المنبرالحر

الريع الاقتصادي و الاقتصاد الريعي / د. عودت ناجي الحمداني

لتوضيح العلاقة الجدلية بين الريع والدولة الريعية والاقتصاد الريعي سوف نتناول الموضوع بالشكل الآتي :
1- الريع والدولة الريعية
أول من استخدم مصطلح الريع كنمط من انماط الاستغلال الاقتصادي الفيلسوف الكبير كارل ماركس في كتابه الموسوم ( رأس المال ) وعدَّ الريع نمطا من اجل انتزاع فائض الانتاج في ظروف انتاج لمرحلة ما قبل الرأسمالية الزراعية. واكد انه ( في الاقتصاد الريعي تقوى علاقات القرابة والعصبية أما في التشكيلات الاجتماعية الرأسمالية فتسيطر علاقات الإنتاج ). والى جانب ماركس اشار ادم اسمث في كتابه ( ثروة الامم ) إلى ان الريع شكل من أشكال المردود المالي. اما ديفيد ريكادو فعرف الريع في كتابه (الريع التفاضلي) انه الدخل الذي تحققه الأرض الزراعية نظرا لما تتمتع به من خصوبة , وأنه الفائض الذي يستولي عليه الرأسمالي حين يكون مقدار العمل الذي اشتراه أكبر من مقدار العمل المتجسد بالأجور المدفوعة للعامل .
وقد اعتمد ماركس في تحليله مفهوم الريع على واقع الإنتاج الرأسمالي. فالزراعة عنده كالصناعة تخضع إلى نظام الإنتاج الرأسمالي واشار الى ذلك بالقول "فما دام هناك مبلغ مدفوع من المزارع الى المالك العقاري مقابل استغلال أرضه لفترة زمنية محددة فإن هذا المبلغ المدفوع يسمى ريعاً عقارياً سواء كان مدفوعاً في أراض زراعية أو أراض للبناء أو مناجم أو مصايد... الخ . ويؤكد إن كل ريع عقاري هو جزء من فائض القيمة. ووفقاً لذلك فان الريع يتخذ شكلا خاصا لفائض القيمة المنتزع من عمل العمال المنتجين أي أنه الجزء من الربح الفائض.
ومن المهم فهم ان الريع في الاقتصاد مفهوم واسع ولا يتحدد في بيع النفط و الغاز كما هو شائع وانما يشمل المصادر الطبيعية الأخرى كمناجم الذهب والماس والفحم والفوسفات واللؤلؤ وما شابه ذلك. ويشمل كذلك طرق المواصلات كالريع الذي يتحقق من قنوات المرور كقناة السويس وقناة بنما. ويدخل في مفهوم الريع الواردات المالية التي تحققها الدولة من تأجير موانئها أو قواعدها العسكرية الى الدول الأخرى. و يأخذ الريع شكلاً آخر وهو ما يعرف بالريع العقاري الذي يتلخص بتأجير عقار معين كالأرضي الزراعية او المساكن او المخازن لقاء مبلغ نقدي خلال فترة معينة . ويتضح من ذلك ان للريع انواعا مختلفة وفقا لما يحققه من دخول نقدية . فالريع الذي يتحقق من المصادر الطبيعية غير المرتبطة بصنع الإنسان كالذهب والماس واللؤلؤ والنفط والغاز وما شابه ذلك يعرف بالريع الطبيعي. والريع الذي تحققه الدولة من تأجير قواعدها العسكرية او قنواتها النهرية يسمى الريع الخارجي. ويدخل في هذا الريع الرسوم المالية التي تتحصل عليها الدولة من كميات النفط المصدرة عبر اراضها الى الدول الاخرى. اما المعونات الخارجية كالمنح والمساعدات المالية التي تتحصل عليها بعض الدول من الخارج فتسمى بالريع التحويلي. ونستنتج من ذلك ان الدولة الريعية دولة تعيش على دخل غير مكتسب بالعمل وانما من المصادر الطبيعة. أي ان الدولة الريعية تحصل على جزء كبير من دخلها من موارد طبيعية أو أستخراجية على شكل ريع وتحتكر هذا الريع وتتصرف به على وفق متطلباتها الاقتصادية والسياسية. فالريع بصفته دخلا دوريا لا يختلف في جوهره عن الأجور والأرباح لكن الفرق بينه وبين الأجور والأرباح يتمثل في مصدر الريع. بينما الأجر هو دخل يحصل عليه العامل من بيع قوة عمله فان الربح هو فائض القيمة الذي يحصل عليه الرأسمالي نتيجة استغلال القوى العاملة. أما الريع فهو الدخل الذي يحصل عليه مالكو الأراضي مقابل تأجير اراضيهم و يصبح الريع الجزء المقتطع من فائض القيمة الذي تنتجه القوى العاملة .
وبالنسبة الى الدول النفطية الريعية فانها تعتمد اعتمادا كليا او شبه كلي على ما تحققه صادراتها النفطية من عملات اجنبية لتمويل انفاقها االاجمالي. وقد فشلت الغالبية العظمى من البلدان الريعية في العالم الثالث في استثمار الاموال المتحققة من واردات النفط في تحقيق اقتصاد ديناميكي يعوضها عن الاستيراد الخارجي, ولهذا أصبحت معظم هذه البلدان أسواقا لاستهلاك البضائع الاجنبية كحال العراق والسعودية والبلدان الخليجية ومعظم البلدان البترولية الاخرى في البلدان العربية والبلدان النامية. ونستنتج من ذلك ان الدولة التي تمتمد بشكل رئيس على الدخول الريعية لتسيير انشطتها المختلفة هي دولة ريعية بامتياز وان اقتصادها هو اقتصاد ريعي بامتياز ايضا .
2- الاقتصاد الريعي
يتفق الاقتصاديون على ان الاقتصاد الريعي هو الاقتصاد الذي يعتمد اعتمادا رئيسيا على مورد طبيعي سواء كان المورد نفطا او غازا او معادن اخرى او عقارات او ما شابه ذلك.
وفي حالة العراق فان الاقتصاد يعتمد بشكل شبه كلي على مورد النفط الخام . ولهذا فهو اقتصاد ريعي و احادي وخدمي وشديد التخلف. وبالرغم من تمتع العراق بوفرة كبيرة من الموارد الطبيعية المتنوعة الا ان الدولة العراقية فشلت في استثمار هذه الموارد الضخمة في بناء قاعدة اقتصادية متطورة تنقل الاقتصاد من حالته الريعية والاحادية الجانب الى اقتصاد انتاجي متعدد المصادر . وقد انحصر اهتمام الدولة بشكل رئيس على القطاع النفطي كمورد رئيس للعملات الصعبة ولم تبدي اية اهمية إلى بقية القطاعات الأخرى كالزراعة والصناعة والسياحة التي تشهد تدهورا مستمرا بسبب سياسة الاغراق التدميرية التي تمارسها الدولة خدمة لاقتصاد السوق و الخصصخة التي ترمي إلى تصفية المؤسسات والمنشآت الانتاجية وتحويل الاقتصاد العراقي الى اقتصاد استهلاكي تلبية لمتطلبات العولمة الرأسمالية . فالدخل القومي الاجمالي يعتمد على القطاع النفطي بنسبة 95 في المئة والموازنة العامة بنسبة 90 في المئة. ونتيجة لذلك فان الدولة العراقية دولة ريعية واقتصادها اقتصادا ريعيا.
فمنذ العشرينات من القرن الماضي اعتمدت الدولة العراقية بشكل أساسي على القطاع النفطي في تمويل برامجها التنموية ونفقاتها الحكومية. ويوصف العراق عالميا بالدولة الغنية بالبترول وقد قدرت وكالة الطاقة الدولية احتياطاته النفطية في عام 2013 بين 112 و 143 مليار برميل من النفط الخام غير ان نتائج التنقيب و المسح الجوي أثبتت وجود وفرات ضخمة من النفط في اغلب المناطق العراقية ما يرفع الاحتياطي النفطي العراقي الى اكثر من 400 مليار برميل. و يعني ذلك ان العراق سيكون البلد الاول في الاحتياط النفطي في العالم. وتشير الحقائق المستنبطة من واقع بعض الدول النفطية إلى ان الاقتصاد الريعي لا يولد دولة ريعية ولكن الدولة الريعية تولد حتما اقتصادياً ريعياً وبهذا المعنى لا يمكن أن تكون هناك دولة ريعية من دون أن يكون اقتصادها ريعيا ومن الممكن ان تكون هناك دولة اقتصادها ريعي وهي دولة ليست دولة ريعية . كالريع الذي يحققه قطاع السياحة في تونس والمغرب ومصر. فهذه الدول ليست دولا نفطية ولا دولا ريعية ولكن اقتصادها اقتصاد ريعي. ومن المفيد في هذا الخصوص دراسة تجربة النرويج وكيف استثمرت ثروتها النفطية دون ان تتحول الى دولة اريعية ودون ان يتحول اقتصادها الى اقتصاد اقتصاد ريعي . فالنرويج دولة النفطية وهي خامس أكبر مصدر للنفط وثالث أكبر مصدر للغاز في العالم الا انها لم تعتمد على وارداتها النفطية في تمويل قطاعاتها الانتاجية و تستثمر4 في المئة فقط من وارداتها النفطية لدعم الموازنة واما باقي العائدات النفطية فتحول الى ( صندوق معاشات التقاعد الحكومي) الذي بلغت أصوله المالية حتى عام 2007 اكثر من 300 مليار دولار.
3- تداعيات السياسة الريعية
ادت السياسات الريعية الى تدمير قطاعات الاقتصاد الوطني والى تبعية البلدان الريعية الى البلدان الرأسمالية المصدرة للسلع والخدمات وبذلك اصبحت البلدان الريعية في تبعية ذيلية الى الخارج وتتأثر بشكل مباشر بالأزمات الاقتصادية والمالية التي تصيب البلدان الرأسمالية ما يعرضها الى خسائر مالية جسمية . واذا اخذنا حالة العراق فقد انتج لنا الاقتصاد الريعي مجتمعا استهلاكيا بامتياز فالاقتصاد العراقي بسبب طبيعته الريعية وبسبب سوء ادارة الدولة وبرامجها الرامية الى تطبيق الخصخصة واقتصاد السوق اصبح مكبلا بقيود التبعية الاقتصادية والمالية للبلدان الرأسمالية ومقيدا بتوصيات صندوق النقد الدولي واصبح تطور الاقتصاد العراقي واخفاقه محكومين بأسعار النفط العالمية التي تخضع إلى الإرادات الدولية التي تهيمن عليها الدول الاستعمارية . فالتحسن المنشود في النمو الاقتصادي سيبقى مرهونا بزيادة العملات الصعبة التي تحققها الواردات النفطية واما العجز الذي تتعرض اليه الموازنة فسيكون مرتبطا بالتدهور الذي يصيب الواردات النفطية . فتدهور سعر برميل النفط من 110 دولارات الى اقل من 50 دولارا خلال الفترة 2014 و2015 احدث عجزا حادا في الموازنة العراقية مقدرا باكثر من 25 ترليون دينار ما اجبر الحكومة على التوجه نحو الاقتراض الخارجي والمحلي وهو توجه خطر لأنه يضع الاقتصاد العراقي تحت مزيد من الضغوط والاملاءات الخارجية. ومن تداعيات الطبيعة الريعية للدول النفطية الريعية وما يرافقها من فساد مالي واداري انها تؤدي الى تعاظم جنوح الحكومات نحو الدكتاتورية والاستبداد والهدر في المال العام وتوجيه الموارد نحو الاستهلاك الترفي والتبذير والانفاق الكبير على الأجهزة القمعية وشراء الولاءات السياسية وهو ما نشهده في الكثير من الدول النفطية ومن بينها العراق. ويقترن ذلك بغيات الرؤية الاستراتيجية للخروج من الطبيعة الريعية للدولة واقتصادها الريعي .
فقد احتل العراق المرتبة الثالثة في الفساد في العالم واصبح دولة فاشلة وفقا لتوصيفات الامم المتحدة. وادت السياسات الريعية الى تدمير قطاعي الصناعة والزراعة وتضخيم جيوش العاطلين. كما ادى الانفتاح التجاري المنفلت ونشاط قطاع المقاولات الطفيلي الى نشوء طبقات ثرية و ارستقراطية نهابه ترتبط مصالحها بالقوى الطائفية المتنفذة في السلطة والى نشوء طبقات فقيرة ومعدمة. وبسبب الطبيعة الريعية للاقتصاد العراقي وتبعيته الكاملة إلى الاسواق الخارجية فانه يتأثر بصورة دورية بالأزمات والافلاس المالي وانهيار الاسعار التي تتعرض لها البلدان الرأسمالية ما يؤثر سلبا على حصيلة العائدات النفطية من العملات الصعبة وعلى الاوضاع المعيشية للمواطنين العراقيين.
4- كيفية الخروج
من الطبيعة
الريعية للاقتصاد العراقي
ان التخلص من الطبيعة الريعية للاقتصاد العراقي يتطلب جملة من القضايا أهمها:
1- وجود ستراتيجية وطنية للتنمية المستدامة و تحويل القطاع النفطي الى قطاع انتاجي وذلك بتوظيف العائدات النفطية في نشاطات انتاجية مثمرة لتحرير الاقتصاد من سمته الريعية والأحادية الجانب وتحويله الى اقتصاد انتاجي متعدد المصادر .
2 - توظيف المزيد من رؤوس الاموال الاستثمارية في سبيل اعادة الحياة الى القطاعات الحقيقية للاقتصاد وتنمية السياحة الدينية والاثارية. فتطور الزرعة يضمن الأمن الغذائي وتطور الصناعة يؤمن التطور الزراعي وتطور القطاعين سوف يعوض العراق عن الاستيراد الخارجي الذي يستنزف عشرات المليارات من الدولارات سنويا.
3- خلق بيئة استثمارية خصبة مطمئنة ومشجعة للدول والشركات المستثمرة ودعم القطاع الخاص المحلي وتشجيعه على استثمار أمواله في دعم التنمية واعادة البناء والاعمار.
ونستنتج من ذلك ان السياسة الريعية وما يرتبط بها من فساد مالي واداري ومحاصصة طائفية هي أداة نموذجية لتدمير الاقتصاد العراقي وتجويع المجتمع وابقاء العراق بلدا مصدرا للنفط خدمة لمتطلبات الصناعات الغربية وتعزيز تبعيته الكاملة للبلدان الأجنبية.