المنبرالحر

ثورة الرابع عشر من تموز.. يوم تاريخي خالد / اسماعيل محمد السلمان

تتخذ الشعوب المكافحة والمتطلعة نحو الحرية والانعتاق السياسي والتقدم والازدهار الاقتصادي من إنتصاراتها الثورية الرائعة وانعطافاتها التاريخية والسياسية الهامة نبراساً ثورياً مشعاً للاستذكار والوفاء لصانعي أمجادها المتألقة زهواً وعنفواناً بين شعوب العالم والاستفادة من تجارب الماضي الذي يشكل نقطة مهمة في التحول النوعي وركيزة فاعلة للانطلاق نحو مستقبلها الزاهر بعد الانتقال السياسي المفاجئ والبارز في ملامح تأريخنا المعاصر للسير قدماً بكل إباء وشموخ لأجل البناء والتقدم والرقي .
وتأتي في مقدمة المهام الأساسية أمام الشعوب المنتصرة مهمة الدفاع عن الثورة الفتية ومكتسباتها التقدمية ومنجزاتها الثورية والوطنية وتعزيز ثقتها بنفسها وبقدراتها الخلاقة والمبدعة والكامنة في تلاحمها المصيري بما يضمن حمايتها من الأعداء الذين فقدوا مصالحهم السياسية والاقتصادية متربصين بالغدر والخيانة لسرقة أحلامها وفرحها الغامر للحفاظ على نشوة الانتصار الذي تحقق بفضل نضالاتها وتضحياتها والسعي لردع قوى الثورة المضادة من الالتفاف على منجزاتها ومن ثم القضاء عليها ومصادرتها كلياً كما حصل في انقلاب الثامن من شباط الدموي الأسود بعد أحداث متواترة لسلسلة من المؤامرات والمحاولات التي سبقت ذلك اليوم المشؤوم برغم التحذيرات المتكررة التي باتت تشكل حسرة عقيمة وحتى يومنا الحاضر وعلى وجه التحديد حينما بدأت مؤشرات الانحراف وتصعيد حملة العداء للشيوعيين وأنصارهم في خطاب ( كنيسة ماري يوسف ) بتأثير من القوى الرجعية والقوى القومية المشبوهة والمدعومة ليعلن فيها شاعرنا الكبير الجواهري للجميع قائلاً : ( لقد احضرت قصيدتي لألقيها في الحفل ولكنني سوف القيها في جيبي ) وعاود الجلوس في مكانه بعد تركه المذياع مباشرة وما حصل للجواهري فيما بعد يعرفه الجميع .
لقد كانت الثورة المجيدة حصيلة المخاض السياسي والثوري العارم والطويل عقب إرهاصات نضالية وجماهيرية عسيره قدم حزبنا الشيوعي العراقي وشعبنا من خلالها القرابين الكثيرة من خيرة أبناء الشعب ومناضليه المخلصين في الشوارع والسجون والمعتقلات مقدمين أروع الأمثلة النضالية في الصمود والتحدي في مواصلة الكفاح حتى تكلل بالنجاح بتشكيل جبهة الاتحاد الوطني في عام 1957 كقوة وطبيعية جماهيرية وعسكرية ساعدت على خلق المقدمات الأساسية والملائمة لقيام ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة في عام 1958 ليعلن شعبنا فيها الخلاص من السيطرة الأجنبية وبراثن الاستغلال والاحتكار وفي سبيل تحسين ظروفه المعيشية والاقتصادية وترسيخ قواعد الحياة الديمقراطية وحل المشاكل والنزاعات القومية والطائفية العالقة واستثمار قدرات بلادنا الإنتاجية في مجال النفط والزراعة والصناعة ومد جسور التعاون والألفة بين أطراف القوى الوطنية والقومية والعالم اجمع بما تمليه الظروف الموضوعية لإثبات دور حزبنا الطليعي في قيادة نضالات وتطلعات جماهيرنا العادلة والمشروعة كما شهد له الإعصار الثوري والوطني المرير عبر مراحل تأريخية عسيرة وشائكة ومعقدة وهو يجمع بدقة وبراعة فائقة بين نضاله الوطني والقومي والأممي .
وبذلك كان له الدور الأساسي والمتميز في تحريك وتعبئة الجماهير وتعميق وعيها الوطني وكما عبر عنه (فولتير) عن تجربة الثورة الفرنسية حينما يقول بأن الظلم لم يكن وحده كافياً لإسقاط الأنظمة الجائرة بل الشعور بالظلم يعد معياراً أساسياً للتحول الثوري .
لم يكن صدفة حينما اكتسبت الثورة العملاقة ثقة الجماهير الواسعة وتأييدها المطلق عبر الإنجازات الكبيرة التي تحققت بإتخاذ الخطوات والإجراءات الوطنية التقدمية والاقتصادية والمهنية لصالح الشعب ورفاهية وتحسين ظروفه المعيشية فضلاً عن اهمية الهيبة السياسية التي اكتسبتها الثورة بالقدرة على رسم البرامج العملية السليمة بفضل وجود مشاركة علمية كفوءة ونزيهة من امثال الدكتورة نزيهة الدليمي بتسلمها لوزارة البلديات ودورها في إجراء تعديلات تقدمية في قانون الأحوال الشخصية لصالح المرأة والدكتور إبراهيم كبه بإدارة وزارة الاقتصاد ومحمد حديد للمالية والدكتور حسن محمد سلمان لوزارة النفط وقد أسهمت تلك الشخصيات العلمية في إدارة البلاد على اساس الكفاءة العلمية والنزاهة والإخلاص وليس كما هو الان لأصحاب الشهادات المزورة والمحاصصة المقيتة وسرقة المال العام وما آلت إليه الأمور لفقدان الثقة وتسويف العديد من القيم الإدارية والسياسية في آن واحد .
وبرغم تلك الصعوبات التي واجهت الثورة الخالدة وحدة الصراع والتعقيدات فإن الروح الوطنية كانت المعيار الرئيس لوحدة الشعب والدفاع عن الثورة ومكتسباتها المهمة وليس كما هو عليه الآن من تأجيج الصراعات الطائفية والقومية والإقليمية وتكريس المفاهيم الدخيلة على شعبنا من قبل المحتل ومسايري مشاريعه وبعض الأحزاب والتكتلات والتيارات التي تجد في الطائفية منهجاً وإسلوباً جديداً في شق وحدة الصف الوطني والإيغال في سرقة المال العام والتفرد بالسلطة السياسية .
ومن الأمثلة المعتبرة للتربية الوطنية المخلصة في عهد الثورة أن سجينا شيوعيا مسيحيا عمره ستون عاماً كان مسؤول منطقة عين زالة يلقب ( أبو فريد) زج به في سجن الرمادي بعد الانتكاسة في عام 1961 يمارس الخدمات بما فيه تنظيف الأماكن الصحية لجميع السجناء بمختلف انتماءاتهم الطائفية والقومية وهو يقول :
دعني وشأني والذي أنا عابد
وكما يشا ايمان قلبي أعبدُ
إني أخوك وإن يكن إيماننا
في البعد ما بين الثرى والفرقد
أين الآخرون من هؤلاء الذين لا يرون في الحياة سوى حبهم العميق لشعبهم ووطنهم ويعملون بنكران ذات بعيداً عن الأنانية والتمييز .
وعندما نستذكر اليوم بمرارة شديدة ما فعله المتآمرون القتلة بالانتقام من شعبنا وحزبنا بشكل خاص في تصفية قياداته الوطنية ومناضليه المخلصين نرى ضرورة الأخذ بعين الإعتبار تلك الدروس المستخلصة للضريبة الكبرى التي دفع بها شعبنا ثمناً باهضاً وثقيلاً على نفوس الآخرين حتى الآن نتيجة الغفلة وضعف اليقظة الثورية جراء التسلط والتفرد الدكتاتوري وركوب الرأس وعدم إحترام الرأي الآخر .
في الوقت ذاته لابد من استذكار تلك الكوكبة الشيوعية والثورية التي ارعبت الطغاة والمجرمين في الثالث من تموز في عام 1963 في معسكر الرشيد بقيادة البطل الشجاع ( حسن سريع) ورفاقه البواسل الذين عقدوا العزم على مواجهة الإرهاب البعثي محاولة منهم لتخليص شعبنا واستعادة شرف الثورة الخالدة الذي سلبه العملاء والمجرمون من أيدي الحكام المنغمسين بالتفرد واللامبالاة برغم التحذيرات والمطالبات الحازمة والمستمرة .
ومهما بلغ الشعور بالحسرة والندم الشديد لما تعرضت له ثورة الشعب الوطنية من مؤامرات ومصائب أليمة ومآس لا تنسى من صراعات حادة بين القوى السياسية وتنافس العسكريين على السلطة بشكل أفقد البعض منهم هيبته ومكانته العسكرية وأضاع فرصته الوطنية في القيام بدوره اللائق والمفروض فإن الثورة الوطنية تبقى دائماً وأبداً عنواناً ثورياً بارزاً وحدثاً تاريخيا فاعلا تحقق بفضل تلاحم شعبنا وإرادته السياسية والوطنية التي اثبت من خلالها أن لا أمان لدار السيد كما يزعم العملاء .
المجد والخلود لشهداء حزبنا والحركة الوطنية في بلادنا والعالم اجمع، الرفعة والشموخ لضباط الثورة الأماجد وفي مقدمتهم الزعيم الوطني الشهيد عبد الكريم قاسم .
وثمة شيء آخر لمجرد(مثل) سمعناه من الآباء قديماً يقولون فيه: (ليس الفخر لمن يقتل الأفعى .. بل الفخر كل الفخر لمن يدفنها).