المنبرالحر

صوت المجتمع المدني .. لماذا ارتفع الآن؟ / ياسين النصير

ليس مفاجئا ما يحدث في العراق الآن بعد نداء ساحة التحرير والمرجعية في النجف الأشرف. فقد كان هذا النداء الإصلاحي موجودًا في كل خطابات وممارسات وفعاليات القوى الوطنية واليسارية ومنظمات المجتمع المدني منذ التغيير عام 2003 إلى اليوم.
لقد كان النداء خطابًا وطنيًا بجملٍ وفقراتٍ الحياة اليومية للشعب العراقي، وقد تمثل بداية بحزمات المطالب وبآلاف التحليلات الاقتصادية والسياسية. ولكن الحكومة ومفاصلها الإعلامية والسياسية كانت تقرأ ما يُكتب ويقال، إلا أنها تغضّ النظر طرشاء عمياء عمَّا يحدث. والسبب أن هذه النداءات، وهذه المطالب ليست من اجندات ثقافتها، ولا من أساسيات اديولوجيتها ورؤيتها للحكم. وكل ما تراه هو أن ينفذ العوام سياسة النخبة السياسية المتسلطة. وهذا ما جعل مفهوم ومبادئ المجتمع المدني غائبة عن تصوراتهم وأفكارهم، لكنها لم تغبْ عن الشارع وعن المرجعية المتيقظة لممارسات الساسة باسم الدين.
فالرؤية الحداثوية مشروع لتحديث المجتمعات، وليست مجرد افكار ثقافية للتداول المعرفي والصحفي، لقد كانت أفكار المجتمع المدني أحدى قوائم الثورة الفرنسية عام 1779، ثم ترسخت في ممارسات الشعوب التحررية لتأتي ثورة أكتوبر عام 1917وتؤكد مشروعية مجالس الشعب. ثم أصبحت من مشروعات الحداثة في عصر التنوير، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومن ثم من أهم ركائز ثورة الشباب في فرنسا عام 1968 في القرن العشرين، والتي غيرت الكثير من مفاهيم السلطة المدنية خاصة في مجالس البلديات. لتصبح مفاهيم المجتمع المدني لاحقًا جزءًا من مفاهي الحداثة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كحزب الخضر وحقوق الإنسان والبيئة والضمان الاجتماعي وتوزيع الثروة، باعتمادها على منطق الإنسان الذي يبتكر مشروعات اقتصادية فردية مسندة مما يؤسس سندًا اقتصاديًا لمشروعات الدولة الكبرى. وفي السياق نفسه أعيد التفكير في مفــــهوم دور التكنوقراط، هذه النخبة المتمرسة بالعمل المنظم دون أن تكون باتجاهات حزبية أو فئوية، ومن هنا بدأت المجتمعات الغربية تبني نفسها بأيدٍ متعددةٍ : اقتصاد مبرمج، مؤسسات للقطاع الخاص، أنشطة للأفراد، رؤية حداثية للتعليم والثقافة والمدينة.
الآن يبرز مفهوم المجتمع المدني في حياتنا اليومية وفي خطابنا السياسي واضحًا، ليصبح لافتةً تجلبُ النَّظر في ساحة التحرير وعلى لسان المرجعية معًا. هذا شيءٌ ملفت للنظر والوحيد الذي بإمكانه أن يختصر الزمن بعد التغيير: لو أن المسؤولين انتبهوا إلى نبض الشارع المدني، وليس إلى نبض النزعة التسلطية والمتحزبة والفئوية والطائفية. ولن استبعد الأميركان من ترسيخ لعبة المحاصصة في سياسة الدولة العراقية؛ حينما اعتمدها الحاكم المدني بريمر اساسا في مجلس الحكم وإدارة الدولة. وقد قلت ذلك مباشرة لوفد من الصحافة الامريكية عندما زار العراق قبل سنوات- وكنت يومها مستشارا في هيئة الإعلام والإتصالات- من أن أميركا مسؤولة مسؤولية كاملة عن ترسيخ مفهوم المحاصصة الطائفية في العراق. وهي تعرف جيدًا أن الجهات العراقية الحاكمة لن تستطيع الحكم إلا بهذه العقلية القبلية البدائية. وبالفعل أن ما حصل ليس إبعاد مفهوم المجتمع المدني فقط، إنما محاربته والتشكيك بدوره ومن ثم ابعاد القوى الاجتماعية والسياسية والخبرة التاريخية الطويلة التي تمثله، كي لا تعتمد مفاهيم المجتمع المدني رؤية بنائية للدولة العراقية.
الآن، ومن خلال صوت الساحة ولافتتها الوطنية العريضة وصوت المرجعية وخطابها الإصلاحي- يعلو صوت خطاب المجتمع المدني ويصبح لافتة ولهجة اجتماعية ونداء حداثويًا تنضوي تحته كل فئات الشعب. كما يصبح خطاب المجتمع المدني خطابًا وطنيًا بامتياز، لأنه الوحيد الذي شخصَّ خلل مفردات الحياة السياسية والتنظيمة لمؤسسات الدولة القائمة، وللكيفية التي أبعد فيها التيار المدني عن ممارسة دوره، بحجج نعرف تماما أنها حجج المتمسكين بكراسيهم دون حق.
اليوم ما عادت مفردات المجتمع المدني مجرد ثقافة سياسية، إنما هي مفردات لعملية التنظيم والبناء. وعلى الساسة الذين يتولون شؤون الاصلاح أن يفهموا أن أدوات ومفاهيم المجتمع المدني والتكنوقراط وحدها القادرة على إعادة التوازن بين مدخولات العراق ومشروعاته التنموية، ووحدها التي تؤلف خطابًا سياسيًا معتدلًا لو أمكن اعتماده بعقلية البناء لا بعقلية الانتقاء.