المنبرالحر

رِحلَتُك أبوكاطع.. / إحسان شمران الياسري

في مثل هذا اليوم 17 آب من سنة 1981 مات شمران الياسري في حادث سير على دروب الحياة التعيسة وهو يرحل من بلد الغربة إلى بلد السجون والمقابر.. كان في طريقه إلى كوردستان العراق لمواصلة عمله الإذاعي في إذاعة « صوت الشعب العراقي» احدى اهم اذاعات المعارضة العراقية في شمال العراق، حيث تجمّع العراقيون من كل مشاربهم ليقارعوا نظام القتل والتهجير في بغداد.
ربما هو موعد محتوم وأجل مكتوب، غير أنه كان أجلاً لصالح الغالب على المغلوب، وأجلاً لانتزاع قلم جريء وصوت نقي وإرادة صادقة في مقابل مشروع قتل ظل يعذب الناس أكثر من عقدين بعد هذا الحادث المريع.
كان شمران الياسري- أبوكاطع صوتاً مألوفاً ورأياً ثابتاً في صف الفقراء من الفلاحين والعمال والعاطلين.. في صف المرأة، في صفّ المحرومين من الأرض ومن فرص العمل.. في صفّ المخدوعين من طرف المتلاعبين بالدين ومن المشعوذين..
وكان يعرف المنافقين والمتاجرين بالقيم، الذين يخدعون الناس ويرونهم (الحنطة) ثم يضعون لهم (الشعير) في زكائبهم!..
وقد لملمَ قلمه كل ترف الكلمات وصاغها في أعذب الجمل، وأقصرها، حيث كان لها أن تختصر قصة كاملة وقضية كبيرة في عدة كلمات.
شمران الياسري كان (جرف) الغرّاف، وطينه «الحِرّي».. وصوت النخيل وهي تجابه (سُموم) (الرجعية والإقطاع).. و(قالب الثلج) في شهور القيظ.. تدفق بالحب باكراً، ورفع يده ذائداً عنه، حتى بانَ باطنُ إبطه وهو يهتف لأرواح الفلاحين، الذين قضوا وهم يحتملون بأجسادهم برد كانون حيث لا يقف السد الترابي إلا بإسنادها.. (كان الإقطاعي يضع ثلاثة أو أربعة من الفلاحين وسط النهر المتدفق، فيما يبدأ زملاؤهم برمي الأشواك والحطب ثم التراب لبناء سد، ولا ينسحب الفلاح إلا بعد أن يقف السد ويصمد.. وقد مات العديد منهم لأن البرد خدّر أبدانهم، ث? عندما ينهار السد يجرفهم تحت الماء فيغرقون..).
ولم تنسَ مجالس الريف والمدينة أفراحها وأحزانها، ونوادي الأدباء والمثقفين ذلك الحضور الفاتن، الذي يبدّد كل ما سواه ويعلق بالذاكرة الجمعية للحاضرين، وحتى للغائبين من خلالهم..
فطوبى لشبابك وقد شققت تجربتك من طين الغرّاف، وتربة شاطئه النديّة.. وطوبى لعطائك وقد حمل أثمن تجربة لمبدع عراقي، تجربة الراوي لمرحلة مهمة من حياة الشعب العراقي، وكان المدوّن الأول لمفردات الريف العراقي و(ترجمان) ثقافته الشعبية الغنية..
ولذكرى رحيلك المُبكّر، سأضع بين أيدي قرّائك كتاباً عنك يحكي قصة تحريضك البنّاء على الصراحة وعلى العِفّة وعلى الصدق.. وقد قلتَ حكمتك التي لم تصدق إلّا عندك وعند الصادقين مثلك (المناضل.. المناضل الليّ ما يچذّب).