المنبرالحر

14 تموز ... الثورة المظلومة * / سعود الناصري

قامت الجمهورية العراقية بعد نضال بطولي قدم فيه العراقيون، بكل قومياتهم وإختلاف عقائدهم الدينية وإتجاهاتاتهم السياسية وإنتماءاتهم الفكرية، تضحيات لا تحصى في ظل معاناة مريرة في السجون والمعتقلات وأقبية التعذيب بل والإعدامات، في سبيل بزوغ ذلك اليوم المشهود في تاريخ العراق الحديث.
لا أود الآن الخوض في تفاصيل الحدث وخلفياته وما أعقبه من نكسات وفواجع، لكنني أجد نفسي ملزما كعراقي، في التصدي، قدر المستطاع، للطروحات و(التنظيرات) الجديدة! الهادفة الى تحميل الثورة مسؤولية كل المآسي والكوارث التي حلت بشعب العراق.
ومما يحز في النفس أن يتقدم صفوف هؤلاء (المنظرين) أناس شهدوا أحداثها ومنجزاتها وعاشوا أفراحها ودافعوا عنها حتى الأمس القريب، وأذا بهم يتنكرون لها في لمح البصر، ويطعنون فيها بشكل يدعو الى التأمل.
إن موقفهم (الجديد!) المتمثل في (التخلي) ليس فقط عن إتجاه سياسي- فكري معين (ولا إعتراض على ذلك) وإنما عن النهج العلمي في التحليل والإستقصاء، يثير العديد من التساؤلات المشروعة عن مدى موضوعية الأتهامات الموجهة الى ثورة تموز، ومدى تحول (المهاجمين) الى (سفسطائيين) بكل معنى الكلمة...لاهم لهم سوى البرهنة على صحة (الحجج) التي تبدو شكلا صحيحة، ولكنها باطلة مضمونا.
لقد نسي هؤلاء أو تناسوا أبسط قوانين تطور المجتمعات البشرية، والضرورات الحتمية للثورات السياسية بعيدا عن الرغبات والأماني الشخصية، وألا لكانت البشرية تحيا اليوم عهود الرق والإقطاع الخ. وإنني لأتساءل : هل أنهم يجهلون حقا التفسير العلمي لقيام الثورات، أم أنهم (تخلوا) حتى أن أبسط هذه المفاهيم التي آمنوا بها ودافعوا عنها!؟ أيها
(المنظرون) الجدد، هل تختلفون مع المقولة العلمية القائلة:
(إن الثورات السياسية لا تقوم بناء على توصيات مسبقة، وإنما هي حصيلة تطور طبيعي للمجتمع، ولايمكن قيام الثورة بدون توفر(الحالة الثورة)..أذ ترفض الجماهير المحكومة العيش وفقا لإرادة الأنظمة القديمة. وأن أنتقال هذه الحالة الثورية الى ثورة يتوقف على العامل الذاتي، حيث يطرأ نهوض عارم على فعالية الجماهير الإجتماعية السياسية ) و( إن الضرورة التاريخية للثورات تعود الى تعذر الأطاحة بالطبقة السائدة وتغير النظام الإقتصادي- الإجتماعي والحقوقي السياسي بالسبل الأخرى).
فهل شهدت ثورة 14 تموز عن هذه المقولة العلمية؟
لقد قيل الكثير عن هذه الثورة بين متحمس ومعاد لها، ولكن تعالوا نحتكم الى رأي مؤرخ لا أعتقد أن أحدا يشك في حياديته وموضوعيته.
يقول الأستاذ حنا بطاطو في كتابه الثالث عن العراق والموسوم (الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار).
(لايكفينا ان ننظر الى الوراء. يجب ألا يقتصر حقل الرؤية عندنا على ما سبق احداث 14 تموز بل أن يشمل أيضا ما تلاها.
والواقع أن القاء نظرة سريعة على الآثار اللاحقة يكفي لجعلنا نعرف إننا أمام ثورة أصيلة. ولم يكن لظاهرة سياسية سطحية ان تطلق كل تلك المشاعر بهذا العنف، أو لتثير المخاوف أو الآمال بهذه الجدية التي غزت سنتي 1958-1959. والواقع ان 14 تموز أتى معه بأكثر من مجرد تغيير في الحكم. فهو لم يدمر الملكية أو يضعف كل الموقع الغربي في المشرق العربي بطريقة جذرية وحسب. بل أن مستقبل طبقات بأسرها ومصيرها تأثر بعمق.
ولقد دمرت الى حد كبير السلطة الإجتماعية لأكبر المشايخ ملاكي الأراضي ولكبار ملاكي المدن، وتعزز نوعيا موقع العمال المدنيين و الشرائح الوسطى والوسطى الدنيا في المجتمع، وتغير كذلك نمط حياة الفلاحين نتيجة لإنتقال الملكية من ناحية ولإلغاء انظمة النزاعات القبلية وإدخال الريف في صلب القانون الوطني من ناحية أخرى، وصحيح أن الثورة لم تتجذر بالعمق بما يكفي، ولكن هذا يميل الى تمييز كل الثورات التي تلعب فيها عناصر الطبقة الوسطى دورا تقريريا تقريبا، وصحيح كذلك ان التيه ميز مسار الثورة وأنها كانت لها تعاقبات صعود وهبوط،?ولكن هذا ناجم عن عدم إنسجام الطبقة الوسطى، وعن الإنشقاقات في صفوفها وصفوف سلك الضباط، الذي هو ذراعها المسلحة والشرعية القائدة فيها).
وأخيرا.. كل ما أستطيع قوله لا يتعدى مجرد نداء الى كل من يحاول الطعن بمأثرة الشعب العراقي المتمثلة في ثورته المجيدة، قائلا:
-أيها (الملكيون الجدد) .. رفقا بأفكاركم و (قناعاتكم السابقة)! وآمل ألا تكونوا ملكيين أكثر من الملك ولا تظلموا ثورة الشعب.
ــــــــــــــــــــــــ
* في رسالة العراق العدد 19 -السنة الثانية- تموز 1996