المنبرالحر

دولة المواطنة المدنية حلم شعبي كبير / نجم خطاوي

في دولة مثل العراق يشكل التنوع الديني والقومي والاثني احد توصيفاتها وأساس تكوينها وترابطها، يبقى من الصعوبة التفكير بقاعدة عريضة شعبية لدعاة الحراك المدني والدولة المدنية المستندة لفكرة العلمانية سبيلا لها، دون الأخذ بنظر الاعتبار لهذا التنوع المجتمعي وتأثيراته. ولأن فكرة الدولة المدنية هي عابرة للأطر القومية والدينية والطائفية فأن من الممكن أن تلاقي تفهماً قبولا ولو بحدود معينة وسط هذه التكوينات الاجتماعية، وبشرط أن توفر الشروط والإمكانيات لأن تكون مقبولة ومقنعة وذات نفع اجتماعي وجاذبية عقلانية في توجيه مضامين الخطاب الفكري والسياسي.
في العراق ومنذ حلول الاسلام فيه فان الصفة الغالبة للناس هي كونهم مسلمين يجمعهم الدين ويكنون هكذا في سجلاتهم، وهذا بغض النظر عن الانتماء القومي لهم العربي والكوردي والتركماني، مع وجود نسبة من السكان من ديانات اخرى كالمسيحية والمندائية.
لم تشهد الحياة السياسية والاجتماعية التاريخية في العراق اشكالا من الصراعات العنفية بين المسلمين بسبب مستوى تدينهم وقربهم من الشريعة وممارستهم للطقوس الدينية. كما لم تطلق إلا أحيانا صفة المرتدين أو الكفرة والملحدين على الناس الذين لا يمارسون الطقوس الدينية والشعائر أو الذين يتبنون نهجاً مغايرا في السلوك المدني والانتماء الفكري والسياسي، وكانت ولا زالت بحدود معينة صفة الوسطية والتسامح وعدم الغلو والتعصب هي الغالبة في المجتمع العراقي وفي علاقات الناس وتعاملها مع بعضها البعض.
في كوردستان العراق ولأسباب تتعلق بموضوع الشعور القومي وحلم التحرر والنضال القومي وبعد المنطقة تاريخيا عن مراكز النفوذ الديني المتمثلة بالمدن والعتبات وقبور الائمة والصالحين، فأن فكرة التدين وممارسة المشاعر الدينية ظلت غير بارزة نسبياً لفترات طويلة، وانتعشت بحدود معينة بتأثيرات الثورة الايرانية والتأثيرات الاقليمية. الغريب في الأمر ان الدعوات للمدنية والعلمانية لا زالت ضعيفة في مناطق اقليم كوردستان رغم الذي اشرنا إليه بحيث يبدو الامر ان هناك قناعات بحدود معينة ببعض الفقرات المدنية في فقرات دستور الاقليم وببعض الاصلاحات والحريات العامة والشخصية التي تتقدم فيها على بقية مناطق العراق. من المعروف أن حزب الاخوان المسلمين هو الأقدم بين الاحزاب الدينية الاسلامية في العراق مع وجود جماعات اسلامية أخرى ولكن الشارع في مناطق الغربية والأماكن التي تقطنها أغلبية سنية لم تطغ عليه الصفة الايمانية من ناحية تدين الشباب وممارساتهم للطقوس الإسلامية رغم أن فترة الحملة الايمانية في عهد الطاغية قد ساعدت في ازدياد أعداد المتدينين ورواد المساجد.
في مناطق الوسط والجنوب والفرات هناك أغلبية شيعية مع تباين هذه الأغلبية في بعض المدن لصالح السكان السنة، وتداخل العيش المشترك والوئام بينهما، أي السكان الشيعة والسنة، وكذلك التنوع القومي والديني والعرقي الذي لم يمنع الجميع من التعايش وتكوين علاقات انسانية ومصالح ومنافع اجتماعية متبادلة.
فكرة المدنية في هذه المناطق لها جذورها التاريخية، وخصوصاً في العاصمة بغداد، حيث ارتبطت ببدايات الدعوة للتحرر من سيطرة الامبراطورية العثمانية وتشكيل الدولة، ومن ثم مع ظهور بواكير الوعي السياسي والطبقي ارتباطاً بنشوء الحزب الشيوعي العراقي وعدد من الاحزاب والمنظمات التي كانت تدعو جهارا للتحرر وبمبادئ المساواة والحرية.
ولم يمنع الكثير من المتدينين والمؤمنين من الانخراط في النضال الوطني والطبقي التحرري، ولم تمارس ضدهم القوى العلمانية كالحزب الشيوعي وبقية المنظمات والأحزاب اجراءت أمرية لتخليهم عن معتقداتهم الروحية، وظل الدين الاسلامي والمسيحي ودين المندائيين وبقية الاديان والمعتقدات موضع احترام وتقدير الجميع.
مع احتلال العراق في 2003 وانهيار النظام الذي كان يدعو كذبا وبهتانا للحملات الايمانية الدينية، برزت سلطة حاكمة تنوعت في تكوينها وأصولها لكن الواضح فيها النفوذ الكبير لأحزاب الاسلام السياسي التي غابت برامجها وأنظمتها الداخلية وتوجهاتها واكتفت بالاحتماء بالدين والمعتقدات في محاججة المعترضين على سوء الادارة والخدمات وغياب الافق والرؤيا وتدني ونكوص التطور في جميع مجالات الحياة.
ولأن المؤمنين والمتدينين حالهم حال بقية الشعب بكل فئاته قد أكتو وعانوا من ويلات وأوجاع الفساد والسرقات وسوء الخدمات والصراعات ومن الارهاب وضياع الأمن، فلذلك ترى أن همومهم قد توحدت مع هموم أقرانهم من الناس، حيث كان الآخرون بقصد وبغيره يحلمون بوضع الحواجز بين الناس وتصنيفهم حسب المذهب والمعتقد والدين والقومية والعرق ونسبة التدين وممارسة الشعائر.
الحركة المدنية والدعوات لتغيير الأوضاع في العراق هي دعوات شعبية بامتياز ابتدأتها الجماهير باحتجاجات واعتصامات مختلفة وراكمتها عبر سنين الحكومات التي توالت على سدة الحكم بعد الاحتلال في 2003. هذه الحركة المدنية الجماهيرية لاقت ترحيباً كبيراً ومؤازرة وتأييدا من قبل الجماهير العراقية في كل مدن العالم، كما أن المرجعية الدينية والعلماء المسلمين شيعتهم وسنتهم وعلماء الاديان الاخرى قد ناصروا وباركوا هذه الحركة الجماهيرية الانتفاضية.
رغم الزخم الجماهيري الواسع للحركة فأن هناك اعداد كبيرة من الشباب وبقية الفئات العمرية وخصوصاً المتدينين منهم، لا زالوا بعيدين عن المشاركة الفعلية فيها، ويمنعهم من المشاركة خوفهم من أن يوصفوا بنعوت معينة كالمدنيين أو العلمانيين أو ربما اليساريين، وهذه التسميات سبق وان استخدمت ظلماً لوصف الناس وكأنهم خارجين عن الاصول والتقاليد الاسلامية. كما أن الخطاب الفكري والسياسي والجماهيري للقوى المدنية لم يرتق لمستويات متطورة وواضحة لإقناع هذه الجمهرة الواسعة من الناس وطمأنتها بأن الحراك الجماهيري المدني يهدف بالأساس لتغيير واقع الناس وتطور البلد وفي ظل دولة تحترم فيها الأديان والشعائر والمعتقدات. أهل الحراك المدني وجماهيره من جهة ويقابلهم في الجهة الأخرى الذين لا زالوا في لجة التردد والخوف ظانين أن الموضوع لا يعنيهم أساسا وربما يتصور بعضهم دون دراية بأن هذا الذي يحدث يستهدف دينا محددا أو جهة محددة.
الطرفان بحاجة الى خطوة جريئة للتقارب بينهما والاتفاق على عهد وضمان وطني في خوض غمار التغيير الوطني بأفق يضمن للجميع العيش في ظل دولة مدنية اساس تكوينها الديمقراطية والحرية وحقوق الناس واحترام مشاعرهم.
ان ابتكار أساليب جديدة نوعية ومبادرات من قبل الحراك المدني الشعبي باتجاه توسع القاعدة الجماهيرية مع الوضوح والشفافية والصراحة في البرامج والخطط والعمل الذي ينوون القيام به في حال توسع نفوذهم ومنح الشعب لهم صلاحية تمثيله، مع التأكيد على الرغبة والاستعداد وتبيان القدرة على تبوء مراكز خدمة الناس وتبني مصالحها والدفاع عنها، كل هذه العوامل ستكون بالتأكيد كفيلة في أن تدفع جماهير واسعة من العراقيين في كل مدن الوطن وقصباته وريفه الى مساندة الحراك الشعبي المدني والوقوف في جبهة الداعين لعراق أفضل وأجمل وأنقى رايته المدنية ودولة المواطن.