المنبرالحر

راهنية ثورة أكتوبر / حميد خنجي

تطل علينا سنويا في مثل هذه الأيام ذكرى أحد أهم الاحداث البشرية الشاملة، المدوية والمصيرية.. إن لم يكن أهمها على الإطلاق؛ ألا وهي حلول ذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية المسمى في وقتها "العظمى" أو التي قد تكون سميت بعد حين! لم يبق ألا سنتين لتحتفل البشرية؛ بغالبيتها العظمى، أي الجزء المهمش من البشر، اليوبيل المئوي لثورة أكتوبر! والغريب أن هذه الثورة ما فتئت في تدشين منظومة دولية جديدة - غير مألوفة - لكوكبنا الأرضي، بحيث ظل القرن الماضي (القرن العشرين) مطبوعا بسمات عالم ذي قطبين متنافسين متناحرين (قطب رأسمالي أقوى وقطب يبني منظومة اشتراكية أضعف). ولعل الغريب - من مكر التاريخ - أن هذه التجربة الرائدة قد فككت - ذاتيا - على يد قيادة الحزب الشيوعي نفسه، في وضح النهار! ولكن الأغرب أن تركة تلك التجربة مازالت تعيش وتعيش في الأفئدة والأذهان.. وتنتعش في الذاكرة البشرية الجمعية : الإنجازات العظيمة، التي قدمتها التجربة المذكورة للمحرومين من الناس في مختلف القارات، بحيث من الممكن الادعاء.. أن ذلك النظام، الذي تعرض - ومازال يتعرض - لهجوم غير منصف، ليس من قبل الاعداد الطبقيين فحسب، بل ايضا من قبل "الأصدقاء" و"ثوريي" / مثالي الأمس - من كل أطياف الشيع والمدارس المتمركسة والثورجية والشعبوية المختلفة.. ممكن الإدعاء وبلا مواربة، أن ذلك النظام الآفل، حاضر – إفتراضيا- بشكل عجيب!.. ومازال يمثل المنهل، الذي لا ينضب لكافة البشرية التقدمية للنهل من دروس التاريخ، بحلوها ومرها، بغية إعادة التعبئة التاريخية لقفزة بشرية أحسم وأقوى من أكتوبر، تؤدي إلى قبر المنظومة الشائخة البربرية والمدمرة (الرأسمالية) والولوج إلى منظومة أرقى، حينما يزف الوقت!؟
هل كان السقوط أو التفكك حتميا؟! سؤال مركزي ومربك؟!.. خاصة أن أكثرية الباحثين ينطلقون من فكرة "منشفية" مفادها؛ أن "جرثومة" الفشل كانت دائما تعيش في دماء التجربة والنظام، ومنذ اليوم الأول، لأسباب موضوعية أهمها؛ ضعف وقلة الطبقة العاملة الروسية عدديا، بين بحر من الفلاحين!. وبالتالي - حسب الرؤية المنشفية الشكلية والنصية - فإن القفز إلى السلطة كان خطأ تاريخيا! وأن "لينين" تجاوز "ماركس" واستسلم لرغباته، ولم يكن وفيا لـ"قبان" قوانين الجدل؟!.. ولذلك ولأسباب مزعومة مثالية وتخيلية أخرى، فإن ”ثورة أكتوبر" كانت خطوة قبل الأوان؛ بمعنى أن حركة التاريخ وتعاريجها واشكالياتها واستثناءاتها كانت يجب أن تقاس بالضبط بـ"المساطر"، التي يحملها هؤلاء السادة المثقفين المتمركسين، حتى لا ننتقل إلى الليبراليين، القدامى والجدد! نعم سادت تدريجيا "بيروقراطية حزبية" مقيتة، بل ساد الطغيان الدولتي والاستبداد الفردي والحزبي، في مراحل سابقة نتيجة ظروف موضوعية وذاتية قاهرتين! غير أنه لا يمكن فصل تلك الظواهر السلبية والخطايا الكبيرة والضيم، الذي لحق بأبرياء كثر..الخ.. بشكل تعسفي بعيدا عن سياقها التاريخي، كما يرى الأعداء الحاقدين والناقدون اللامنهجيين! غير أن منظومة الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية - بعد ذلك - قد تعافت من مصائب لم تكن في مقدور "منظومة سوسيو إكونومي" اخرى تحملها!.. كان هناك قصور وأخطاء وحتى تقييمات من الخطايا، لا أول لها ولا آخر. غير أن ذلك قد أفل، وتخطى المجتمع السوفيتي المشاكل- المعيشية خاصة- وحلت تحديات جديدة، كانت يجب أن تدرك وتحل بشكل علمي منهجي في حينه. ولكن - بالرغم من كل شئ - برزت نوعية حياة واعدة جديد؛ كانت تتعزز باضطراد، لو لم يسقط الحزب في يد أعداء فكر الحزب!.. هنا ينقسم المحللون إلى قسمين : "السقوط كان لابد أن يحدث.. اليوم أو غدا !!" و .." لم يكن السقوط حتميا.. كان تفكيكيا وتآمريا!".. من هنا فإنه كان يمكن تفادي الزلزال، لو أن "الإنتلجنسيا القائدة" كانت جديرة بهذا الوزر.. وكانت شجاعة جسورة.. ومحصنة بمعرفة متقدمة، وبوعي اجتماعي وطبقي استثنائي!.. أنا اضع رهاني على الإحتمال الثاني.
كان لينين ثوريا نابغة.. لم يركن للنص في أطروحات ماركس! لهذا لم يدرك أحد فكر ماركس وروحه كما أدركه لينين!.. عبثا يحاول المنظرون الجدد - كالقدامى - وضع لينين في تعارض مع ماركس! قائد ثورة أكتوبر عرف جيدا الصعوبات والمصائب القادمة. أبصر في لحظة تأمل استشرافي، ضرورة الإقدام التاريخي. أو عودة القهقري للبشرية لعقود وأحقاب، لو تردد البلاشفة في منتصف الطريق، كدأب الثوريين الألمان في سنة 1919 ، الذين انتظروا عبثا الظرف "الأنموذجي" للثورة، والذين دفعوا الثمن غاليا! لم يكن بمقدور البرجوازية الروسية الناشئة والمجفلة، إكمال ثورة شباط البرجوازية وكنس الاقطاع والقنانة الروسية، المتمثلة بالرجعية القيصرية. بحثت قادة البرجوازية السياسيين عن حل وسط مع القيصر.. تمثلوا تجربة الثورة البرجوازية الانجليزية، غير مدركين الفرق بين التجربتين والزمنين! لم يكن هناك سبيلا آخر لدى هؤلاء السادة الروس غير الإستسلام للرجعية لتعود روسيا أسوأ مما كانت؛ سجن الشعوب وحصن الرجعية والتخلف العالميين! لم يستطع أحد غير لينين، على كثرة وغنى زعماء البلاشفة الاخرين، أن يضع مشروعا منسجما لتطور روسيا الحياتي، لم يقبله أي من رفاق دربه في البداية (رسائل من بعيد/ تكتيكان/ مسائل نيسان...الخ..)!.. إلى درجة أنه ساد لدى المريدين انطباع عام من أن لينين قد أصابه مس من الجنون!! لنا أن نتصور أي جهد بذله هذا الأخير لإقناع دهاقنة الفكر أولئك، بصواب وعلمية مشروعه! لمن يسفه " اللينينية" اليوم، عليه أن يستعيد لحظة التاريخ تلك! كان تحديا غير اعتيادي هو ما جابه هذا الروسي العبقري الفذ!.. امتحان تاريخي لمدى أحقيته بالقيادة، وبمتابع مبدع لنهج ماركس الفعلي! .. كيف يطبق أفكار ماركس لأول مرة ؟!.. كيف ينقلها من عالم الفكر إلى عالم التطبيق، في لحظة وعمل استثنائي، قد يبدو ظاهريا أنه يعارض افكار ماركس (حتى لا نقول تعاليمه/ لا توجد تعاليم!). ثورة أكتوبر ومشروعها كانت استثناء للقاعدة (يجب درك هذا بعمق)!.. لابد من استكمال الثورة البرجوازية أولا. ولكن ليس بيد البرجوازية غير الكفؤة - في الحال الروسية - بل بيد الطبقة العاملة الروسية الصغيرة حجما والواعية جدا نوعا، بالتحالف مع الفلاحين، بقيادة ممثلها السياسي العتيد؛ "حزب البلاشفة" (بالمناسبة لم يفرض نمط الحزب الواحد إلا بعد عداء الآخرين وعزوفهم عن المشاركة). ثم الإنتقال إلى فترة انتقالية أو حتى فترات، إن لزم الأمر!.. حتى الوصول إلى الشروع في بناء المنظومة الاشتراكية، بعد بناء الأساس المادي لها؛ وهي أساسيات الرأسمالية (خطة النيب).. وضرورة إمكانية ذلك في بلد واحد مترامي الأطراف، بعد سحق الثورة الألمانية! لم تكن هناك طريق آخرى، غير الثبات والعمل والإتكاء على الذات!.. لقد تحققت أكثر من المأمول بمراحل (تحققت معجزات!).. نعم ببيروقراطية وعنف.. ولكن في السياق التاريخي، ونتيجة عدوان الأعداء الخارجيين والداخليين، وأيضا بسبب ضعف الظرف الموضوعي المتراكم! ألم يتخط المجتمع الروسي ظروف رهيبة، لا يمكن مقارنتها بتسعينات المجتمع السوفيتي؟! الفرق كان في تواجد قيادة مخلصة، واعية وجسورة في الظرف السابق.. وتواجد قيادة متآمرة، متأمركة، سمسارة و جبانة عند لحظة التفكك أو التفكيك!؟ أما .. كيف وصل هؤلاء، وكيف سيطروا على الحزب؟! فتلك قصة أخرى، في حاجة إلى سجال أكثر دقة .