قتل الشيوعيين وفي حينها هتف عارف: ماذا تريدون اكثر من هذا التأييد؟
ويدعي الفكيكي ان مجلس قيادة الثورة وافق على ترحيل السجناء الى نقرة السلمان بقطار الحمل على ان يسافر معهم كل من عبد الغني الراوي والبكر للاشراف على تنفيذ حكم الاعدام بعدد من الضباط وبعد ان انسحب البكر من الفكرة لحقه عارف. تم تغيير الاقتراح الى اعدام 150 من الضباط وبعدها 30 ضابطا فقط. ويدعي الفكيكي ان عبد الغني الراوي رفض تنفيذ الامر باعدام 30 منهم لقلة العدد ولذلك تخلى عن متابعة فكرة اللحاق بالسجناء بعد وصولهم الى نقرة السلمان.
ويدعي حازم جواد ان القيادة المدنية لحزب البعث لم تكن وراء قرار ارسال السجناء بما يسمى قطار الموت وان من ارسلهم هم عارف والبكر وعماش.
تختلف الروايات حول عدد الضباط الذين تقرر اعدامهم فيدعي الفكيكي ان عبد الغني الراوي اعتبر العدد 150 ضابطا قليلا لا يستحق السفر شخصيا من اجله.
كان عدد ركاب قطار الموت 520 ضابطا وعسكريا واسماؤهم مذكورة في كتاب "البيرية المسلحة". وفي مساء 3 تموز بدأت عملية تجميع الضباط بحسب قوائم معدة مسبقا وتم تجميعهم وفق القوائم على رصيف شارع السجن الرئيس في صفوف ثم بدأت عملية ربط الايدي بالحبال خلف ظهور السجناء وكان ضباط السجن من حثالات البعث يكيلون الشتائم والاهانات لنا. وبعد ذلك صعدنا في عربات نقل عسكرية الى محطة القطار العالمية ثم دفعونا الى قطار الحمولة من دون طعام او ماء منذ اكثر من يوم، وللحقيقة لم نكن نعرف الى اين سائرون بنا هؤلاء الكلاب ونحن في الطريق نسمع اصوات السيارات والمارة في الشوارع، ولكن كان هناك همس من بعض الحراس المتعاطفين معنا مفاده ان وجهتنا هي المحطة العالمية للقطار والرحلة الى سجن نقرة السلمان، علما ان اكثر الظن كان لدينا بانهم سائرون بنا الى ام الطبول لاعدامنا.
وفي محطة القطار التي كان يشرف عليها آمر السجن العسكري والفكيكي مسؤول نقابة عمال السكك الحديد وآمر قوات الحرس القومي في قاطع السكك، وكان هناك بعض الحراس المزيفين كتمويه وترتيبات متعددة لارباك الوضع على السجناء. وكان يشرف على العملية الاجرامية كل من عارف وطاهر يحيى ورشيد مصلح وعدد من جلاوزة البعث.
وكانت هناك قائمة بأسماء عدد من الضباط معدة مسبقا تمت قراءتها وفرزنا من بين المجاميع وكنا نتصور انها القائمة المعدة للاعدام وبعد برهة من الزمن صعدنا الى العربات.
كل هذا تم في وقت متأخر من الليل وبحسب ما علمناه انهم ارسلوا بطلب سائق القطار المدعو (عبد عباس المفرجي) حيث تم ابلاغه ان هناك رحلة مفاجئة تتطلب حضوره الى المحطة لقيادة القطار النازل الى مدينة البصرة والذي يحمل مواد حديدية خاصة.
وفي رسالة من السيد مظهر عبد عباس وهو نجل سائق القطار يقول فيها: حدثني والدي السيد عبد عباس المفرجي قائلا: بلغت بقيادة القطار قبل ساعات فقط من انطلاق الرحلة، ويظهر ان القتلة قد اركبوا السجناء في العربات الحديدية المزفتة من الداخل والمغلقة بإحكام وكان بحضور مصطفى الفكيكي والشلة الفاشية الاخرى، وقد حددت السرعة التي يجب ان يسير بها القطار وهذا يعني ان الرحلة ستستغرق اكثر من 10 ساعات للوصول الى السماوة.
تم ترحيل القطار من دون تزويد حراسه بمفاتيح اقفال العربات، وكذلك خلو المحطة من العمال المدنيين ولم يحضر مراسيم الترحيل غير المسؤولين العسكريين وجلاوزتهم وعدد من المسؤولين الحزبيين والحرس القومي.
وبعد انتظار طويل وقوفا امام المحطة بدأ الحراس يقتادوننا الى قطار الحمولة الذي هو عبارة عن عربات حديدية بلا منافذ ومحكمة الاغلاق ومزفتة من الداخل ومعتمة وكان بين العربات هناك عربات مفتوحة للحراسة.
دفعنا الى العربات بعد ان فكت قيودنا والسلاسل والحبال وبين الساعة الثالثة والرابعة من صباح 4 تموز 1963 تحرك القطار وكان في نية القتلة القضاء على السجناء داخل العربات لا محال، وفقا لتعليمات السير بالوقت المحدد للسائق وهذا الوقت سيكون الكفيل لكي يتسلل الموت المحتم الى السجناء قبل استكمال الرحلة الى السماوة لان حرارة تموز سوف تدمر كل شيء داخل العربات التي ستصبح (تنور متحرك) اضافة الى الابخرة التي تتصاعد من السقف المبطن به العربات.
وبعد موجة البرد من الليل وصلت ساعة الصباح واشتدت اشعة الشمس وبدأ يسخن كل شيء على ارضية العربات وحينها بدأنا نشعر بان حرارة الشمس تحيط بنا من كل جانب ومن اجل طرد الخوف من المجهول بدأ البعض منا يردد بعض الاغاني الثورية والاناشيد الشعبية اضافة الى الاحاديث والتساؤلات الكثيرة والمختلفة.
وبحسب تقدير الاطباء من السجناء فانه لا يوجد لدينا فرصة اكثر من ساعتين فقط من اشتداد حرارة الشمس التي سوف يمتصها الحديد وكذلك ارضيات العربات المطلية بالزفت فتتحول كل عربة الى تنور او فرن مغلق على لحوم بشرية موضوعة على نار هادئة.
وارتفعت درجات الحرارة حتى وصلت الى اكثر من 50 درجة مئوية واشتدت علينا الآلام وارتخاء العضلات وبدأت حالتنا تسوء وتزداد سوءاً وبسبب التعرق وانخفاض نسبة الماء والاملاح في اجسامنا ادت الى الشعور بحالات الاختناق والغثيان وهبوط الضغط والاغماء والتقيوء وبدأنا نشعر بالالم الشديد وعدم القدرة على الوقوف بسبب حرارة العربات وسقط الكثيرون منا على ارضية العربة نصف مغمى عليهم ولم يبق امامنا سوى اجسادنا واجساد الآخرين.
كنا كمحاولة لاشعار الناس بالخارج بوجودنا استعملنا الطرق بقوة على جدران العربات والصراخ ولكن كل هذا لم ينفع بسبب ضجيج وصليل الحديد الذي يصدره سير القطار، وحتى الفتحات البسيطة - الشقوق - في جدران العربات التي كنا نتناوب على التنفس منها لم تجد نفعاً.
حديد ام بشر؟
وبشكل مطلق كان السائق وحراسه يظنون ان حمولتهم هي حديد او مواد حديدية ولكن في لحظة واثناء توقف القطار في محطة في منتصف الطريق الى السماوة للاستراحة يقول سائق القطار: " اثناء توقفي صعد شخص في الثلاثين من عمره وقال: خالي تعرف ان حمولتك ليست حديدا بل بشر هم افضل ابناء الشعب"، فاهتز السائق المفرجي مذهولا لمعرفته بعدم قدرة انسان على تحمل حرارة شمس تموز داخل العربات الحديدية حتى مدينة السماوة، اي للمسافة الباقية وهي (160) كم فضلا عن محطات متعددة للتوقف وهنا كلف مساعده للتأكد من ادعاء ذلك الشخص المجهول، وبعد قليل عاد مساعده مصفرا وهو يصيح: "إلحك الحچي طلع صدك" حينذاك شعر السائق بالرعب وفكر بسرعة حتى لا يتحمل وزر تابوت جماعي وحينها ادرك لماذا كانت كل تلك الوجوه المهمة في وداع القطار في المحطة العالمية؟
واخذ يراقب الحراس المدنيين المرافقين للقطار متأملا وجوههم ومستعيدا تصرفاتهم والذين كانت مهمتهم منع اية محاولة قد تأتي من الخارج لكسر الاقفال.
وتأججت نخوة السائق المفرجي وشهامته العراقية فقرر ان يقوم بواجبه مهما كان الثمن والعقوبة، حتى لا يكون شريكا في الجريمة ويتحمل مسؤولية موت بشر ابرياء، فحزم امره واسرع في انجاز الشؤون الفنية الضرورية لمواصلة الرحلة وانطلق بالقطار قبل الموعد المحدد وبسرعة قصوى حتى يصل الى السماوة متجاوزا اكثر المحطات الباقية، ويقول واصلنا السير وعبرنا المحطات الاخرى حيث كنا نقابل في كل محطة الناس محتشدين على جانبي سكة الحديد حتى وصلنا السماوة.
وهنا لا بد من الذكر ان ابناء المحاويل او اية محطة اخرى يمر بها هذا القطار المشؤوم يحتشدون حاملين (اسطل) الماء. ففي الديوانية رش عدد من المنتظرين الماء على العربات ويقول المفرجي اقتربت مني امرأة وقبلت يدي في غفلة مني وقالت: " ارجوك اوصلهم بسرعة". والجدير بالذكر هو كيف وصل وانتشر خبر القطار لكل هؤلاء الناس وبهذه السرعة والتحشيد.
السماوة.. وصل خبر القطار الى اهالي السماوة عن طريق احد وجهاء المدينة وهو والد لاحد السجناء الضباط حيث طبخت النساء وخبزت الخبازات واحضروا الطعام ما يكفي لاكثر من عدد السجناء وجهز سيارة حمل تحمل المواد الغذائية والماء مع رتل السيارات المتجه الى سجن نقرة السلمان.
وصل القطار الى محطة السماوة قبل الموعد الذي حددته مصلحة السكك الحديد باربع ساعات تقريباً، بسبب اختصار السائق الشهم للكثير من الاجراءات والروتين وكذلك لعدم التوقف في الكثير من المحطات، حيث كان يلاحظ العديد من الناس في المحطات التي كان يمر بها وكأنهم على علم بما تحمل العربات الحديدية المغلقة.
واخيراً توقف القطار واحتاج السجناء الى الجهد الكبير حتى يعلموا انهم في محطة السماوة، فبدأنا بقرع الابواب والصراخ لفتح الابواب ولجلب انتباه الناس المجتمعين على ارصفة المحطة. وعلى عجل طلب سائق القطار من ناظر المحطة فتح العربات، وهنا بدأت مناظر السجناء المنهكة والاجساد البشرية الشاحبة زاحفة الى خارج العربات الحديدية وتهاوى الكثير منا أنصاف عراة على رصيف المحطة وكان الكثير منا بحاجة الى المساعدة لاخراجهم من العربات لانهم منهكون وفاقدو الوعي وهنا فقدنا اول شهيد قطار الموت الرائد (يحيى نادر) لانه كان مصاباً بمرض الربو. وكان منظر السجناء وهم شبه عراة على الرصيف مرعباً ويثير الخوف والغضب على قتلة الشعب والوطن.
وعندما فتحت العربات واندفع من كانت لديه الطاقة للحركة نحو حنفية الماء على رصيف المحطة وهنا وقف الطبيب رافد صبحي أديب محذراً من شرب الماء لكي لا يؤدي الى فقدان الاملاح وهبوط الضغط وبالتالي الى الوفاة.. وهرع الناس الى جلب الملح وتجمع بقية الاطباء من السجناء الى معالجة الماء بالملح وتقديم العون واعطاء كل واحد منا كمية من الملح.
هناك العديد من المفارقات التي برزت نتيجة التوتر والانهيار العصبي والنفسي للسجناء ومن ابرزها الرد العنيف والمبرر للمرحوم قيس محمد صالح على الضابط المسؤول عن القطار وغيرها من الامور التي برزت حينها.
ومن اللافت للنظر هو سرعة تجمع الاهالي من ابناء السماوة رجالاً ونساء واطفالا الذين سارعوا الى المحطة بالطعام وسلال الفاكهة والذين لم تتمكن سلطات الامن من منعهم وكان ذلك تعبيراً عن عدم رضا ابناء الشعب عن تلك الممارسات اللا انسانية والفاشية لجلاوزة النظام البعثي.
وللحديث عن ضرب الملازم المرحوم قيس محمد صالح لهذا المسؤول التافه تجمع افراد الحرس القومي ورجال الامن بعد ان تدهور الموقف وطلب آمر الحرس المعتدى عليه تسليم قيس محمد صالح، لكنه فوجئ بوقوف مئات السجناء بين هذا الآمر الغبي وبين تسليم المرحوم قيس محمد صالح وهتفوا (سنموت جميعاً قبل تسليمه) ما ادى الى تراجع المسؤولين عن القضية.
في سجن نقرة السلمان
وتم ترحيلنا الى سجن نقرة السلمان في نفس اليوم رغم بؤس حالتنا الصحية والنفسية والارهاق الجسدي لنا. وجرى نقلنا بسيارات في رحلة صحراوية طويلة نحو سجن نقرة السلمان، ومن الجدير بالذكر ان أزمة السجناء استغرقت اكثر من (30) ساعة تحملنا خلالها ضغطاً متواصلاً ومصاعب كثيرة ولازمنا الموت اكثر من مرة ولكن شجاعة السجناء وتماسكهم ابقتنا أحياء وكانت من الاسباب الاساسية لصمودهم الذاتي والموضوعية التي تداخلت مع بعضها لتعطينا رغبة اضافية في البقاء. وخلال سير المركبات نحو السلمان بدأنا ننشد الاغاني الوطنية والشعارات ذات الطابع السياسي والحزبي مثل: سنمضي الى ما نريد وطن حر وشعب سعيد وكذلك من الامور المهمة والجديرة بالاعتزاز والفخر هو موقف سائق القطار الذي اتخذ القرار الصائب والجريء بزيادة سرعة القطار وعدم الوقوف في المحطات وعدم التزامه بتعليمات السير المرسومة له والذي يدل على ضميره الحقيقي النبيل وشجاعته.
وسارت الباصات بنا من محطة قطار السماوة الى سجن السلمان تحت حراسة عدد من سيارات الشرطة يتبعهم لوري بالمواد الغذائية هدية السيد طالب والد احد الصيادلة السجناء.
وفي اعتقادي ان سجن السلمان اكثر أمناً من السجن العسكري "رقم واحد" رغم كونه في منطقة صحراوية وبعيداً عن المدن.
وفي السجن (نقرة السلمان) تم استقبالنا من قبل الرفاق الموجودين سابقاً وتمت العناية بنا وتوزيعنا على القاعات وتقديم كافة المستلزمات الضرورية وبحسب الامكانية وقد بذلوا جهوداً كبيرة في تنظيم وترتيب المعتقل، فأقاموا فيه ادارة ذاتية ووزعوا المهام بحسب الاختصاصات من الخبز الى المطبخ والحمام بما في ذلك غسل الملابس والتنظيف والمكتبة التي احتوت العديد من الكتب وتشكيل حلقات تنظيف يعطى فيها دروس في الفلسفة والمجتمع والاقتصاد والثقافة العامة وكان يجري اعداد نشرة اخبارية يومية يعدها مكلفون بالانصات للاخبار العالمية ولاذاعة "يكي ايران" وصوت العراق الحر, فضلاً عن الاخبار الواردة من الخارج ومن الزيارات (المواجهات). وكذلك نظم المنام من حيث الزمن والضوضاء واشعال النور، وقد تمت الاستفادة من وجود عدد من الاطباء والصيادلة في معالجة المرضى والحالات الاستثنائية الاخرى، وبدأت التنظيمات الحزبية تزرع الامل في نفوس السجناء وكان هناك العديد من الكوادر الحزبية التي اعتمدت ادارة السجن عليهم في التنظيم والتثقيف والامور الاخرى.
وخلاصة القول اننا ننظر الى رحلة قطار الموت على انها كانت مدبرة لقتل اكبر عدد من السجناء ووافق عليها كل افراد الطاقم الحاكم ولا فرق بين موقف اعضاء القيادة القطرية للبعث الفاشي وموقف ضباط مجلس قيادة الثورة، فكلاهما وجهان لعملة واحدة هدفها الابادة والخلاص من الشيوعيين بالدرجة الاولى وقد فشلت كل المحاولات الفاشية وبقي الشيوعيون متمسكين بحزبهم وأعيد بناء التنظيمات الحزبية وسارت سفينة الحزب رغم كل المعوقات والعراقيل والاضطهاد.
ــــــــــــــــــــــــــ
* ملاحظة:
كل المعلومات تم جمعها وترتيب مراحلها بالاستناد الى ما جاء في كتاب (البيرية المسلحة) للدكتور علي كريم سعيد ولمشاهداتي لانني كنت احد العسكريين السجناء الذي عاش جميع المراحل من 8/ شباط/ 1963 لحين خروجنا من السجن (نقرة السلمان) تباعاً بالعفو منذ عام 1966 وما بعده.
**شهادة قدمت في الاحتفال المقام (يوم السبت 4 تموز) في "بيتنا الثقافي" استذكاراً للشهيد حسن سريع ورفاقه.