المنبرالحر

التظاهرات بدأت شعبية عفوية ثم قادتها نخبة واعية / طالب عبد العزيز

قد تختلف مطالب المتظاهرين في البصرة بعض الشيء عن مطالب اقرانهم من العراقيين ذلك لأن المعاناة هنا لها طابعها الخاص، متمثلة في كونها تنتج وتصدر ما مجموعه 90 بالمئة من إجمالي النفط العراقي. كذلك تنفرد بمعاناتها من مشكلة الخدمات, فالماء المالح زائر سنوي والكهرباء ما زالت في ادنى مستوى لها، والبنى التحتية لا وجود لمعانيها، فضلا ً عن طبيعة المناخ القاسية في الصيف. أضف إلى ذلك خراب المساحات الشاسعة من أراضيها الزراعية وتحولها إلى مناطق محرمة لصالح شركات النفط العالمية، وخروج المدينة من كونها مدينة للنخل بسبب ال?جريف وردم الانهار. أما المشاكل في السكن والصحة والتعليم وسواها فلها أحاديث كثيرة. وهنالك عشرات الاسباب التي يمكن تدوينها مطالب يتوجب على الحكومتين الفدرالية والمحلية تحقيقها .
لذا كان لشرارة التظاهرات منطلق من جنوبي البصرة، حيث ترتفع درجات الحرارة. ففي مطلع شهر تموز تظاهر أهالي قرية الصنكر في أبي الخصيب ضد الكهرباء وتصدت لهم الشرطة المحلية، فيما تسبب مقتل أحد المتظاهرين (منتظر الحلفي) شمالي البصرة بإضرام النار في عموم مدن العراق، النار التي جعلت من الحكومة العراقية تتعجل في إصلاحاتها.
البعض يقول لنا بوجود من خطط ومخططين للتظاهرات التي تجتاح العراق اليوم، لكن الجماهير خرجت تبحث وتضغط لتجد الحلول لمشاكلها في الحياة، ومن يقول بان المرجعية هي أول من تصدى واستجاب لنداء الشارع سيجانب الحقيقة، نعم المرجعية استجابت لنداء الشارع بعد جمعتين من خروج التظاهرات الشعبية، فكانت خير معاضد لها. وتظاهرات العراق مثل كل التظاهرات الشعبية هناك من يعمل على سرقتها وجرها لمصالحه (..).
لا نريد هنا أن ننفخ في حجم الفعل الشعبي النبيل هذا، ولا نريد أن نكون متفائلين أكثر مما يجب في النتائج التي قد نجنيها من التظاهرات، لكننا نريد أن نشير إلى قضية بدت لنا اكثر اهمية من فعل التظاهر نفسه. إذ يمكننا القول بان الحشود المليونية قالت كلمة الفصل، من خلال تأشيرها فساد الحكومة ورفضها نمط الاسلام السياسي في الحكم وبحثها عن الدولة المدنية، وقد باتت المطالب هذه الشعار الأول الذي يحرك ويضبط إيقاع الشارع. نعم قد يتباين عدد المتظاهرين بين جمعة وأخرى، وقد نجد تناقصا في عديدهم بما يعني انهم أحبطوا او أصابهم اليأس لكن ذلك لا يعني صمتهم او ما يشبه الأفول .
غالبية جمهور المتظاهرين من الشباب العاطل عن العمل الذي رفض الطبقة السياسية الحاكمة بعدما تبين له فسادها ولصوصيتها، وهذا شعور لا يحتاج معه أن يكون الفرد مثقفا أو متعلما حتى. اما حضور النخب : نساء - نقابات- اتحادات- منظمات مجتمع مدني- أدباء -فنانون .. الخ فهو حضور نوعي لا يقاس بعدد المتظاهرين الفعليين ، ووجودهم غالبا ما يكون على جانبي الشارع المؤدي إلى المبنى الحكومي، بدأ حضورهم في الجمعة الأولى على شكل حلقة صغيرة تهتف بشعارات خالية من الشتائم والاستهجان لكنها تنادي بالدولة المدنية وتنبذ الطائفية وتحولت في ?عض الأحيان إلى موجهات حضارية لبعض ممارسات المتظاهرين.
كانت خيمة المعتصمين الشباب قد شكلت المشهد الأكثر وضوحا في بعض موجهات التظاهرة، الأمر الذي تنبهت لخطورته الحكومة وأجهزتها. كان قادة الاعتصام أو لنقل المتحدثين بلسان الخيمة مجموعة من الشباب الواعي الذين تمكنوا من تلخيص مطالبهم بقائمة وعرضها على المحافظ مرة وعلى رئيس المجلس او مسؤولين آخرين، مع وعود بتنفيذ بعضها ومماطلات في تنفيذ اخرى. لكن الحكومة استشعرت الخطر. فهي، وعلى وفق أفكار ما، كانت تظن انها قادرة على احتواء العامة المتظاهرين، لكنها غير قادرة على احتواء النخب الواعية، من الذين ظلوا في خيمتهم امام المبنى هاتفين بشعارات صريحة تطالب بالإصلاح والتغيير.
لم تكتف الأذرع المسلحة لأحزاب السلطة المحلية بنصب خيمة مشبوهة إلى جوار خيمة المعتصمين إنما عمدت في الليل إلى دهم خيمتهم وضرب الحراس الليليين فيها وسرقة هواتفهم النقالة ورمي الخيمة في نهر العشار، ثم ذهبت إلى أبعد من ذلك فهددت وضربت بالرصاص الحي أحدهم في محاولة اغتيال فاشلة . الأمر الذي أدّى بالمعتصمين إلى رفع خيمتهم وانهاء الاعتصام بعد أن تخلت الشرطة المحلية عن مسؤوليتها في حمايتهم بشكل صريح ومعلن.
المستنتج من التظاهرات في البصرة يشير إلى أن التظاهرة التي بدأت شعبية عفوية أصبحت تقاد من نخبة واعية وهذا ما تخشاه السلطات لذا استعجلت الخطوات وراحت ترسل المسجات، مهددة تارة ومتوعدة تارة أخرى...
برأينا أن السلطات بأجهزتها واذرعها المسلحة إنما تخطئ إن راهنت على نفوذها المسلح في التصدي للمتظاهرين، وهي ستخسر الكثير إن قامت بأفعال مسلحة ضد هؤلاء العزل، كذلك سيخيب فعلها بما تنسبه اليهم من انتماءات خارجية، ومعيب عليها التخلي عن المطالب المشروعة لأبناء شعبها من الذين انتخبوها ووسّدوا لها الأمر.