المنبرالحر

بغداد والآخرون / ابراهيم الخياط

عام 2005، أي قبل سنوات عشر، كتبت مقالا عن فلم «باريس والآخرون» الذي عُرض أواسط الثمانينات والحرب والدكتاتورية في صالة سينما المنصور، عند ساحة الاحتفالات الكبرى في كرخ بغداد. شاهدناه معا، كنا ثلة من فتيان بعقوبة وقد أخذنا أماكننا في صالة العرض الراقية بل الراقية جداً.
دام العرض الذي كان ساحرا وجذابا أربع ساعات. وكان الفلم شاهدا ووثيقة على النصف الأول من القرن الراحل، واختتم بموازئيك موسيقي أعده ونفذه «جان ميشيل جار» المؤلف الموسيقي لفلم (الرسالة) الشهير. وأخذت الحصة الموسيقية هذه من مدة العرض ثلثاً من الساعة، وما ارتوينا، ربما بسبب الحرمان أو قل القحط الذي كنا فيه، أو ربما بسبب روعة عصا المؤلف الموسيقي، وكدت أقول علو كعبه بلغة المنقرضين من أهلنا.
ومن الفلم الجميل يستقر في الذاكرة مشهد سأفصّله. فتيان بعقوبة مع الجمهور صامتون عميقا وكأن الطير على رؤوسهم. فرقة موسيقية ألمانية تأخذ مكانها على مسرح قاعة ما. بعد انزياح الستارة، يظهر المايسترو واقفا وجها لوجه امام العازفين، وظهره إلى القاعة. ما سمع تصفيقا فلم يعر للأمر أهمية، وربما عزاه للبرود الأوربي المشهود. رفع يده التي تمسك بعصاته الوقور، ولدقائق، صدقوني كانت جميلة، عزفت الفرقة بقيادته مقطوعة من تأليفه، مقطوعة هي من روائع الفن الأوربي الحديث. وبإشارة حاسمة مهتزة من عصاته إياها، أكملت الفرقة الموسيقية عزفها، ثم بحركة مفتعلة، كالعادة، أدار المايسترو جسمه الفيزياوي وهو ينحني تواضعاً لنفسه أو إجلالا للجمهور حتى تقوّس ظهره. فبهت، وكأن لا عرفا لديه ولا نكرا..
ماذا؟ المايسترو منحن ولا يسمع تصفيقا؟ رفع جفنيه قليلا ليرى، فإذا بالقاعة المتعددة الطوابق فارغة تماما.. المايسترو لم يزل على انحنائه وعيناه متسمّرتان على القاعة القاحلة. المايسترو لا يستطيع أن يستقيم، ثم هبطت ورقة من السقف البعيد، نزلت ببطء قاتل. حطت الورقة وكأنها مأمورة أمام ناظري المايسترو، أو قل أمام عين الكاميرا. ماذا فيها؟... حملت صورة للمايسترو المنكوب وهو يصافح هتلر في مناسبة ما.
إنها العقوبة إذن، وقد أخلى الجمهور قاعة المسرح إدانة وشجبا لموقف سابق، لتملق المايسترو وتودده للزعيم النازي.
الشعب لا اكبر منه البتة. الشعب لا اكبر منه في أيّ بلد، وفي أيّ عراق. لأنه هو الذي يحاسِب. بل هو الوحيد الذي من حقه أن يحاسِب، ويعاقب.
هل تتذكرون النوبلي الراحل غونتر غراس؟ في عام 2006 كشف في كتابه «أثناء تقشير البصل»، عن انتمائه وهو في الخامسة عشر من عمره إلى حركة الفتوة الهتلرية. وأثار بذلك عاصفة من الاستنكار والشجب.
لقد اقدم غراس على الاعتراف بهذا (الإثم) الذي ارتكبه في مراهقته، بل انه اضطر اليه في الواقع، ليتحرر من عذاب الضمير.. رغم انه لم يتغزل بـ «الفوهرر»، ولا سبّ أهله الألمان.