المنبرالحر

مَرويّة مْهَتّمْ بن بَهرام / سعيد غازي الاميري

نقلاً عن ابي حين كنا نتجمهر حول منقلة الجمر في ليالي الشتاء القارصة البرد في زمن طفولتنا الجميلة، وهو يقصُّ علينا مرويّات الاسلاف والتي لها طعم جميل؛ فكل حكاية ترمز لحدثٍ محدد بغاية؛ فبقدر حبكة القصة، والتي يُضاف لها أُسلوب السرد والإنفعالات العفوية من أجل أن نعيش سويةً مع تفاصيل أحداثها، واغلبها نقش في الذاكرة اثاراً محجوزة لن تمحوها السنون.
ومنها مروية مْهَتّمْ بن بَهرام، أتذكرها عند كل منعطف عاصف عشته كفرد في بلدي المنفتح على الكوارث المتتالية وبجريان لا ينقطع ، وطني الغارقُ بالدمار، والمُستباح قتلاً ونهباً وتهجيراً، نحن ، الصابئة المندائيين نموذجاً مُكتملاً لهذا الدمار المتراكم حين أضحينا مَذّرَاً مشتتين بعشرات الدول ،مرغمين صاغرين نحو تغير هويتنا الرافدينية، فالزمن مفتوح وبدون رجعة؛ والماثل للعيان ، اليوم لا يُنبيءُ البتّة بان الوطن يحنو على مغتربيه قسراً وبخاصة سكانه الأوائل ،ملهاتنا اليوم تكمن فقط في اننا نوصف حالنا لا غير.
سأذكرها هنا مثلما رواها لنا طيب الذكر والدي والذي أدرك صاحب الحكاية حين كان صبياً في ذلك "السَلَفْ "عندما كان الصابئة المندائيون يعيشون كمجموعة بشرية متقاربة متعاونة ما بينها؛ لتشكّل وحدة اجتماعيّة ودينيّة مكتملة متعايشة بوئام مع جيرانها في اغلب الاحيان
مْهَتّمْ بن بَهرام، كبيرُ قومه، رجلٌ تقي، مُهابٌ، وكريم ٌمثلما أجاد عليه الكريم بسخيِّ العطاء، بهيُّ الطلعة بوجه مبتسم، عيناه سوداوان واسعتان تكملهما لحية بيضاء طويلةٌ منسدلةً برخاء على صدره يعتمرُ الكوفيّة والعقال المقصب وكان يفصلُ (أي يحتكم ُ) بين قومه بالعدل.
فهو نجاراً ماهراً للقوارب الكبيرة، ومن ذوائع صنعته (مهود الأطفال)؛ فكان يوازنُ حركةَ المَهَدِ بشكلٍ مثير؛ فبهزتين لا غير ينام الطفل بهدوء، والعجيب؛ فالمهدُ يبقى على إهتزاز مستمر مع كل هبَّةِ ريح، وكان يُهدي هذا العمل المميز لكلِّ مولودٍ جديد من صحبه وأقاربه
وجيرانه.
يجيد القراءة والكتابة وباللغتين المندائية والعربية، حفظ َعن ظهر قلب كتاب المندائيين الأول الكنزاربا وغيره من الكتب والدواوين الدينية، اضافة لذلك فهو ناسخٌ بارعٌ، وأمينٌ للكتب ذاتها، مستأنساً بأسفار الاولين وحسبتهم لحركة النجوم والاجرام وعنها يقرأ الطالع مدار كل عام، يقول أبي إن حدسه لا يخيب؛ فما يقوله يحدث عاجلا ام اجلاً، حِسَّهُ مرهف وكأنه يفهم لغة الطيور.
تَثُق به فتأتمنه الناس من كل الملل، تستشيره الطالع الحَسِن بالسفر والعمل، مواسم الزراعة، المواليد وأسمائهم، مُلازمـاً للماء بعمله وتعبده.
إختار موقع مسكنه بدرايةٍ وعناية؛ فما بين الزرع والماء يقع بيته فغرب الدارِ منفتحٌ على حقول رُزّ العنبر الفواح، وعلى جانبيه شمالاً وجنوباً بستانُ نخيلٍ وفيرة الأرطاب، وكرومٍ كثيرة الاعناب، ثمارُها تُوزع لمن حوله بدون مقابل، وكان هنالك ماء دجلة يتهادى نازلاً من الشمال قُبالة ديوانه الكبير؛ يلتف بغنجٍ صوبَ الشرق مُسلماً للجنوب ليحدد شبه جزيرة خضراء، ومن ثمَّ يتسعُ النهر شيئاً فشيئا؛
فتضيعُ حدود الشطئان المعانقة لصفوف النخيل، ليسرقَ الناظرَ مشهدُ الهور بالقصب والبردي وهو يلاطف وجه الماء؛ صابِغَهُ إيّاه بخضرةٍ مائلةٍ للصفرة، الماءُ رائقٌ، مذهل عند الغروب وبالصيف خاصة.
كيف لا والصيف طويلٌ بديعٌ بشهوره الجميلة، فهو موسمُ الخير والعطاء لبلاد سومر
تقافز الأسماك عند الغروب في مشهدٍ مُثيرٍ لا يبرح البال، وخاصة حين يهب نسيم الهور ليُشبعَ الفضاء بعبق روح الماء، حيثُ يُرخي سعفُ النخيل المشبع بالرطوبة سدوله عاكساً خيوط الشمس الساقطة عند المغيب بلمعان يتخالج فيه لون الفضة والذهب بلحظات سكون مبهرة؛ يستفزها فقط دلع الطيور؛ فتزاحمُ رفيفُ اجنحة الفاختي والطبّان المختلط مع الهديل؛ برفقة اسراب العصافير وهي تُزف لأعشاشها، والعجيب ان العصافير تلك كانت تزقزق كثيراً جداً، حينها يقول أبي: إنها تبجّلُ الخالق شاكرةً ليوم وفير الطعام والأمان في هذه البقعة
السرمدية والتي يخال للكثير من قاطنيها بأنها قطعة من الجنة وبلحظة إستلطاف من الرب الكريم اقتطعها لسكان حواضن ماء الفراتين عند أهواره.
هناك عاش مْهَتّمْ بن بَهرام مع قومه متوارثين ومحافظين عن أسلافهم كلَّ كتبهم ودواوينهم الموثِّقَةِ لتعاليم التوحيد الأول، وخبرات حرفهم بالصياغة والحدادة والنجارة والطب الشعبي؛ ناهيك عن فنون الصيد ومواسم الزراعة.
أصبحتُ شاباً يافعاً والقول لأبي حين كنا نذهب لمضيف مْهَتّمْ بن بَهَرام، كانت داره محطة
ثابتة لأغلب الضيوف القادمين من المناطق الأخرى، وبخاصة صابئة الأهواز ففي كلِّ مساء يتقاطر عليه أصحابه وأتباعه؛ فمضيفُه عامرٌ ومفتوح حيثُ يشربون القهوة، يتسامرون ويتبادلون الأخبار والأحاديث الحياتية اليومية، وكلَّ ليلةِ (أحد) يسهرون أكثر من المعتاد كون يوم الأحد يوم راحة وتَعَبُّد، وليقرأ لضيوفه قصةً من كنوز كتبه المتوارثة.
وتلك الأيام كانت بعد تأسيس الملكية العراقية، وما تلاها من نزوح كبير نحو المدن الكبيرة وبغداد خاصة.
اخبار "هيعة" الهجرة كانت بتزايد وهي الحديث الاول في مجلسه؛ وبعدها وصلت لبيته حيث أولاده السبعة يرومون اكمال الدراسة في بغداد.
كان ممانعاً بالانتقال من جنته المستدامة، لكنه لم يكن ممانعاً بتلقي أولاده العلم بالمدارس بل العكس تماماً، كان فرحاً مشجعاً لكل الأطفال والشباب، البنات قبل البنين بالذهاب الى المدارس لنهل العلم بأصوله، حاثاً على السفر طلباً بزيادة العلم والتعلم ومن ثم العودة لموطنهم الجميل ولكن" ما كلما يتمنى المرء يدركه؛ فقد عاشَ صراعاً مُؤلماً ما بين إصرار عائلته ومجموعته بالهجرة وبين التشبث في أرض آبائه وأجداده، ميسان بخواصرها بالنسبة له هي الوطن والميراث والمستقبل. كيف يتركها وله بمتون كتبه سجلٌ لشجرة عائلته والذي يزيد على السبعين من الاسلاف جميعهم عاشوا بتلك الأرض الطيبة.
مَرضَ مْهَتّمْ بن بَهرام، ومَرد مرضه هو ذلك الحلم {الكابوس}، حين فزَّ من نومه مرعوباً ذات ليلة، شرب جرعة ماء، واستغفر ربه قائلاً "اكا هي اكا ماري اكا مندادهي"، وهي تقارب أو توازي ما يردده المسلمون بجملة الاستغفار [لاحول ولا قوة الا بالله]
عاد لفراشه، وما ان غفا حتى قفز ثانية وبرعب أكثر فالكابوس نفسه عاوده ثانيةً، وأعاد استغفاره، جثم عليه نفسُ الكابوس للمرة الثالثة؛ فترك فراشه قافزاً وبصوت مسموع ولاهث ردَّد َ"اكا هي أكا ماري اكا مندادهي"؛ فأيقظ جميع من بالدار.
أيقن تماماً بان سنين خيره قد ازفت، فمشهد الحلم قاس ٍلم يبارح ذهنه..
الريحُ عاتيةٌ لاهبة، والماءُ راكـدٌ أسِنّ، سمكٌ نافقٌ متناثرٌ تعيث به الهوام، جذوع النخل متهاوية، السنابل خاوية بلا قمح، اسراب الجراد قضم كلَّ شيء اخضر، الغربان تنعقُ مدار النهار تستلمُ منها عند الليل أسرابُ الخفافيش الجائعة والتي لم يألَفَها من قبل؛ لكنه قرأ وسمِع عنها بالحكايات والقصص اذ تلتصق بالوجوه فتشرب الدم من العيون
وهذا ما أخبر به اهله بالصباح.
خف الزحام بمضيفه الواسع؛ فَرَبعهُ قد تناثروا بالمدن بحثاً عن عمل، ومدارس للأولاد.
كان يسمعُ صوتاً في داخله يخبره كيف لك ان تترك إرث أسلافك، وتهجر أرض الطيب ماثا، تلك الأرض التي ترعرعت بها، وبأي ارض ستموت؟
لكن يرد عليه الصدى، صوتٌ مضادٌ كالمزمار، يزمرُ قرب اذنيه، مُتْ وحيداً لو رغبت
عيون زوجته وأولاده تطارده كما اللعنة، وعليه قرر الرحيل هو الآخر.
ما بنا اليوم نحن " المندائيون المشردون عن وادي الرافدين" مُضافاً له مصيرنا المكفول بذوبان محتوم، أجده مطابق تماماً لثلاثية كابوس مْهَتّمْ بن بَهرام وتسليمه مرغماً الحال والمآل لصاحب الحَوْل والامر
الطور الأول:
الهجرة لبغداد والمدن الكبرى مطلعَ الثلاثينات من القرن المنصرم؛ وبها أبدلنا الماء والزرع في موطن أبائنا وأجدادنا الرحب بغرفٍ وبيوتٍ بسيطة مؤجرة في مختلف أحياء بغداد الفقيرة ، فتبدل حال العيش ، وتلاشت سريعاً الكثير من السِّمات المندائية دينياً واجتماعياً ، حياة المدن وبغداد خاصة زاحمت شبابنا بقوة طارحةً بديلاً وهو حياة المدينة ؛وتبعه مزاج الحِراك الثوري الموسوم بالنضال الوطني ضد الفقر والاستعمار ، والتي تبنيناها نحن المندائيين وبحرقة ملحوظة ، المظاهرات وشعارات السياسة المطالِبة بالعدل والحرية المساواة والرفاهية كانت هي الرائجة ، أسم (بهجت العطية ) ومنظومة أمنه مع رجالات الشرطة واخبار صولاتهم ضد الوطنيين إزداد تداولها في مجالسنا وبيوتنا مزاحمة الكثير من شعائر الدين وموروثاتنا الجميلة ، بل عُدت اغلب الطقوس من الماضي العتيق عند الكثير من الشباب؛ فتبدلت الأزياء وحُلقت اللِحى ؛فالمدنية راقت لجيل الشباب وباندفاع كاد ان يفقدنا الكثير من خصالنا ، وما ان التقطنا الانفاس، وأعدنا ترتيب حال البيت المندائي، على الرغم من سعير السياسة وردودها ، حتى كانت فاتورتنا من الشهداء والسجون والمعتقلات غاليةً مكلفة، تزيد على نسبة تعدادنا بمرات عديدة.
الطور الثاني:
حلت على العراق موجة الحروب العبثية، من حرب الى حرب ومن قمع همجي الى حصار
غير مسبوق، سقوط مريع بمنظومة القيم، الجوع والحرمان بائن على سَحَنات البشر، الغش والرياء والرشوة شرعنتها افرازات الواقع، السرقة تطورت وتشعبت، أكتمل مشهد العبث المدمر بانفراط ما تبقى من عقد الدولة المدنية بعد إزاحة النظام الدكتاتوري بالتغير المأمول عدلاً وديمقراطية ...!
الطور الثالث:
الرعب قد بلغ مداه..
طائفتنا القليلة العدد أضحت الحلقة الأضعف بامتياز، حصتنا كبيرة من بالابتزاز، الاختطاف، القتل وسبي الاعراض.
ضاقت بنا الدنيا، لا مناص غير الهروب من جحيم العراق.
تاركين وراءنا كلَّ إرثنا المُحمّل بالمعرفة لمئات الأجيال بكل شواخصه، نُثِرَ هباءً، ابتلعته العواصف الترابية في العراق الجديد، ثلاثون بلداً او أكثر هامت نحوها وجوه الصابئة المندائيين على وسع الدنيا اندونيسيا، اليمن، توغو، دول أوربا، استراليا، أمريكا، كولومبيا، اقاصي الشمال، ونحن بضع عشرات من الالاف، هربنا بأرواحنا العزيزة
أيَّ تذويب قد حل بنا اليوم وكيف، ولماذا؟ وهل يتحقق الحلم بألا يُستَمر الحال بما هو عليه، ونتمكن ان نؤسس لثقافة مندائية توائم ثقافات شعوب أبدلت نمط حياتها منذ عشرات السنين.
اليوم نكابد بإمكانات بسيطة وفقيرة لا توازي هول المحنة، المال معضلتنا الأولى فالتمويل البسيط عن طريق جمع التبرعات والتي باتت لا تُنتج امام متطلبات الحفاظ على الحد الأدنى من سمات مندائية معافاة في دول المهجر.
المندائيون عمرهم لم يقبلوا غير العراق هوية ولن يبدلوها تحت أي اغراء {من يترك داره يقل مقداره} تحدياتنا كبيرة في هذا الكون الواسع، بلدنا المضجر بالدم لا يرد الصدى ليخبرنا بالفعل المُسنَد، بأن بلادكم لكم، ماء الفرات هو الاصدق لعهد تعميدكم، ونخيل العراق اعمامكم واخوالكم
بين هذه الهواجس وتلك، رافقني السعد ذات مرة، ظفرت ب (مْهَتّمْ بن بَهرام)؛ سألته وعلى عجل او هكذا أتذكر
قلت: يا شيخنا الجليل كل شعوب الأرض مستقرة وتتكاثر وتنمو الا نحن المندائيون نتراجع ونخسر اوطاننا وتقل اعدادنا عبر الحقب والازمان؟
رد الجواب سريعاً وبابتسامه هادئة قال: قال: نحنُ قومٌ أتباعُ دينٍ لا يحارب
سألته ثانية
قلت: وهل سننجو يا شيخنا هذه المرة؟
قال: (لا تبتأس كثيراً، المندائية ولاّدة، البخت يضعف لكن ما يموت
الحي الازلي ناطركم؛ فأنتم خمرة الأرض)
وباغتني جرس المنبه بترنيمةٍ صارمة؛ فقد لاحَ نهارٌ جميل في أرضٍ غير العراق الجديد