المنبرالحر

آلان وودز: راهنية أفكار ماركس : انتهى زمن المتشائمين.. لنبعدهم عن طريقنا ونواصل الكفاح

آلان وودز، ناشط سياسي ومفكر ماركسي بريطاني، يتولى حالياً رئاسة تحرير المجلة الماركسية "النداء الاشتراكي" الصادرة في لندن، وموقع "الدفاع عن الماركسية".
كتب وودز عام 2014، مقالاً واسعاً بعنوان "راهنية أفكار ماركس"، يعالج فيه بشكل جدلي، مأزق النظام الرأسمالي العالمي بعد الأزمة المالية عام 2008، حيث يعلق وودز على ما أعلنه رئيس وزراء المملكة المتحدة غوردن براون بكل ثقة: "نهاية دورة الازدهار والكساد" قبل حدوث الأزمة، قائلا أنه "أضطر بعد انهيار عام 2008 إلى ابتلاع كلماته".
ويعالج وودز في مقاله هذا، بشكل أساسي، أفكار ماركس، التي "لم تكن أبدا أكثر راهنية مما هي عليه اليوم"، وأهميتها لتفسير الأزمة التي يمر بها العالم الرأسمالي.
يبتدئ آلان وودز مقاله، بالقول: "لقد مرت 130 عاما منذ وفاة كارل ماركس. لكن لماذا نحتفل برجل توفي سنة 1883؟ في بداية سنوات الستينات من القرن العشرين أعلن هارولد ويلسون، رئيس الوزراء العمالي آنذاك، أنه يجب علينا أن لا نبحث عن حلول في مقبرة هاي جيت. من يستطيع أن يختلف معه حول ذلك؟ ففي المقبرة المذكورة أعلاه لا يمكن للمرء أن يجد سوى العظام البالية والغبار ونصب حجري قبيح".
ثم يضيف: "لكننا عندما نتكلم عن أهمية كارل ماركس اليوم لا نكون بصدد الحديث عن المقابر، بل عن الأفكار: الأفكار التي صمدت أمام اختبار التاريخ وخرجت الآن منتصرة، وهو ما يجد حتى بعض أعداء الماركسية أنفسهم مجبرين على الاعتراف به على مضض. لقد أظهر الانهيار الاقتصادي عام 2008 من الذي عفا عليه الزمن، وبالتأكيد لم يكن كارل ماركس".
ويحاجج المفكر البريطاني (ويلزي الأصل) الاقتصاديين الذين لم يتعبوا لعقود من الزمن، من تكرار القول أن توقعات ماركس بخصوص الانكماش الاقتصادي قد عفا عليها الزمن تماما. "كان من المفترض أن تكون أفكارا للقرن التاسع عشر، واعتبر أولئك الذين دافعوا عنها مجرد دغمائيين لا أمل يرجى منهم. لكن تأكد الآن أن أفكار المدافعين عن الرأسمالية هي التي يجب أن ترمى في مزبلة التاريخ، في حين تأكدت أفكار ماركس بشكل باهر".
ففي غضون 20 عاما، وهي ليست فترة طويلة في تاريخ المجتمع البشري، كما يرى وودز، دارت عجلة التاريخ 180 درجة. "الآن صار نقاد ماركس والماركسية السابقون ينشدون أغنية مختلفة جدا. ففجأة صارت النظريات الاقتصادية لكارل ماركس تؤخذ على محمل الجد فعلا. وصار عدد متزايد من الاقتصاديين ينقبون في صفحات مؤلفات ماركس على أمل أن يجدوا تفسيرا لما حصل".
هكذا يرى آلان وودز حراك المفكرين البرجوازيين وهم يواجهون واقع الأزمة الراهنة للنظام الرأسمالي، الذين تخللت أفكارهم، بسبب الأحداث، لدرجة أننا "صرنا نرى الكثير من المقالات التي تعترف على مضض بأن ماركس كان على حق في آخر المطاف".
وبهذه الطريقة المبسطة والمكثفة في نقد الوضع الراهن، يواصل وودز التأكيد على "راهنية أفكار ماركس" وصوابها في تشخيص النظام الرأسمالي..
وفي ما يلي عرض لأبرز الأفكار التي تضمنها المقال الواسع.
"الدكتور شؤم" وحيوية البيان الشيوعي
الواضح في خلال المقال، أن آلان وودز كان يتابع باهتمام واسع، طريقة تفكير منظري الرأسمالية أثناء وبعد الأزمة الاقتصادية عام 2008، وحتى قبلها، حيث أنه يشير إلى تعليقات عدة كتبها مفكرون اقتصاديون، بينهم الاقتصادي الشهير الدكتور نورييل روبيني أو "الدكتور شؤم"، كما يحلو لزملائه تلقيبه بسبب توقعه حدوث الأزمة المالية.
يؤكد روبيني، والحديث دائماً لـ آلان وودز، أن سلسلة الاقتراض مكسورة، وأن الرأسمالية قد دخلت في حلقة مفرغة حيث فائض الانتاج وانخفاض الطلب على السلع الاستهلاكية، وارتفاع مستويات الديون تولد انعدام الثقة بين المستثمرين، والتي من شأنها أن تنعكس بدورها على شكل أزمة حادة في البورصة، وانخفاض أسعار الأصول وانهيار الاقتصاد الحقيقي.
أن "الدكتور شؤم"، مثله مثل كل الاقتصاديين الآخرين لا يمتلك أي حل حقيقي للأزمة الحالية، باستثناء الدعوة إلى المزيد من ضخ النقود من طرف البنوك المركزية لتفادي حدوث انهيار آخر. لكنه اعترف صراحة بأن السياسة النقدية وحدها لن تكون كافية، وأن الشركات والحكومات لا تساعد على ذلك. وقال إن أوروبا والولايات المتحدة تطبقان برامج التقشف في محاولة لإصلاح اقتصاداتها الغارقة في الديون، في حين ينبغي عليهما تقديم مزيد من الحوافز النقدية. استنتاجاته لا يمكن أن تكون أكثر تشاؤما، حيث قال: "إن كارل ماركس على حق، فالرأسمالية يمكن عند نقطة معينة، أن تدمر نفسها". وأضاف: "كنا نعتقد أن الأسواق تبلي جيدا. لكنها ليست كذلك".
إذا، لا يزال شبح ماركس بعد مائة وثلاثين سنة يطارد البرجوازية، فما هي الماركسية؟.. بصفة عامة، يمكن تقسيم أفكاره إلى ثلاثة أجزاء متميزة لكنها مترابطة في الآن نفسه: أي ما أطلق عليه لينين اسم المصادر الثلاثة والأجزاء المكونة الثلاثة للماركسية. وهي ما يمكن إدخاله عموما ضمن العناوين التالية: الاقتصاد الماركسي، المادية الجدلية، والمادية التاريخية. كل واحدة من هذه الأجزاء هي في علاقة جدلية مع بعضها البعض، ولا يمكن فهمها بمعزل عن بعضها البعض. وأفضل نقطة يمكننا أن نبدأ منها هي الوثيقة التأسيسية لحركتنا والتي كتبت عشية الثورات الأوروبية عام 1848. والتي تشكل واحدة من أعظم الأعمال وأكثرها تأثيرا في التاريخ.
والميزة الأكثر إثارة للدهشة للبيان الشيوعي هي الطريقة التي توقع بها أكثر الظواهر الأساسية التي تشغل اهتمامنا على الصعيد العالمي في الوقت الحاضر. من العجيب حقا أن تعتقد أن كتابا ألف سنة 1847 يمكنه أن يقدم صورة لعالم القرن 21 بوضوح وبصدق. في حقيقة الأمر إن البيان الشيوعي هو أصدق اليوم مما كان عليه عندما ظهر لأول مرة في عام 1848.
ففي الوقت الذي كان ماركس وإنجلز يكتبان البيان، كان عالم الشركات متعددة الجنسيات الكبيرة مجرد صدى لمستقبل بعيد جدا. لكنهما، على الرغم من ذلك، شرحا كيف أن المشاريع الحرة والمنافسة من شأنها أن تؤدي حتما إلى تركيز رأس المال واحتكار القوى المنتجة. من المضحك أن نقرأ التصريحات التي أدلى بها المدافعون عن السوق بشأن خطأ ماركس المزعوم بخصوص هذه المسألة، بينما هي بالضبط في واقع الأمر واحدة من أبرع توقعاته وأدقها.
في الولايات المتحدة، حيث يمكن رؤية العملية بوضوح خاص، شكلت ثروة 500 شركة 73,5 في المئة من كل الناتج الوطني الإجمالي في عام 2010. وإذا أقامت هذه الشركات الخمسمائة بلدا مستقلا، فإنها ستكون ثاني أكبر اقتصاد في العالم، حيث ستأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
عندما كتب ماركس وانجلز البيان الشيوعي، لم تكن هناك أدلة تجريبية على كلامهما. إذ على العكس من ذلك، كانت الرأسمالية آنذاك تستند كليا على الشركات الصغيرة، والسوق الحرة والمنافسة. أما اليوم فتهيمن على اقتصاد العالم الرأسمالي بأكمله حفنة من الاحتكارات العملاقة العابرة للحدود الوطنية مثل إكسون ووول مارت. تمتلك هذه الشركات العملاقة أموالا تتجاوز بكثير الميزانيات الوطنية للعديد من البلدان. لقد تحققت تنبؤات البيان الشيوعي بشكل كامل وأكثر وضوحا حتى مما كان ماركس نفسه يتصور.
لا يمكن للمدافعين عن الرأسمالية أن يغفروا لماركس لأنه، في الوقت الذي كانت الرأسمالية في مرحلة شبابها، كان قادرا على التنبؤ بأسباب انحطاطها الكامل. لقد عملوا بشدة طيلة عقود على نفي توقعاته حول السيرورة الحتمية لتركز الرأسمال والقضاء على الشركات الصغيرة من قبل الاحتكارات الكبيرة.
ولا يعني هذا التزايد في تركيز الرأسمال تزايدا في نمو الإنتاج، بل على العكس تماما. ففي كل مرة لا يكون القصد من ذلك هو الاستثمار في بناء مصانع جديدة وشراء آلات جديدة، بل هو إغلاق المصانع والإدارات الموجودة وطرد أعداد كبيرة من العمال من أجل رفع هامش الربح من دون زيادة الإنتاج. ومثالا على ذلك لننظر فقط إلى عملية الاندماج الأخيرة بين اثنين من البنوك السويسرية الكبيرة، والتي تلاها مباشرة فقدان 13,000 وظيفة.
العولمة.. وآفة البطالة
لقد أوضح ماركس منذ عام 1847 أن تطور سوق عالمية سيجعل «من المستحيل كل ضيق أفق وفردانية قومية. إن كل البلدان، حتى أكبرها وأقواها، هي الآن تابعة تماما للاقتصاد العالمي ككل، والذي يقرر مصير الشعوب والأمم» (البيان الشيوعي). إن هذا التوقع النظري الباهر يبين، أفضل من أي شيء آخر، التفوق الهائل للمنهج الماركسي.
ينظر إلى العولمة عموما باعتبارها ظاهرة جديدة. إلا أن البيان الشيوعي توقع منذ فترة طويلة ميل الرأسمالية نحو إنشاء سوق عالمية واحدة. إن الهيمنة الساحقة للسوق العالمية تمثل الآن الحقيقة الأكثر حسما في عصرنا. وقد أثبت التصاعد الهائل للتقسيم العالمي للعمل منذ الحرب العالمية الثانية صحة تحليل ماركس بطريقة ملموسة.
لكن على الرغم من ذلك، بذلت جهود مضنية لإثبات أن ماركس كان مخطئا عندما تحدث عن تركيز الرأسمال، وبالتالي سيرورة الاستقطاب بين الطبقات. إن هذه المحاولات تتوافق مع حنين البرجوازية لإعادة اكتشاف العصر الذهبي للمنافسة الحرة. مثلما يحن عجوز محتضر إلى أيام شبابه البائدة.
للأسف ليست هناك أدنى فرصة للرأسمالية في أن تستعيد شبابها. فقد دخلت منذ فترة طويلة مرحلتها النهائية: مرحلة الرأسمالية الاحتكارية. وقد صارت أيام المشاريع الصغرى، بالرغم من حنين البرجوازية، جزءا من الماضي. ففي جميع البلدان صارت الشركات الاحتكارية الكبرى، المرتبطة بشكل وثيق بالبنوك والمندمجة بالدولة البرجوازية، تهيمن على حياة المجتمع. وتواصل سيرورة الاستقطاب بين الطبقات حركتها من دون انقطاع، بل وتميل إلى التسارع .
دعونا نأخذ الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية: تمتلك 400 أغنى عائلة في الولايات المتحدة ثروة تعادل ما يمتلكه 50 في المئة من السكان المتواجدين في قاع الهرم. ويمتلك أصحاب شركة وول مارت الستة وحدهم أكثر مما يمتلكه 30 في المئة من الأميركيين المتواجدين في قاع الهرم مجتمعين. يمتلك أفقر 50 في المئة من الأميركيين فقط 2,5 في المئة من ثروة البلاد. بينما رفع أغنى 1 في المئة من سكان الولايات المتحدة حصتهم من الدخل القومي من 17,6 في المئة عام 1978 إلى 37,1 في المئة عام 2011.
خلال السنوات الثلاثين الماضية اتسعت باطراد الفجوة بين مداخيل الأغنياء ومداخيل الفقراء حتى صارت هوة شاسعة. في الغرب المتقدم يمثل متوسط دخل أغنى عشرة في المئة من السكان حوالي تسعة أضعاف متوسط دخل أفقر عشرة في المئة. هذا فرق هائل. وتبين الأرقام التي نشرتها منظمة التعاون والتنمية أن التباين الذي بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قد امتد الى بلدان مثل الدنمارك وألمانيا والسويد، والتي كانت مظاهر عدم المساواة فيها منخفضة تقليديا.
لقد صارت ثروات أصحاب البنوك الفاحشة الآن فضيحة على كل لسان.
نعود إلى البيان الشيوعي لنقرأ: «وبناءً عليه يتضح أن البرجوازية لم يعد في وسعها أن تبقى الطبقة السائدة في المجتمع، وأن تَفرض على المجتمع شروط وجودها كقانون أعلى. إنها عاجزة عن السيادة لأنها عاجزة عن تأمين عيش عبدها، في إطار عبوديته، لأنها مرغمة على تركه ينحط إلى وضع يلزمها بأن تعيله، بدلا من أن يعيلها. إن المجتمع لم يعد يستطيع أن يحيا تحت سيطرتها».
إن كلمات ماركس وإنجلز المذكورة أعلاه قد أصبحت حقيقة ملموسة. هناك شعور متزايد بين جميع فئات المجتمع بأن حياتنا محكومة من قبل قوى خارجة عن سيطرتنا. ويعاني المجتمع شعور الخوف وعدم اليقين. لقد أصبح مزاج انعدام الأمن معمما عمليا على المجتمع ككل .
إن هذا النوع من البطالة الجماهيرية التي نشهدها الآن أسوأ بكثير من أي شيء تنبأ به ماركس. كتب ماركس عن الجيش الاحتياطي من العاطلين: أي مجموعة من العمال الذين يمكن استخدامهم للحفاظ على انخفاض الأجور وبمثابة احتياطي عندما يتعافى الاقتصاد من الركود. لكن هذا النوع من البطالة الذي نراه الآن ليس هو الجيش الاحتياطي الذي تحدث عنه ماركس، والذي لعب من وجهة نظر الرأسمالية دورا مفيدا. إنها بطالة دائمة وهيكلية وعضوية، ولا تتقلص بشكل ملحوظ حتى عندما يكون هناك "ازدهار". إنها ثقل هائل يجثم بكلكله على النشاط الإنتاجي، وأحد الدلائل على أن النظام قد وصل إلى طريق مسدود .
فائض الإنتاج.. والصراع الطبقي
شعار الساعة هو التقشف والاقتطاعات وضرب مستويات المعيشة. وفي كل البلدان تطلق البرجوازية صرخة الحرب نفسها : "يجب علينا أن نخفض الإنفاق العام!". وكل حكومات العالم الرأسمالي، سواء اليمينية منها أو "اليسارية" تطبق في الواقع السياسة نفسها. ليس هذا نتيجة أهواء السياسيين الفردية، أو الجهل أو سوء النية (على الرغم من أن هناك الكثير من هذا أيضا)، بل هو التعبير الواضح عن المأزق التام الذي يجد النظام الرأسمالي نفسه فيه.
هذا تعبير عن حقيقة أن النظام الرأسمالي قد وصل إلى أقصى حدوده وصار غير قادر على تطوير القوى المنتجة كما كان يفعل في الماضي.
لكن الرأسماليين إذ يعملون على خفض نفقات الدولة، يتسببون في الوقت نفسه في خفض الطلب وتقليص السوق ككل، تماما في الوقت نفسه الذي يعترف فيه حتى الاقتصاديون البرجوازيون أن هناك مشكلة خطرة تتمثل في فائض الإنتاج على الصعيد العالمي.
يمكن التعبير بسهولة عن مشكلة الرأسماليين: إذا لم تستهلك أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لن يكون في إمكان الصين أن تنتج. وإذا لم تنتج الصين بالوتيرة نفسها كما كانت من قبل، فإن بلدانا مثل البرازيل والأرجنتين واستراليا لا يمكنها أن تستمر في تصدير موادها الخام. والعالم بأسره مترابط بشكل لا انفصام له. وبالتالي فإن العولمة تعبر عن نفسها بكونها أزمة عالمية للرأسمالية .
وبالتأكيد لن تضر سياسات التقشف سوى الطبقات المسحوقة في المجتمع، فبينما يتم إرغام الملايين على العيش البائس بين براثن البطالة القسرية، يضطر ملايين الأشخاص الآخرين إلى العمل في وظيفتين أو حتى ثلاث وظائف، وغالبا ما يعملون 60 ساعة أو أكثر في الأسبوع، دون تعويض عن الساعات الإضافية. وهذا بالضبط ما توقعه كاتبا البيان الشيوعي، ببصيرة مثيرة للإعجاب، الشروط التي تعيشها الآن الطبقة العاملة في جميع البلدان.
وهذا ما تنبأ به ماركس بأن تطور الرأسمالية من شأنه أن يؤدي حتما إلى تركيز رأس المال وتراكم هائل للثروة في جهة، وتراكم مشابه للفقر والبؤس والكدح في الجهة الأخرى من المجتمع. تعرضت هذه الفكرة، على مدى عقود، للتكذيب من قبل الاقتصاديين وأساتذة علم الاجتماع البرجوازي في الجامعات، والذين أصروا على أن المجتمع أصبح أكثر مساواة من أي وقت مضى، وأن الجميع صاروا الآن من الطبقة المتوسطة. إلا أن كل هذه الأوهام قد تبددت الآن.
وقد اتضح أن الفكرة، التي طالما رددها علماء الاجتماع البرجوازيون، القائلة إن الطبقة العاملة لم تعد موجودة، مجرد كلام فارغ. فخلال الفترة الماضية تعرضت فئات واسعة من الشغيلة، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم في السابق من الطبقة الوسطى، للتبلتر [تحولوا إلى بروليتاريين - المترجم -]. وقد دخل المدرسون وموظفو القطاع العام والعاملون في البنوك، الخ، إلى صفوف الطبقة العاملة والحركة العمالية، حيث صاروا يشكلون إحدى الفئات الأكثر كفاحية.
فلم يعد الأمن الوظيفي موجودا، وهناك أقلية ضئيلة فقط ممن يمكنهم الاعتماد على معاش يحقق لهم العيش بشكل مريح، وقليل ممن لديهم ادخار. وباستمرار يتزايد عدد الناس الذين يعيشون يومهم من دون أي تصور عما قد يحمله المستقبل.
وإذا كانت للناس أية ثروة فهي منازلهم، لكن مع الأزمة الاقتصادية تراجعت أسعار المنازل في العديد من البلدان، ويمكن أن تعاني الركود لسنوات. وعوض أن يشكل امتلاك منزل رصيدا للمساعدة في تمويل تقاعد مريح، أصبح عبئا ثقيلا. يجب أداء الرهن العقاري، سواء كنت تمتلك عملا أم لا. العديد من الناس محاصرون في أسهم سلبية، مع ديون ضخمة لا يمكنهم أبدا دفعها. هناك جيل متزايد ممن يمكن وصفهم بعبيد الديون.
هذه إدانة مطلقة للنظام الرأسمالي.
المثالية أم المادية؟
لقد وضع ماركس الاشتراكية على أساس نظري صلب لأول مرة في التاريخ. إن الفهم العلمي للتاريخ لا يمكن أن يقوم على الصور المشوهة للواقع التي تسبح مثل أشباح باهتة في أذهان الناس، بل على أساس العلاقات الاجتماعية الحقيقية. وهذا يعني البدء في توضيح العلاقة بين الأشكال الاجتماعية والسياسية وأسلوب الإنتاج في مرحلة معينة من التاريخ. هذا هو بالضبط ما يسمى بالطريقة المادية التاريخية في التحليل.
سوف يشعر بعض الناس بالغضب من هذه النظرية التي يبدو أنها تحرم البشر من دور الفاعلين في العملية التاريخية. مثلما غضبت الكنيسة والفلاسفة المدافعون عنها من تأكيدات غاليليو أن الشمس وليس الأرض هي مركز الكون.
في الواقع، لا تنكر الماركسية على الإطلاق أهمية العامل الذاتي في التاريخ والدور الواعي للبشرية في تطور المجتمع. يصنع الناس التاريخ لكنهم لا يفعلون ذلك باتفاق كامل مع إرادتهم الحرة ونواياهم الواعية. وبعبارة ماركس: «"التاريخ لا يفعل شيئا"، إنه "لا يمتلك ثروة هائلة"، و"لا يخوض المعارك". إنهم البشر، البشر الحقيقيون هم من يفعلون كل ذلك، هم من يملك ويتصارع؛ إن "التاريخ" لا يستعمل البشر كوسيلة لتحقيق أهدافه الخاصة، كما لو أنه شخص قائم بذاته؛ إن التاريخ ليس سوى نشاط البشر الذين يتبعون أهدافهم».
كل ما تفعله الماركسية هو شرح دور الفرد كعضو في مجتمع معين، حيث يخضع إلى قوانين موضوعية معينة، وفي نهاية المطاف كممثل لمصالح طبقة معينة. ليس للأفكار وجود مستقل ولا تطور تاريخي خاص بها. وقد كتب ماركس في الإيديولوجيا الألمانية: "ليس الوعي هو الذي يحدد الواقع، بل الواقع هو الذي يحدد الوعي".
أفكار الناس وممارساتهم مشروطة بالعلاقات الاجتماعية، والتي تطورها لا يعتمد على الإرادة الشخصية للرجال والنساء، بل يحدث وفقا لقوانين محددة تعكس، في آخر المطاف، حاجات تطور قوى الإنتاج. إن العلاقات المتبادلة بين هذه العوامل تشكل شبكة معقدة غالبا ما تصعب رؤيتها. ودراسة هذه العلاقات هي أساس النظرية الماركسية في التاريخ.
إن ما توضحه الثورة هو حقيقة أن التناقضات الاجتماعية الناجمة عن الصراع بين التطور الاقتصادي وبين النظام القائم في المجتمع قد أصبحت تناحرية. لا يمكن حل هذا التناقض المركزي إلا عن طريق الإطاحة الجذرية بالنظام القائم، والاستعاضة عنه بعلاقات اجتماعية جديدة تجعل القاعدة الاقتصادية في وئام مع البنية الفوقية.
في خضم الثورة تواجه الأسس الاقتصادية للمجتمع تحولا جذريا. عندها تخضع البنية الفوقية القانونية والسياسية لعملية تغيير عميقة. وعندما تنضج علاقات الإنتاج الجديدة الأرقى، بشكل جنيني في رحم المجتمع القديم، تطرح الحاجة الملحة للانتقال إلى نظام اجتماعي جديد .
المادية التاريخية
تدرس الماركسية العوامل الرئيسة الخفية التي تكمن وراء تطور المجتمع البشري، منذ المجتمعات القبلية الأولى حتى العصر الحديث. وتسمى الطريقة التي تتبع بها الماركسية هذا الطريق المتعرج بالمفهوم المادي للتاريخ. تمكننا هذه الطريقة العلمية من فهم التاريخ، ليس على شكل سلسلة من الحوادث غير المترابطة وغير المتوقعة، وإنما كجزء من عملية مترابطة ومفهومة بشكل واضح. إنها سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي تشمل السياسة والاقتصاد وكل مجالات التطور الاجتماعية. إن اكتشاف العلاقة الجدلية المعقدة بين كل هذه الظواهر هي مهمة المادية التاريخية .
كتب المؤرخ الإنجليزي الكبير ومؤلف كتاب "تدهور وانهيار الإمبراطورية الرومانية"، إدوارد جيبون، إن التاريخ "أكبر من أن يكون مجرد سجل لجرائم وحماقات ومصائب البشرية".
إن إنكار التقدم في التاريخ من سمات نفسية البرجوازية في مرحلة الانحطاط الرأسمالي. إنه انعكاس صادق لحقيقة أن التقدم في ظل الرأسمالية قد وصل بالفعل إلى أقصى حدوده وصار يهدد بالسير في الاتجاه المعاكس. إن البرجوازية ومنظريها يرفضون بطبيعة الحال القبول بهذه الحقيقة. وهم، علاوة على ذلك، غير قادرين بطبيعتهم على الاعتراف بها. سبق للينين ذات مرة أن قال "إن رجلا يقف على حافة الهاوية هو رجل غير قادر على التفكير بالعقل". لكنهم يدركون بشكل ملتبس حقيقة الوضع، ويحاولون إيجاد نوع من التبرير لمأزق نظامهم هذا من خلال إنكار إمكانية التقدم تماما.
في كتابه "نقد الاقتصاد السياسي" يفسر ماركس العلاقة بين القوى المنتجة وبين "البنية الفوقية" على النحو التالي: «إن الناس خلال انتاجهم الاجتماعي لوجودهم يدخلون في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن ارادتهم؛ علاقات انتاج تتفق مع درجة التطور المحدد لقواهم المادية الانتاجية. إن مجموع علاقات الانتاج هذه تشكل البنية الاقتصادية للمجتمع والاساس المادي الملموس الذي يقوم عليه الاساس الفوقي القانوني والسياسي والذي ترتبط به أشكال الوعي الاجتماعي المحددة، إن نمط الانتاج المادي هو الذي يحدد ويشرط سيرورة الحياة الاجتماعية والعقلية عامة. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم وإنما العكس، وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم».
وكما أكد ماركس مرارا فإن المسهمين في صنع التاريخ قد لا يكونون دائما على بينة من الدوافع التي تحركهم، ويسعون بدلا من ذلك إلى تفسيرها بطريقة أو بأخرى، لكن تلك الدوافع موجودة ولها أساس في العالم الحقيقي.
وبالضبط مثلما شرح تشارلز داروين أن الأنواع ليست ثابتة، وأنها تمتلك ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وتتغيرا وتتطورا، فإن ماركس وإنجلز شرحا أن أي نظام اجتماعي معين هو ليس شيئا ثابتا إلى الأبد. الثبات هو وهم كل عصر. فكل نظام اجتماعي يعتقد أنه يمثل الشكل الوحيد الممكن لحياة بني البشر، وأن مؤسساته ودينه وأخلاقه هي أحسن ما يمكن أن يوجد.
هذا هو ما كان أكلة لحوم البشر والكهنة المصريون وماري أنطوانيت والقيصر نيكولاس يعتقدونه بكل ثقة. وهذا هو ما ترغب البرجوازية والمدافعون عنها اليوم في إظهاره عندما يؤكدون لنا، من دون أي أساس علمي، أن ما يسمى بنظام "الاقتصاد الحر" هو النظام الوحيد الممكن، بالضبط في الوقت الذي بدأ فيه يحتضر.
في الوقت الحاضر صارت فكرة "التطور" مقبولة عموما على الأقل بين الأشخاص المتعلمين. وأفكار داروين، التي كانت ثورية جدا في عصره، صارت تقبل كأفكار بديهية تقريبا. ومع ذلك فإن التطور يفهم عموما باعتباره عملية بطيئة وتدريجية من دون انقطاع أو اضطرابات عنيفة. وفي السياسة كثيرا ما يستخدم هذا النوع من الحجج لتبرير النزعة الإصلاحية. لكنها للأسف تقوم على سوء فهم.
إن الآلية الحقيقية للتطور لا تزال حتى اليوم كتابا مغلقا بالنسبة للكثير من الناس. وهذا ليس مستغربا بالنظر إلى أن داروين نفسه لم يفهمها. فقط في العقد الأخير أو نحوه ومع الاكتشافات الجديدة في علم الحفريات التي قام بها ستيفن جاي غولد، الذي اكتشف نظرية التوازن المتقطع، حيث ثبت أن التطور ليس سيرورة تدريجية. فهناك فترات طويلة لا يلاحظ خلالها حدوث تغييرات كبيرة، لكن وفي لحظة معينة ينكسر خط التطور في انفجار، في ثورة بيولوجية حقيقية تتميز بانقراض جماعي لبعض الأنواع وارتقاء سريع للأنواع أخرى.
إن التشبيه بين المجتمع والطبيعة هو، بطبيعة الحال، تقريبي فقط. لكن حتى أكثر الدراسات سطحية للتاريخ تدل على أن التفسير التدريجي لا أساس له من الصحة. فالمجتمع، مثل الطبيعة، يعرف فترات طويلة من التغير البطيء والتدريجي، لكن حتى هنا أيضا ينقطع الخط بتطورات انفجارية: الحروب والثورات، حيث تتسارع سيرورة التغير بشكل كبير. في الحقيقة هذه الأحداث هي التي تشكل القوة المحركة الرئيسة للتطور التاريخي. والسبب الرئيس للثورة هو حقيقة أن النظام الاجتماعي والاقتصادي قد وصل إلى حدوده وصار غير قادر على تطوير القوى المنتجة كما كان من قبل .
من خلال تطبيق الطريقة المادية الجدلية على التاريخ يتضح على الفور أن تاريخ البشرية لديه قوانينه الخاصة، وأنه، بالتالي، من الممكن فهمه كسيرورة. يمكن تفسير صعود وسقوط مختلف التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية، من وجهة النظر العلمية، بقدرتها أو عدم قدرتها على تطوير وسائل الإنتاج، وبالتالي دفع آفاق الثقافة الإنسانية إلى الأمام وزيادة هيمنة الجنس البشري على الطبيعة.
معظم الناس يعتقدون أن المجتمع دائم الثبات، وأن قيمه الأخلاقية والدينية والأيديولوجية، إلى جانب ما نسميه "الطبيعة البشرية"، غير قابلة للتغيير. لكن معرفة ولو بسيطة بالتاريخ تظهر أن هذا غير صحيح. يتجلى التاريخ من خلال صعود وسقوط مختلف النظم الاجتماعية والاقتصادية. والمجتمعات مثلها مثل الإنسان، تولد وتتطور وتصل إلى حدودها، وتدخل في مرحلة الانحطاط تم يتم استبدالها أخيرا بتشكيلة اجتماعية جديدة .
وتتحدد جدوى نظام اجتماعي واقتصادي معين، في أخر المطاف، بمدى قدرته على تطوير القوى المنتجة، لأن كل شيء آخر يعتمد على ذلك. وتدخل العديد من العوامل الأخرى في المعادلة المعقدة: الدين والسياسة والفلسفة والأخلاق ونفسية مختلف الطبقات والصفات الفردية للقادة. لكن هذه الأشياء لا تسقط من الغيوم، وسيظهر التحليل الدقيق أنها تتحدد - وإن بطريقة متناقضة وجدلية - من طرف البيئة التاريخية الواقعية، ومن طرف الميولات والسيرورات المستقلة عن إرادة الناس.
كانت الرأسمالية خلال مرحلة شبابها قادرة على إنجاز مآثر ضخمة. لقد طورت القوى المنتجة إلى درجة لم يسبق لها مثيل، وكانت بالتالي قادرة على توسيع حدود الحضارة الإنسانية. شعر الناس أن المجتمع يتقدم، على الرغم من كل الظلم والاستغلال اللذين ميزا هذا النظام دائما. أدى هذا الشعور إلى تنامي روح التفاؤل والتقدم التي كانت ميزة الليبرالية القديمة، مع الاقتناع الراسخ بأن اليوم أفضل من الأمس وأن الغد سوف يكون أفضل من اليوم .
لكن الآن لم يعد الحال كذلك. فقد تم استبدال روح التفاؤل القديمة والإيمان الأعمى بالتقدم، بشعور عميق بالاستياء من الحاضر والتشاؤم من المستقبل. هذا الشعور العام بالخوف وانعدام الأمن ليس سوى انعكاس نفسي لحقيقة أن الرأسمالية لم تعد قادرة على لعب أي دور تقدمي في أي مكان.
نهوض المجتمعات وسقوطها
الحجة الشائعة ضد الاشتراكية هي أنه من المستحيل تغيير الطبيعة البشرية؛ فالناس بطبيعتهم أنانيون وجشعون وهلم جرا. في الواقع ليست هناك طبيعة بشرية فوق التاريخ. فما نعتبرها طبيعة إنسانية قد شهدت العديد من التغييرات في مسار تطور الإنسان. إن البشر يغيرون باستمرار الطبيعة بواسطة العمل، وعند قيامهم بذلك، يغيرون أنفسهم. أما بالنسبة للحجة القائلة أن الناس بطبعهم أنانيون وجشعون، فإن وقائع التطور البشري تدحضها.
إن الضعف الشديد لأطفال الإنسان مقارنة مع صغار الأنواع الأخرى كان يعني أن على أسلافنا، والذين أجبرتهم حياة القنص والالتقاط على الانتقال من مكان إلى آخر بحثا عن الطعام، تطوير شعور قوي بالتضامن لحماية أبنائهم وبالتالي ضمان بقاء القبيلة أو العشيرة. يمكننا القول بيقين مطلق إنه من دون هذا الاحساس القوي بالتعاون والتضامن، كان جنسنا سينقرض قبل أن يولد حتى .
نحن نرى ذلك حتى اليوم. إذا ما كان هناك طفل يغرق في النهر معظم الناس سيحاولون إنقاذه حتى ولو وضعوا حياتهم في خطر. وقد غرق كثير من الناس أثناء محاولتهم إنقاذ الآخرين. لا يمكن تفسير هذا بحسابات الأنانية أو علاقات الدم في مجموعة قبلية صغيرة. إن الزعم القائل إن الناس أنانيون بطبيعتهم، والذي هو انعكاس للاغتراب القبيح واللا إنساني المرتبط بالمجتمع الرأسمالي، هو إهانة للجنس البشري.
نشوء الدولة ودورها
إن الدولة هي قوة قمعية خاصة تقف فوق المجتمع وتعزل نفسها عنه على نحو متزايد. لهذه القوة جذورها في الماضي البعيد. لكن أصول الدولة مع ذلك تختلف وفقا للظروف. فعند الألمان والهنود الحمر نشأت من فرق الحرب التي تجمعت حول شخص زعيم الحرب. هذا هو الحال أيضا مع اليونانيين، كما نرى في قصائد ملحمة هوميروس.
في الأصل تمتع زعماء القبائل بالسلطة بفضل شجاعتهم وحكمتهم وصفاتهم الشخصية الأخرى. أما اليوم فليس لسيادة الطبقة الحاكمة أية علاقة بالصفات الشخصية للقادة مثلما كان عليه الحال في ظل البربرية. إن هذه السيادة تجد جذورها في العلاقات الاجتماعية والإنتاجية الموضوعية وقوة المال. صفات الحاكم الفرد قد تكون جيدة أو سيئة، لكن ذلك ليس مهما.
الأشكال المبكرة للمجتمع الطبقي أظهرت بالفعل الدولة كوحش يلتهم كميات هائلة من العمل ويقمع الجماهير ويحرمهم من جميع الحقوق. وفي الوقت نفسه فإنها من خلال تطوير تقسيم العمل وتنظيم المجتمع ودفع التعاون إلى مستوى أعلى بكثير من أي وقت مضى، مكنت من تعبئة كمية كبيرة من قوة العمل وبالتالي رفع إنتاجية العمل البشري لمستويات غير مسبوقة.
في الأساس كان كل هذا يقوم على عمل جماهير الفلاحين. كانت الدولة في حاجة إلى عدد كبير من الفلاحين لدفع الضرائب وأعمال السخرة وهما الركيزتان اللتان قام عليهما المجتمع. كل من يسيطر على نظام الإنتاج هذا يسيطر على السلطة والدولة. تمتد جذور نشأة الدولة في علاقات الإنتاج وليس في الصفات الشخصية. كانت سلطة الدولة في مثل هذه المجتمعات مركزية بالضرورة وبيروقراطية. في الأصل كان لها طابع ديني وكانت مختلطة بقوة طائفة الكهنة. وفي قمتها كان يوجد الملك، وتحت إمرته جيش من المسؤولين والموظفين والكتبة والمشرفين، الخ. الكتابة نفسها أحيطت بستار من الرهبة باعتبارها فنا غامضا لم يكن يعرفه سوى عدد قليل من الناس.
وهكذا فمنذ البداية أحيطت أجهزة الدولة بالغموض. وظهرت العلاقات الاجتماعية الواقعية بشكل مغترب. ولا يزال الحال كذلك حتى الآن. في بريطانيا يتم زرع هذا الغموض عمدا خلال الحفلات ومظاهر الأبهة والتقاليد. وفي الولايات المتحدة يزرع من قبل وسائل أخرى: تعظيم شخص الرئيس، الذي يجسد سلطة الدولة في ذاته. لكن رغم كل ذلك فإن كل أشكال الدولة ليست في جوهرها سوى أداة لسيطرة طبقة واحدة على بقية المجتمع. وحتى في شكلها الأكثر ديمقراطية، ليست سوى ديكتاتورية طبقة واحدة - الطبقة السائدة - أي تلك الطبقة التي تملك وتسيطر على وسائل الإنتاج .
تشرح الماركسية أن الدولة تتكون في نهاية المطاف من هيئات من الرجال المسلحين: الجيش والشرطة والمحاكم والسجون. وضد أفكار اللا سلطويين الخاطئة أكد ماركس أن العمال بحاجة إلى دولة للتغلب على مقاومة الطبقات المستغِلة. لكن فكرة ماركس هذه تعرضت إلى التشويه من قبل كل من البرجوازية واللا سلطويين. تحدث ماركس عن "ديكتاتورية البروليتاريا"، والذي هو مجرد مصطلح أدق علميا لـ "السلطة السياسية للطبقة العاملة".
في الوقت الحاضر صارت لكلمة "ديكتاتورية" دلالات لم تكن معروفة لماركس. ففي عصر شهد جرائم هتلر وستالين المروعة، صارت الكلمة تشير إلى كوابيس وحش شمولي ومعسكرات الاعتقال والشرطة السرية. لكن مثل هذه الأمور لم تكن موجودة حتى في الخيال في أيام ماركس. لقد استمد كلمة الدكتاتورية من الجمهورية الرومانية، حيث كانت تعني وضعا يكون في زمن الحرب، حيث تتم إزاحة القواعد العادية جانبا لفترة مؤقتة.
والدكتاتور الروماني (الفرد الذي يحكم)، كان قاضيا استثنائيا بسلطة مطلقة لتنفيذ مهمات خارج السلطة العادية للقاضي. كانت المهمة تسمى في البداية (حاكم الشعب)، أي حاكم الجيش الوطني. وبعبارة أخرى، كان دور عسكري ينطوي دائما على قيادة الجيش في الميدان.بمجرد ما تنتهي فترة تعيينه يتنحى الديكتاتور. إن فكرة دكتاتورية استبدادية مثل تلك التي ظهرت في روسيا تحت ستالين، حيث تقمع الدولة الطبقة العاملة لمصلحة فئة متميزة من البيروقراطيين، كانت سترعب ماركس .
إن الانتقال إلى الاشتراكية، التي هي شكل أعلى من أشكال المجتمع يقوم على الديمقراطية الحقيقية والوفرة للجميع، لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق المشاركة النشطة والواعية للطبقة العاملة في إدارة المجتمع والصناعة والدولة. إنها ليست شيئا يقدم عن طيب خاطر للعمال من قبل الرأسماليين أو بيروقراطيين طيبي القلب.
صورة كاريكاتورية للماركسية
كثيرا ما يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون. وبعبارة أخرى يتحدد اختيار وتفسير الأحداث التاريخية بالنتيجة الفعلية لتلك الصراعات لأنها تؤثر على المؤرخ وبالتالي على تصوره لما سوف يرغب القارئ في قراءته. وعلى الرغم من ادعاءات المؤرخين البرجوازيين الموضوعية المزعومة، فإن كتابة التاريخ تعكس حتما وجهة نظر طبقية. فمن المستحيل الهرب من امتلاك موقف ما من الأحداث التي يتم سردها. وادعاء عكس ذلك هو مجرد محاولة للاحتيال على القارئ.
عندما ينظر الماركسيون إلى المجتمع لا يزعمون أنهم محايدون، بل يتبنون علنا قضية الطبقة العاملة والاشتراكية. لكن هذا لا يمنع على الإطلاق الموضوعية العلمية. إن الجراح المنشغل بإجراء عملية حساسة يكون ملتزما أيضا بإنقاذ حياة مريضه. إنه أبعد ما يكون عن "الحياد" اتجاه نتيجة عمليته. لكنه لهذا السبب بالذات سيعمل على التمييز بدقة متناهية بين مختلف مكونات الجسد البشري. وبالطريقة نفسها نسعى نحن الماركسيون جاهدين إلى الحصول على تحليل علمي دقيق للسيرورات الاجتماعية، من أجل أن نتمكن من التأثير بنجاح في النتيجة. لكننا لا نتعامل هنا مع مجرد سلسلة من الوقائع التي تتوالى "واحدة بعد الأخرى"، بل إننا نسعى بوعي إلى استخلاص السيرورات العامة المعنية وتفسيرها.
لكن كثيراً ما تبذل المحاولات لتشويه الماركسية عن طريق اللجوء إلى نشر صورة كاريكاتورية عن أسلوبها في التحليل التاريخي. فليس هناك شيء أسهل من إيقاف دمية من القش من أجل إسقاطها مرة أخرى. التشويه المعتاد هو القول إن ماركس وإنجلز اختزلا كل شيء في الاقتصاد. وقد أجاب ماركس وإنجلز على هذا الادعاء السخيف مرات عدة من قبل، كما نجد في المقتطف التالي من رسالة إنجلز الى بلوخ: «وفقا للمفهوم المادي للتاريخ، يشكل إنتاج وإعادة إنتاج الحياة المادية العنصر الحاسم، في نهاية المطاف، في التاريخ. ولم نؤكد لا ماركس ولا أنا أكثر من هذا أبدا. وبالتالي فإذا شوه شخص ما هذا الموقف، ليزعم أن العنصر الاقتصادي هو العنصر الحاسم الوحيد، فإنه يحول هذه الموضوعة إلى جملة مجردة لا معنى لها ولا مضمون».
ليست للمادية التاريخية أية علاقة بالنزعة القدرية. فالرجال والنساء ليسو مجرد دمى في يد قوى تاريخية عمياء. لكنهم أيضا أحرار بشكل كامل، وقادرون على تشكيل مصيرهم بغض النظر عن الظروف الواقعية التي يفرضها مستوى التطور الاقتصادي والعلمي والتقني، والذي يحدد، في آخر المطاف، ما إذا كان النظام الاجتماعي والاقتصادي قابلا للحياة أم لا.
كما أن الماركسية لا تنفي دور الفرد أو الصدفة لكنها تضعهما في سياقهما الصحيح. يمكن بالفعل لحادث سيارة أو رصاصة طائشة تغيير مجرى التاريخ لكنهما بالتأكيد ليستا القوة المحركة. فقد كانت الرصاصة التي قتلت الأرشيدوق فرديناند في سراييفو حادثة تاريخية لعبت دور المحفز لاندلاع المواجهات بين القوى العظمى التي كانت أسبابها قد تراكمت نتيجة التناقضات الاقتصادية والسياسية والعسكرية المستعصية بين القوى الأوروبية العظمى قبل 1914.
عودة إلى "الإفلاس العالمي"
تميزت المرحلة الأولى من الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2008 بانهيار البنوك الكبرى. لم يتمكن كل النظام المصرفي في الولايات المتحدة الأمريكية وبقية دول العالم من النجاة إلا عن طريق حقن مبالغ هائلة من مليارات الدولارات واليوروهات من قبل الدولة. لكن السؤال يجب أن يطرح: ما الذي تبقى من الفكرة القديمة التي تقول إن السوق الحرة، إذا ما تركت لنفسها، سوف تحل كل المشاكل؟ ما الذي تبقى من الفكرة القديمة القائلة إن الدولة يجب ألا تتدخل في عمل الاقتصاد؟
لم يحل حقن تلك المبالغ الضخمة من المال العام شيئا. والأزمة لم تحل. بل تم فقط وضعها على كاهل الدول. كل ما حدث هو أنه بدل من حدوث عجز هائل لدى البنوك، لدينا ثقب أسود هائل في المالية العامة. من الذي سيدفع ثمن هذا؟ طبعا ليس أولئك المصرفيين الأثرياء الذين، بعد أن تسببوا في تدمير النظام المالي العالمي، ملأوا جيوبهم بهدوء من المال العام وهم الآن يمنحون مكافآت سخية لأنفسهم.
كلا! فالعجز الذي يشتكيه الاقتصاديون والسياسيون بمرارة يجب أن تدفع ثمنه القطاعات الأكثر فقرا وهشاشة في المجتمع. فجأة لا يعود هناك مال بالنسبة للشيوخ والمرضى والعاطلين عن العمل، لكن هناك دائما الكثير من المال لأصحاب البنوك. وهذا يعني نظام التقشف الدائم. لكن هذا يخلق فقط تناقضات جديدة. وعن طريق خفض الطلب يتقلص أكثر فأكثر حجم السوق، وبالتالي يزيد من تفاقم أزمة فائض الإنتاج.
والآن يتوقع الاقتصاديون انهيارا جديدا، سيصيب العملات والحكومات، مما يهدد نسيج النظام المالي العالمي.
تقلب الأزمات المالية والبطالة الجماهيرية والاضطرابات الاجتماعية والسياسية المستمرة أشياء كثيرة رأسا على عقب. ما كان يبدو ثابتا ودائما يختفي بين عشية وضحاها ويبدأ الناس في مساءلة أشياء كانوا يعتبرونها دائما بديهية. إن هذه الحالة من الاضطرابات الدائمة هي ما يمهد الطريق نفسيا إلى الثورة، والتي تصبح في نهاية المطاف الخيار الواقعي الوحيد الذي يمكن تصوره.
كل ما تم إنجازه خلال السنوات الأربع الماضية هو تحويل الثقب الأسود في مالية البنوك إلى ثقب أسود في المالية العامة. فمن أجل إنقاذ أصحاب البنوك يجب على الجميع تقديم التضحية، لكن أصحاب البنوك والرأسماليين غير مطلوب منهم تقديم أية تضحيات. إنهم يدفعون لأنفسهم مكافآت سخية بأموال دافعي الضرائب. يشبه هذا ما كان يقوم به روبن هود لكن في الاتجاه المعاكس.
إن وجود عجز ضخم يعني أن دعوة الكينزيين إلى زيادة الإنفاق الحكومي لا أساس لها. إذ كيف يمكن للدولة أن تنفق مالا لا تملكه؟ الطريق الوحيد الذي لا يزال مفتوحا أمامهم هو طبع النقود، أو ما يصطلح عليه بالتسهيل الكمي. إن حقن كميات كبيرة من الرساميل الوهمية في الاقتصاد يخضع إلى قانون تناقص المردودية. يكون له تأثير مماثل لما يحدث للمدمن على المخدرات الذي يحقن نفسه بكميات أكبر فأكبر من المخدرات من أجل الحصول على التأثير نفسه . وفي سياق هذه العملية يتسببون في تسميم النظام وتقويض صحته.
هذا إجراء بائس حقا سوف يؤدي عاجلا أم آجلا إلى زيادة التضخم. وهم في هذه الطريقة يحضرون لركود أعمق في الفترة المقبلة. هذه نتيجة حتمية لحقيقة أن النظام الرأسمالي في الفترة السابقة قد ذهب بعيدا وراء حدوده. ومن أجل تأجيل الركود استخدموا الآليات نفسها التي يحتاجون إليها للخروج من الأزمة الحالية. هذا هو السبب في أن الأزمة عميقة جدا ومستعصية جدا. وكما شرح ماركس لا يمكن للرأسماليين حل أزماتهم إلا «من خلال تمهيد الطريق لحدوث أزمات أكثر اتساعا وأكثر تدميرا، ومن خلال التقليل من الوسائل التي يمكن بها تلافي الأزمات». ( البيان الشيوعي ).
في الأيام الخوالي كانت الكنيسة تقول: "كل الطرق تؤدي إلى روما"، أما الآن فللبرجوازية شعار جديد: كل الطرق تؤدي إلى الخراب.
إن الفجوة غير المحتملة التي تطورت بين الأغنياء والفقراء تشكل عبئا متزايدا على التماسك الاجتماعي. وحلم الاشتراكيين الديمقراطيين القديم بالسلم الطبقي والشراكة الاجتماعية قد تحطم بشكل لا يمكن إصلاحه. وقد لخصت حركة احتلوا وول ستريت هذه الحقيقة بشعار: "الشيء الوحيد المشترك الذي يوحدنا جميعا هو أننا هم الـ 99 في المائة الذين لن يحتملوا المزيد من جشع وفساد الـ 1 في المائة".
في ظل الرأسمالية، كما شرح ماركس، شهدت القوى المنتجة التطور الأكثر ضخامة في التاريخ. لكن أفكار الطبقة السائدة، حتى في الحقبة الأكثر ثورية، تخلفت بعيدا وراء التقدم الذي تحقق في الإنتاج والتكنولوجيا والعلوم.
فالتناقض بين التطور السريع للتكنولوجيا والعلوم، والتأخر الهائل في تطور الفكر البشري يجد أوضح مثال عنه في أكثر بلدان العالم الرأسمالية تقدما، أي: الولايات المتحدة الأمريكية. إنها البلد حيث حقق العلم أعظم النتائج. إن التقدم المطرد للتكنولوجيا هو الشرط المسبق للتحرر النهائي للإنسان، وإلغاء الفقر والأمية والجهل والمرض، والهيمنة على الطبيعة من طرف الإنسان من خلال التخطيط الواعي للاقتصاد. الطريق مفتوح أمام تحقيق الفتوحات ليس فقط على الأرض بل في الفضاء أيضا. لكن لا يزال حتى الآن في هذا البلد المتقدم من الناحية التكنولوجية، تسيطر الخرافات الأكثر بدائية.
هذه ليست سوى إشارات خارجية عن تعفن نظام اجتماعي استنفذ صلاحيته، وتوقف عن أن يكون قوة تقدمية تاريخيا ودخل في تناقض مع ضرورات تطور القوى المنتجة. وفي هذا المعنى، فإن نضال الطبقة العاملة للقضاء على المجتمع البرجوازي هو أيضا نضال من أجل الدفاع عن منجزات العلم والثقافة ضد اعتداءات قوى الهمجية.
الخيار الوحيد المتاح أمام البشرية واضح: إما التحويل الاشتراكي للمجتمع، والقضاء على السلطة السياسية والاقتصادية للبرجوازية وبدء مرحلة جديدة في تطور الحضارة البشرية، أو تدمير الحضارة، بل وحتى الحياة نفسها. يشتكي علماء البيئة والخضر باستمرار تدهور البيئة ويحذرون مما يمثله ذلك من تهديد للبشرية. إنهم على حق. لكنهم يشبهون طبيبا عديم الخبرة يشير إلى الأعراض لكنه غير قادر على تشخيص طبيعة المرض، أو اقتراح العلاج.
إن النظام الرأسمالي الذي يضع الربح فوق أي اعتبار آخر، يسمم الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نشربه والطعام الذي نأكله. وليست فضيحة الغش الضخمة في منتجات اللحوم التي شهدتها أوروبا سوى غيض من فيض. فإذا سمحنا لحكم البنوك والاحتكارات الكبرى أن يستمر لمدة خمسة عقود أخرى أو أكثر، سيصبح من الممكن جدا أن يصل تدمير هذا الكوكب إلى نقطة حيث يصير من المستحيل معالجة الأضرار مما سيهدد بقاء البشرية. وبالتالي فإن النضال من أجل تغيير المجتمع هو مسألة حياة أو موت.
ما البديل؟
هل حقا ليس هناك بديل للرأسمالية؟ كلا، هذا ليس صحيحا. إن البديل هو نظام قائم على الإنتاج لتلبية احتياجات الأغلبية وليس لخدمة مصلحة الأقلية؛ نظام يستبدل الفوضى والاضطراب بالتخطيط العقلاني؛ يستبدل حكم أقلية من الطفيليات الثرية بحكم الأغلبية التي تنتج كل ثروة المجتمع. واسم هذا البديل هو: الاشتراكية.
يمكن للمرء المماحكة بخصوص الكلمات، لكن اسم هذا النظام هو الاشتراكية، ليس ذلك النظام المشوه والبيروقراطي والاستبدادي الذي كان موجودا في روسيا الستالينية، بل نظام ديمقراطي حقيقي يقوم على ملكية ومراقبة وإدارة القوى المنتجة من قبل الطبقة العاملة. هل من الصعب حقا فهم هذه الفكرة؟ هل هي مثالية حقا الفكرة القائلة إن الجنس البشري يمكنه التحكم في مصيره وتسيير المجتمع على أساس خطة إنتاج ديمقراطية؟
ليست الحاجة إلى اقتصاد اشتراكي مخطط فكرة من اختراع ماركس أو أي مفكر آخر. إنها نابعة من الضرورة الموضوعية. إن إمكانية بناء الاشتراكية العالمية تنبع من الظروف الحالية للرأسمالية نفسها. كل ما هو ضروري بالنسبة للطبقة العاملة، التي تشكل الأغلبية الساحقة في المجتمع، هو تولي إدارة المجتمع ومصادرة البنوك والاحتكارات العملاقة وتعبئة الإمكانات الإنتاجية الهائلة غير المستغلة لحل مشاكل المجتمع.
كتب ماركس: « لم يتم أبدا تحطيم أي نظام اجتماعي قبل أن تكون كل قوى الإنتاج التي يلائمها قد تطورت». ( كارل ماركس، مقدمة لمساهمة في نقد الاقتصاد السياسي). إن الشروط الموضوعية لإقامة شكل جديد وأعلى من أشكال المجتمع البشري قد أوجدها بالفعل تطور الرأسمالية. فعلى مدى القرنين الماضيين اكتسب تطور الصناعة والزراعة والعلوم والتكنولوجيا سرعة وشدة غير مسبوقتين في التاريخ:
وقبل عشرين عاما تحدث فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ. لكن التاريخ لم ينته. في الواقع إن التاريخ الحقيقي لجنسنا سيبدأ فقط عندما ستتمكن الطبقة العاملة من القضاء على عبودية المجتمع الطبقي ويبدأ الإنسان في التحكم في حياته ومصيره. هذه هي الاشتراكية حقا: إنها قفزة الإنسانية من عالم الضرورة إلى عالم الحرية.
في العقد الثاني من القرن 21 يقف الجنس البشري عند مفترق طرق. فمن ناحية قدمت لنا منجزات العلم والتكنولوجيا الحديثة وسائل حل جميع المشاكل التي ابتلينا بها طيلة تاريخنا. حيث يمكننا القضاء على الأمراض وإلغاء الأمية والتشرد وجعل الصحارى خصبة.
ومن ناحية أخرى يبدو الواقع وكأنه يسخر من هذه الأحلام. حيث تستخدم الاكتشافات العلمية لإنتاج أسلحة دمار شامل أكثر وحشية من أي وقت مضى. في كل مكان هناك الفقر والجوع والأمية والمرض. هناك معاناة إنسانية على نطاق واسع. تزدهر الثروات الفاحشة جنبا إلى جنب مع البؤس المدقع. ويمكننا إرسال إنسان إلى سطح القمر، لكن في كل عام يموت ثمانية ملايين شخص لأنهم ببساطة لا يملكون ما يكفي من المال للعيش. ويولد 100 مليون طفل ويعيشون ويموتون في الشوارع، وهم لا يعرفون ما معنى أن يكون لهم سقف فوق رؤوسهم.
والجانب الأكثر لفتا للنظر في الوضع الحالي هو الفوضى والاضطرابات التي تجتاح الكوكب بأسره. هناك اضطرابات على جميع المستويات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية.
معظم الناس يشيحون بأنظارهم باشمئزاز لكي لا يروا هذه الوحشية. يبدو وكأن العالم قد أصيب فجأة بالجنون. لكن مثل هذا السلوك غير مجد وغير مثمر. تعلمنا الماركسية أن التاريخ ليس سيرورة من دون معنى. ليس الوضع الحالي تعبيرا عن الجنون أو الشر المتأصل في نفوس الرجال والنساء. وقد سبق للفيلسوف الكبير سبينوزا أن قال ذات مرة: " لا تبك ولا تضحك، بل افهم!". هذه نصيحة جيدة جدا، لأنه إذا لم نكن قادرين على فهم العالم الذي نعيش فيه، فإننا لن نكون قادرين على تغييره.
ما العمل؟!
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي شعر المدافعون عن النظام القديم بالبهجة. لقد تحدثوا عن نهاية الاشتراكية وحتى عن نهاية التاريخ. لقد وعدونا بحقبة جديدة من السلام والرخاء والديمقراطية، وذلك بفضل معجزات اقتصاد السوق الحرة. والآن، بعد خمسة عشر عاما فقط، تحولت كل تلك الأحلام إلى كومة من الغبار. لم يعد هناك حجر على حجر في صرح تلك الأوهام.
ما هو معنى كل هذا؟ إننا نشهد عذابات موت مؤلم لنظام اجتماعي لا يستحق أن يعيش، لكنه يرفض أن يموت. هذا هو التفسير الحقيقي للحروب والإرهاب والعنف والموت، الذي هو من السمات الرئيسة للعصر الذي نعيش فيه.
المجتمع القديم يحتضر واقفا على قدميه والمجتمع الجديد يكافح من أجل أن يولد. لكن أولئك الذين يحتكرون ثروات هائلة في ظله لن يقبلوا أبدا بحتمية زواله. وعندما ستراه يغرق، ستفضل الطبقة الحاكمة أن تسحب المجتمع كله إلى القاع معها. إن إطالة فترة احتكار الرأسمالية تشكل تهديدا قاتلا للثقافة والحضارة الإنسانية. مهمتنا هي المساعدة في ولادة المجتمع الجديد، وضمان أن يتم ذلك بأسرع وقت ممكن ومن دون ألم وبأقل التكاليف للبشرية.
يقول بعض السفسطائيين: إذا كانت الاشتراكية حتمية، لماذا ينبغي للمرء أن يناضل لتحقيقها؟ في الواقع من الممكن أن تكون مقتنعا بالحتمية وتلتزم في الوقت نفسه بلعب دور ثوري نشيط. في القرن السابع عشر كان الكالفانيون شديدي الإيمان بالحتمية. كانوا يعتقدون بشدة في القدر، وأن مصير وخلاص الرجال والنساء تم تحديده قبل أن يولدوا. ومع ذلك فإن هذا الاعتقاد الراسخ في الحتمية لم يمنع الكالفانيين من لعب الدور الأكثر ثورية في النضال ضد الإقطاع المتحلل وضد التعبير الأيديولوجي الرئيس عنه، أي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وبالضبط لأنهم كانوا مقتنعين بعدالة قضيتهم وحتمية الانتصار، فقد قاتلوا بشجاعة من أجل تسريع انتصارها.
لقد انتهى زمن المتشائمين والمشككين. وقد حان الوقت لإبعادهم عن طريقنا ومواصلة الكفاح. إن الجيل الجديد يريد النضال من أجل تحرره. إنهم يبحثون عن راية وعن فكرة وعن برنامج يمكنه أن يلهمهم ويقودهم إلى النصر. وحده النضال من أجل الاشتراكية على الصعيد العالمي من يمكنه أن يوفر لهم ذلك. لقد كان كارل ماركس على حق: إن الخيار أمام الجنس البشري هو إما الاشتراكية أوالهمجية.