المنبرالحر

ضرورة التأكيد على البديهيات إزاء صراخ نتنياهو ضد الاتفاق مع إيران: ينبغي ألا ننسى أن إسرائيل أداة بيد الامبريالية الأميركية / إلياس نصرالله

• ضرب روزفيلت بيده على الكرسي الذي كان يجلس عليه وقال لعبدالعزيز: إسمع يا جلالة الملك، الولايات المتحدة أصبحت أقوى دولة في العالم، وهي مستعدة لتقديم الحماية لك ولأولادك وأحفادك من بعدك، مقابل طلب واحد بسيط. فاستفسر عبدالعزيز عن هذا الطلب، فقال له روزفليت ان المهندسين الذين بحثوا عن الماء في الصحراء اكتشفوا فيها النفط، وهذا النفط مهم جدًا بالنسبة للولايات المتحدة..
• تلكؤ إسرائيل في ضرب إيران كان راجعًا لعدم وجود موافقة من أصحاب القرار في واشنطن. فإسرائيل الأداة لم تكن في أي يوم صاحبة القرار وكانت تتلقى الأوامر من واشنطن لشن الحروب وتحصل على موافقة مبدئية مسبقة، قبل أي عملية عسكرية، مثلما أوضح ذلك في مذكراته وزير الخارجية الأميركي الجنرال ألكسندر هيغ الذي وافق على اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 لكنه طلب توفير عذر مقبول للعملية..
ما حصل عقب الاتفاق بين الدول الكبرى أو بالأحرى المجتمع الدولي وإيران حول مشروعها النووي وموافقة مجلس الأمن الدولي على مشروع القرار الأميركي بشأن الاتفاق وتواتر التحليلات حول ردود الفعل الإسرائيلة على هذا الاتفاق، يجعل من المفيد التذكير ببعض الأمور الأساسية، أهمها حقيقة العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة.
فالاتفاق الذي تم التوصل إليه في فيينا بين إيران ودول مجموعة 5+1 شكّل ضربة موجعة لأصحاب نظرية أن إسرائيل هي التي تحكم الولايات المتحدة وتقرر سياستها الخارجية. وهي مقولة درج الحكام العرب على الترويج لها للتغطية على تخاذلهم وتواطئهم مع الولايات المتحدة.
فالأدلة على عدم صحتها كثيرة، فالولايات المتحدة وقفت ضد إسرائيل في الحرب على مصر عام 1956، مرورًا بحرب الخليج الأولى على العراق عام 1991، حيث رفضت واشنطن أن تشارك إسرائيل في التحالف الدولي لإخراج الجيش العراقي من الكويت ومنعتها حتى من الرد على الصواريخ التي أطلقها الرئيس العراقي صدام حسين على إسرائيل، كذلك في عام 1992 عندما أرغَمَتْ واشنطن إسرائيل على حضور مؤتمر مدريد، رغم معارضة رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير ذلك، وأيضًا في عام 2003 عندما رفضت الإدارة الأميركية مشاركة إسرائيل في إسقاط نظام حكم صدام حسين، وانتهاء باتفاق واشنطن وطهران الأخير حول المفاعل النووي الإيراني.
المصالح الأميركية
ولتوضيح حقيقة العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ينبغي أن نعود قليلًا إلى الوراء. فهناك إجماع بين المؤرخين والسياسيين على حدٍّ سواء بأن المصالح الأميركية الفعلية في الشرق الأوسط نشأت في أواسط عقد الثلاثينات الماضي لدى اكتشاف مجموعة خبراء أميركيين للنفط في السعودية. كانت السعودية في حينها واقعة ضمن دائرة النفوذ البريطاني وكان مَلكُها عبدالعزيز آل سعود يتقاضى راتبًا سنويًا من الخزينة البريطانية، فخشِيَتْ واشنطن من استخدام بريطانيا لنفوذها وفرض سيطرتها على آبار النفط المكتشفة حديثًا في السعودية ومنع الأميركيين من الاستفادة منها. فتم التعامل مع الاكتشاف الجديد بسرية تامة من جانب الولايات المتحدة وتم الحفاظ على أدنى حد من التحركات الديبلوماسية في العلاقات مع السعودية، خشية لفت انتباه البريطانيين إلى هذا الاكتشاف العظيم. وجاء اندلاع الحرب العالمية الثانية وانشغال بريطانيا في الدفاع عن نفسها ومستعمراتها حول العالم وحاجتها لمساعدة الولايات المتحدة ضد ألمانيا النازية ليُفسح المجال أمام واشنطن لتُحكِم قبضتها على النفط السعودي. وعندما شارفت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء وجد الأميركيون أن الوقت قد حان للكشف عن علاقتهم مع السعودية، فتم ترتيب اللقاء التاريخي في 14 شباط 1945 بين الرئيس الأميركي ثيودور روزفيلت والملك عبدالعزيز آل سعود على ظهر السفينة الحربية الأميركية كوينزي في البحيرات المُرّة في مصر، مما فاجأ البريطانيين وأزعجهم.
ففي ذلك اللقاء شكر روزفيلت عبدالعزيز على المعاملة الحسنة التي لقيها المهندسون الأميركيون الذين بحثوا عن الماء في الصحراء واكتشفوا أثناء بحثهم النفط. وبذكاء شديد استعرض روزفيلت عضلاته أمام الملك السعودي وقال له ان أميركا كانت مشغولة في الحرب ضد دول المحور التي لم تكن بعد قد انتهت، وأبلغه أن أميركا أصبحت أقوى دولة في العالم وتم القضاء على ألمانيا النازية وأنه، أي الملك السعودي، سيسمع قريبًا عن سقوط حكم الزعيم الألماني أدولف هتلر. وقال روزفيلت لعبد العزيز انه جاء ليستمع منه ما إذا كان هناك أي شيء يضايقه ويُشكل تهديدًا له.
شكر عبدالعزيز روزفيلت وقال له أنه في الواقع كان يشعر بالخطر من جيرانه، فاستفسر روزفيلت عن أولئك الجيران، فأوضح له عبدالعزيز أن الخطر يتهدده من الهاشميين، أعدائه الذين ذبحهم في الحجاز، المتمثلين بابني الشريف حسين، فيصل، ملك العراق، وعبدالله، أمير شرق الأردن، والجيران الآخرين في الكويت والبحرين وقطر والإمارات وعمان واليمن. فاستغرب روزفليت ذلك وقال لعبد العزيز ان أولئك الجيران جميعهم خاضعون لصديقته بريطانيا. فأشار عبد العزيز إلى أن هذا بالذات هو سبب المشكلة، إذ أنه لا يثق كليًّا في بريطانيا ويخشى من أن تنقلب يومًا ما ضده.
ضرب روزفيلت بيده على الكرسي الذي كان يجلس عليه وقال لعبدالعزيز: إسمع يا جلالة الملك، الولايات المتحدة أصبحت أقوى دولة في العالم، وهي مستعدة لتقديم الحماية لك ولأولادك وأحفادك من بعدك، مقابل طلب واحد بسيط. فاستفسر عبدالعزيز عن هذا الطلب، فقال له روزفليت ان المهندسين الذين بحثوا عن الماء في الصحراء اكتشفوا فيها النفط، وهذا النفط مهم جدًا بالنسبة للولايات المتحدة، لذلك فهي مستعدة للحفاظ على حكم آل سعود مقابل سماحهم لها بالاستفادة من هذا النفط. فوافق عبدالعزيز، وبهذا الاتفاق فتحت الولايات المتحدة صفحة جديدة من التدخل في شؤون العالم العربي ما زلنا نشهد وباله على منطقة الشرق الأوسط إلى اليوم.
كان واضحًا بالنسبة للولايات المتحدة أن الخطر على مصالحها النفطية في حينه نابع من النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط، فانصبّ اهتمامها على كيفية إبعاد هذا الخطر. وظل الوضع على هذا النحو قائمًا حتى وقوع ثورة تموز عام 1952 في مصر، حيث اكتشفت الولايات المتحدة أن هناك خطرًا جديدًا على مصالحها النفطية غير الأطماع البريطانية في المنطقة، يتمثل بحركة التحرر الوطني العربية والنهوض القومي للشعوب العربية التي استجابت من المحيط إلى الخليج لنداءات الرئيس المصري جمال عبدالناصر من أجل التحرر من الاستعمار والاستقلال والوحدة. فانشغل الأميركيون ليل نهار في العمل على إطفاء الحرائق التي أشعلها عبدالناصر والتي وصلت إلى السعودية، فشهدت منشآت النفط السعودية سلسلة من الإضرابات والمظاهرات التي لم تكن تخطر على بال أحد. وسعى الأميركيون لإضعاف عبدالناصر واحتوائه ثم إسقاطه.
في غمرة انشغالهم في كيفية التعامل مع عبدالناصر، فوجئ الأميركيون بالعدوان الثلاثي الذي شنته إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على مصر، عقب إقدام عبد الناصر على إلغاء سيطرة بريطانيا وفرنسا على قناة السويس وتأميمها. ولاحظ الأميركيون أن هذه الحرب كانت سببًا في اشتعال الشارع العربي أكثر فأكثر، وانتبهوا إلى أن إسرائيل في تلك الحرب لعبت دورًا رئيسيًا في إلهاء الأمة العربية عن همومها الأخرى. فوقفت أميركا موقفها الشهير بمعارضة الحرب وأيدت قرار الأمم المتحدة القاضي بانسحاب إسرائيل التام إلى حدود الهدنة عام 1948 مع مصر.
منذ صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947 أيدت الولايات المتحدة إسرائيل ودعمتها بلا تحفظ، ودعمت التصويت على قبول عضويتها في الأمم المتحدة والاعتراف بها دولة مستقلة عام 1948، وقدّمت لها مساعدات عسكرية ومالية سخية، واعتبرت أن إسرائيل في جيبها، لتكتشف في عام 1956 أن إسرائيل كانت في جيب بريطانيا وفرنسا، اللتين شكلتا خطرًا على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. بل بدأت إسرائيل الهجوم على مصر في حينه غداة لقاء تاريخي بين وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس وسفير إسرائيل في واشنطن أبا إيبان أكد فيه إيبان لدالاس أن إسرائيل لا تنوي مهاجمة أي دولة عربية.
فعلاوة على خبث الإسرائيليين وخداعهم للأميركيين، أشد ما أصاب واشنطن بالصدمة كان اكتشافها استعداد إسرائيل لأن تصبح أداة في يد قوة أو دولة أخرى. فأميركا التي وفّرت إسرائيل كي تستخدمها وقت الحاجة كانت بحاجة أكثر من بريطانيا وفرنسا لأداة تساعدها على حماية مصالحها المهددة من المدّ القومي العربي. فهذه المصالح بالنسبة للولايات المتحدة التي تمثلت بالنفط السعودي كانت أهم بكثير من قناة السويس بالنسبة لبريطانيا وفرنسا.
بدأ الأميركيون حملة لانتزاع إسرائيل من حضن بريطانيا وفرنسا، لكن واجهتهم عقبة كأداء حالت دون ذلك تمثلت آنذاك برئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون الذي انتمى إلى مدرسة في الحركة الصهيونية آمن أتباعها، بعد إقامة دولة إسرائيل في عام 1948، بأن العالم عقب الحرب العالمية الثانية أصبح منقسمًا إلى قطبين نويين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وأن مصلحة إسرائيل تتطلب عدم الارتباط بأي من هذين القطبين. ففضّل بن غوريون الارتباط ببريطانيا وفرنسا اللتين رأى أنهما فقدتا الكثير من نفوذهما وقوتهما في تلك الحرب وما بعدها، خاصة وأن بريطانيا وفرنسا كانتا في حينه دولتين غير نوويتين، فبريطانيا أجرت أول تجربة نووية لها عام 1952 فيما تأخرت تجربة فرنسا النووية إلى عام 1960.
هذا النوع من التفكير شبه الاستراتيجي لدى بن غوريون جعله عقبة في وجه محاولات الأميركيين لتطويع إسرائيل وجعلها أداة لخدمة مصالحهم، وعلى الأرجح أن الهدف من وقوف واشنطن إلى جانب مصر ودعوة إسرائيل للانسحاب من سيناء كان للضغط على بن غوريون وتطويعه. لكن بن غوريون لم يُغيّر موقفه. فحاول الأميركيون استخدام اللوبي الصهيوني المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة للضغط على بن غوريون، فاكتشفوا بأن ناحوم غولدمان، رئيس كل من المنظمة الصهيونية العالمية والمؤتمر اليهودي العالمي والوكالة اليهودية، كان يحمل نفس أفكار بن غوريون ويؤيد عدم انحياز إسرائيل للشرق أو الغرب، (وهذا ما ذكره غولدمان في كتابه "إسرائيل إلى أين؟" الصادر باللغة العبرية عن دار شوكن عام 1975).
في الواقع لم يكن هناك فرق تجاه إسرائيل بين إدارة الحزب الجمهوري في عهد الرئيس دوايت أيزنهاور من 1953 إلى 1961، وإدارة الحزب الديمقراطي في عهد الرئيس جون كنيدي من1961 إلى 1963. فكلا الحزبين كانا متفقين على محاولة تطويع إسرائيل لجعلها أداة لخدمة المصالح الأميركية في الشرق الأوسط.
وعندما حاولوا استخدام اللوبي الصهوني في الولايات المتحدة، اكتشف الأميركيون أنه لوبي لخدمة بن غوريون، فبادروا إلى إحداث تغيير فيه، فأصدروا قانونًا جديدًا لحل ذلك اللوبي، وأجبروا اليهود في الولايات المتحدة على تشكيل لوبي جديد في عام 1963 هو "لجنة العلاقات العامة الأميركية الإسرائيلية" التي اشتهرت باسمها المختصر "إيباك" وما زالت قائمة إلى اليوم. في تلك الفترة استخدمت الإدارة الأميركية "إيباك"لتطويع إسرائيل.
عندما أيقن الأميركيون أنه لا توجد أمامهم فرصة لإقناع بن غوريون لتغيير موقفه، خاصة وأنه بنى علاقة متينة مع فرنسا التي سلـّحت إسرائيل بأحدث الأسلحة وساعدتها على بناء مفاعل ديمونا النووي، قرروا إقصاء بن غوريون عن الحكم، فنبشوا له "فضيحة لافون" نسبة لوزير الأمن الإسرائيلي بنحاس لافون والتي تتلخص بقيام إسرائيل في عام 1954 بتنظيم شبكة من أبناء الطائفة اليهودية في مصر وتكليفها بتنفيذ سلسلة تفجيرات ضد المراكز الأميركية في القاهرة والاسكندرية بهدف تخريب العلاقات بين مصر والولايات المتحدة، فانكشفت المؤامرة وألقي القبض على أفراد الشبكة فانتحر اثنان منهم في السجن وحكم على اثنين آخرين بالإعدام وسُجن الآخرون وتم إطلاق سراحهم في عملية تبادل للأسرى بين مصر وإسرائيل لاحقًا.
ومع أن أصابع الاتهام وُجّهت إلى بن غوريون عقب فشل العملية، إلا أنه نجح في الإفلات من المحاسبة إلى أن أعيد نبش الفضيحة مجددًا في عقد الستينات الماضي، حيث ألقيت عليه المسؤولية عن تلك العملية، مما اضطره إلى تقديم استقالته من رئاسة الحكومة في عام 1963. في هذا العام جرى تطويع إسرائيل لكي تصبح أداة في يد الامبريالية الأميركية، وذلك في عهد ليفي أشكول، خليفة بن غوريون في رئاسة الحكومة وزعامة حزب مباي (العمل لاحقًا) الإسرائيلي.
*مجرد أداة*
كان الدور المطلوب من إسرائيل أميركيًا إلهاء الشعوب العربية عن النفط السعودي والتصرف كشرطي في الشرق الأوسط لإسقاط أنظمة الحكم التي تهدد المصالح الأميركية. فوافق أشكول وقادة حزب العمل الحاكم على القيام بهذا الدور، لأنهم فهموا من الجانب الأميركي بأنه ستتم مكافأتهم على ذلك. إذ سلحت أميركا إسرائيل بلا حساب وغطت على مفاعلها النووي وما تملكه من أسلحة نووية لدى وكالة الطاقة الدولية، ودعمتها اقتصاديًا وسياسيًا على الساحة الدولية، خاصة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولم يتكرر فيه مطلقًا تصويت أميركا ضد إسرائيل مثلما حدث في عام 1956 حين صوتت أميركا مع انسحاب إسرائيل من سيناء، بل استخدمت واشنطن حق الفيتو في مجلس الأمن لحماية إسرائيل 42 مرة من عام 1963 إلى عام 2011.
وبدأ يتكشف أخيرًا أن حرب حزيران 1967 ضد مصر وسورية كانت في الأساس تنفيذًا لأوامر أميركية وتمادت إسرائيل في احتلالها للضفة الغربية واضطرت الولايات المتحدة للتغاضي عن هذه الخطوة، حرصًا على استمرار العلاقة الجديدة التي نشأت بينها وبين أداتها الجديدة في الشرق الأوسط. وتكشف وثائق الكونغرس الأميركي عن تفاصيل لقاء جرى عام 1973 عقب حرب تشرين الثاني ذلك العام أن الملك فيصل بن عبدالعزيز رمى بثقله لدعم الرئيس المصري أنور السادات خلال تلك الحرب وتثبيت حكمه في مصر، لما في ذلك مصلحة للسعودية عقب ما عاناته من مصر في عهد عبدالناصر، فجمع فيصل رؤساء شركات النفط الأميركية وأبلغهم استياءه من الدعم الأميركي لإسرائيل خلال تلك الحرب، خاصة الجسر الجوي الذي زوّدت به أميركا إسرائيل بالسلاح مباشرة إلى سيناء لوقف تقدم الجيش المصري، وطلب منهم أن يقابلوا وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر ليقنعوه بوقف هذا الدعم. أثناء اللقاء سأل رؤساء الشركات كيسنجر عن سبب هذا الدعم العسكري والمالي غير المحدود لإسرائيل، فرفض كيسنجر الإفصاح لهم عن السبب، بل قال لهم انه لا يقدر على كشف السبب لهم. بالطبع فالاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط مسألة حساسة لم يكن كيسنجر أو أي وزير خارجية أميركي غيره قادرًا على كشف أسرارها.
كان أمام إسرائيل رصيد مفتوح من جانب أميركا لإلهاء الشعوب العربية، ولم يتوقف الأمر عند سورية ومصر، بل تعدته إلى لبنان والعراق، حيث ضَربَتْ إسرائيل المفاعل النووي الذي كان الرئيس العراقي السابق صدام حسين ينوي بناءه عام 1981، وتوغلت في العالم العربي لتنفيذ عمليات عسكرية ضد أهداف مختلفة في الجزائر وتونس والسودان وأخيرًا في الإمارات العربية المتحدة.
فكلما كانت الضربات الإسرائيلية للعرب موجعة ومُذلة أكثر، كان ذلك أفضل بالنسبة للأميركيين الذين رأوا في ذلك وسيلة لتحويل الأنظار العربية عن النفط السعودي وتوجيهها نحو إسرائيل.
فَهِمَ حكام إسرائيل جيدًا ما هو الدور المنوط بهم من جانب أميركا، وقبلوا به، رغم أن هذا الدور يُهدد كيان إسرائيل وشرعية وجودها ويفضح حقيقة أنها أداة بيد القوى الامبريالية، ويؤكد صحة ما ذهب إليه مؤرخون عديدون من أن إسرائيل أقيمَتْ على أساس أنها أداة للاستعمار في الشرق الأوسط، فها هي تُقدِّم بنفسها الدليل الحي على ذلك، وبدلًا من الاستعمار البريطاني الذي صاغ وعد بلفور عام 1917 لإنشاء الدولة اليهودية واستخدمها عام 1956 في الحرب على مصر، تولت الإمبريالية الأميركية استخدام هذه الأداة، فلم يعد هناك فرق بين أجنحة الحركة الصهيونية بكل أطيافها بين معتدل، مثل حزب العمل الإسرائيلي،ومتطرف، مثل حزب حيروت (لاحقًا الليكود)، فوافقت كلها على أن تكون إسرائيل أداة بيد أميركا ومتعهد أمن للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، تمامًا كفِرَق المرتزِقة وشركات الأمن الخاصة التي يستخدمها الجيش الأميركي في أماكن مختلفة من العالم.
عندما اندلعت الثورة الشعبية في إيران ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979، شعرت واشنطن بقلق شديد على مصالحها في السعودية وخشيت من أن يكون مصير آل سعود كمصير نظام حكم الشاه، فأصبح الإسرائيليون، بصفتهم مقاولي أمن المصالح الأميركية في المنطقة، على أهبة الاستعداد للتحرك ورهن إشارة من واشنطن، وطمعوا في الحصول على عقود جديدة من أميركا، اعتقدوا أنها ستكون مجزية مثل العقود السابقة في مصر وسورية ولبنان.
بدا ذلك واضحًا حين فشلت المحاولة العسكرية التي أمر بها الرئيس الأميركي جيمي كارتر عام 1980 لتحرير الرهائن الأميركيين المحتجزين في طهران، فانبرى رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه مناحم بيغن، زعيم حزب الليكود، ليخاطب كارتر ويؤنبه لأنه "لم يطلب من إسرائيل القيام بتلك العملية نيابة عن القوات الأميركية". وبذلك كشف عن حماس إسرائيل الزائد للقيام بدور الأداة لحماية المصالح الأميركية في المنطقة. فرغم حملة المطاردة التي شنتها الحكومة الإسلامية ضد حزب تودة الشيوعي الإيراني ودعمها لحركة المجاهدين لإسقاط نظام الحكم الموالي للاتحاد السوفييتي في أفغانستان، لم يُرضِ ذلك واشنطن، فواصلت السعي لإسقاط الجمهورية الإسلامية. لكن واشنطن لم تستعن بإسرائيل، وجرّبت طرُق ووسائل أخرى، أبرزها استخدام عراق صدام حسين لشن حرب على إيران دامت ثماني سنوات،لا مبرر لها سوى خدمة الغرب، وأصبح معلومًا للجميع أن السعودية والعائلات العربية الحاكمة في الخليج هي التي موّلتها.
كان فشل صدام حسين في إسقاط الجمهورية الإسلامية سببًا لمواصلة إسرائيل التلويح بقدرتها على ضرب إيران، طمعًا بالمكافأة التي اعتقدوا أنهم سيجنونها من مثل هذه العملية، تمامًا كالمكافآت السابقة، من أسلحة وأموال وضم أراض عربية ودعم سياسي دولي، إذ جنوا الكثير في الماضي من ضرب مصر وسورية ولبنان وغيرها. فرفَعَ حكام إسرائيل صوتهم عاليًا في عام 1993 محذرين من خطر امتلاك إيران للتكنولوجيا النووية، ولم يتوقفوا عن التهديد بضرب المفاعلات النووية الإيرانية، وطمعوا في القيام بهذه المهمة. بدأت التحذيرات مع رئيس الوزراء يتسحاق رابين، زعيم حزب العمل، وتعاظمت لاحقًا بزيادة الحديث عن نية إيران إنتاج قنابل نووية لتدمير إسرائيل ولم تتوقف عن ذلك إلى الآن، رغم أن خبراء عسكريين إسرائيليين وأميركيين كبارًا أكدوا مرارًا وتكرارًا عدم وجود خطر إيراني يتهدد وجود إسرائيل. وينبغي التأكيد هنا على أن تلكؤ إسرائيل في ضرب إيران أو مفاعلاتها النووية كان راجعًا لعدم وجود موافقة على مثل هذه الخطوة من أصحاب القرار في واشنطن. فإسرائيل الأداة لم تكن في أي يوم صاحبة القرار وكانت تتلقى الأوامر من واشنطن لشن الحروب وتحصل على موافقة مبدئية مسبقة، قبل أي عملية عسكرية، مثلما أوضح ذلك في مذكراته وزير الخارجية الأميركي الجنرال ألكسندر هيغ الذي وافق على اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 لكنه طلب توفير عذر مقبول للعملية، فجرت محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن شلومو آرغوف التي استخدمتها إسرائيل مبررًا لحربها المدمرة على لبنان.
لم يؤخذ الأميركيون بالحماس الإسرائيلي لخدمة مصالحهم وكانوا يعلمون منذ البداية مدى محدودية هذه الأداة وعجزها عن القيام بمهمات بعيدة المدى وأكبر حجمًا من المهمات السابقة، مثل ضرب إيران. فعلاوة على مخزونها الاستراتيجي البشري (78 مليون نسمة) وثرواتها الطبيعية الهائلة أبرزها النفط، يُشكّل بُعْدُ إيران الجغرافي عن إسرائيل عقبة كبيرة، ناهيك عن أن الجيش الإيراني خرج من حرب السنوات الثماني التي ابتلاه بها صدام حسين أكثر قوة وتمرُّسًا في القتال، وأصبح قوة ضاربة يُحسب حسابها، خاصة بعدما أعلنت إيران أن أي هجوم إسرائيلي عليها لن يتم من دون موافقة أميركية وسيجعلها ترد بضرب المصالح الأميركية في المنطقة، أي آبار النفط في السعودية وإغلاق مضيق هرمز الذي منه تمرّ شحنات النفط الخليجي إلى العالم. فالتهديد الإيراني لم يعد مقتصرًا على إسرائيل، بل يشمل منابع النفط في الجزيرة العربية أيضًا.
فجأة اكتشف الإسرائيليون أن ميزان القوى الدولي بدأ يتغير، وأن أميركا التي يعملون موظفين لديها منذ أكثر من خمسين عامًا لم تعد بحاجة لتوجيه ضربة عسكرية لإيران. فأيقن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامن نتنياهو بأنه عاجلًا أم آجلًا سيُصبح أداة عاطلة عن العمل، خاصة بعد تدمير العراق وسورية وخروج مصر من المعادلة العربية مبكرًا، فهو خير من يعلم أن العاطل عن العمل لا يتقاضى أجرًا أو مكافآت، بل يعتاش كما هو معروف على مخصصات البطالة، فجُن جنونه.
هذا هو إذن سبب غضب نتنياهو على الاتفاق بين إيران ومجموعة 5+1، فبذلَ المستحيل لعرقلة الاتفاق وما زال يراهن على المعارضة الأميركية في الكونغرس والحزب الجمهوري لإفشاله، متجاهلًا الإرادة الدولية التي تمثلت بقرار مجلس الأمن الاثنين الذي تبنى الاتفاق.
بالطبع لم ينته دور إسرائيل بعد كأداة بيد الأميركيين في المنطقة، فطالما بقي هناك نفط في الجزيرة العربية وأموال نفط لا أحد يعلم حجمها مكدسة في البنوك الأميركية التي أصبحت بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية أهم من النفط بالنسبة للاقتصاد الأميركي، ستظل أميركا بحاجة لحراس لمصالحها في الشرق الأوسط. لكن من الواضح أن حكام إسرائيل جنوا على أنفسهم بالموافقة على القيام بهذا الدور وتحويل الإسرائيليين إلى مرتزقة، بدلًا من السعي للتفاهم مع الشعب العربي الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى. فالإسرائيليون الذين ما زالوا يتنعّمون بالمساعدات الأميركية والغربية السخية طيلة الـ68 عامًا منذ عام 1948، سيجدون أنفسهم عاجلًا أم آجلًا أمام وضع جديد لا مفر فيه من التفاهم مع الفلسطينيين والشعوب العربية.
وهذا سبب إضافي لصراخ نتنياهو، فمن خلال معارضته بشدة للاتفاق الغربي مع إيران، سيحاول أن يُحقق المكاسب على حساب القضية الفلسطينية، ويريد أن يبتز الغرب لدعم إسرائيل عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، خاصة في مسألتي الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية وإرغام إسرائيل على تسوية توصل في النهاية إلى إقامة الدولة الفلسطينية.
فهل ينجح نتنياهو في هذه المهمة؟
السبت 25/7/2015