يجتاز العراق منعطفا حاداً بسبب انكسار الجيش ودخول الطاغية صدام حسين في ازمة حقيقية تهدد سلطته وحياته. وان وجميع المؤشرات تؤكد ذلك مما اضطره الى التنازل الذليل عن السيادة الوطنية والتي وقعها النظام في خيمة صفوان. وهذا الحدث التأريخي المهين للعراق وما يجري من دمار شامل لبنيته التحتية من جراء القصف اليومي للمدن يزيد من غضب الناس واحتمالات الثورة.

وثمة صدفة مؤلمة واجهتني وانا في طريقي في الصباح الباكر ليوم الاحد المصادف 24 من شباط 1991 وبالقرب من حي سومر وسط الناصرية، شاهدت قطعا حديدية كبيرة تتطاير في السماء ويصاحبها صوت انفجار مدوي من جهة الجسر المؤقت في منطقة (السيف) نهاية شارع الحبوبي ثم اخترق اذني صوت عالٍ لطيران قوات التحالف، فانتابني وقتها مشاعر من الامتعاض والألم على ما يحدث وأن في داخلي غضب وثورة أشعر بسببها اني في سجن كبير ولا استطيع التنفس ولابد من التحرر منه. وانا اجزم ان هذه المشاعر التي انتابتني كانت هي مشاعر اغلب ابناء العراق في تلك الفترة. وبعد ان وصلت الى زملائي في شعبة الحسابات الواقعة في بناية جديدة وهي مدرسة ابتدائية تقع في حي سومر وسط الناصرية سمعت خبراً يشير الى ان أحد ابناء الناصرية وهو سيد (فاضل الطلقاني) عبر عن غضبه بصوت عالٍ وهو يقف على سياج النافوة المقابلة للمحكة بالقرب من جسر الناصرية الحديدي المدمر من جراء قصف الطيران وكان يصرخ ويقول: هل العراق خال من الرجال لكي نبقى نتحمل صدام ورعونته واجرامه، ماذا جرى للعراقيين؟ لماذا هذا الصمت؟ يا اهل الناصرية اصحوا وكفى سكوتاً؟ وما ان استمر سيد عدنان الطلقاني دقائق في تحريضه على الثورة حتى تم اعتقاله من قبل اجهزة امن الدولة، وضاع خبره.

عدت بعد نهاية وقت العمل الى مدينة الشطرة وانا ارى نفس المشاهد اليومية من فزع الناس من السفر ومشاعر الرعب والخوف ذاتها من طيران التحالف الذي قد يقصف الحافلة التي تقلنا. كنت افكر ايضاً بالعمل البطولي الذي قام به سيد عدنان الطلقاني وأشعرني هذا الحدث هو تحفيز اضافي لحدوث مرتقب لثورة شعبية في العراق.

فجميع العراقيين ممتعضين بسبب ما يجري في بلادنا وسبب انكسار الجيش والتنازل الذليل عن السيادة الوطنية الذي وقعه الوفد الذي يمثل النظام في خيمة صفوان بقيادة وزير الدفاع اللواء الركن سلطان هاشم واللواء الركن صلاح عبود قائد الفيلق.أما الفريق الركن نزار الحزرجي رئيس اركان الجيش آنذاك والذي كان في طريقه الى صفوان فقد توقف ليعسكر في الناصرية بسبب اوامر مفاجئة صدرت اليه، وهذا ما اثار غضب اهل الناصرية اكثر لأن الاخير بقي ليقاتلهم.

ليس بوسعي ان اسرد التفصيلات الدقيقة لأحداث انتفاضة العراق1991خاصة وان الانتفاضة انتشرت بسرعة بين مدن الجنوب واجهضت بسرعة ايضاً دون ان تكتمل وتحقق اهدافها في تحرير الانسان من عبوديته من الطاغية واستقلال البلد من القيود والاتفاقيات التي فرضت عليه بسبب سياسات الطاغية صدام الرعناء .لكني احاول في تجربتي ومعايشتي الشخصية هذه توثيق يوميات عشتها في بيئة وتجربة انتمي اليها زماناً ومكاناً ومعاناة، وإن انفصلت عنها مكانياً لكني مازلت في صلب معاناتها ومسعاها نحو تحقيق اهدافها النبيلة. انني اوثق ما شاهدته لذا اتمنى ان تزودوني بشهاداتهم ايضا لكي نغني الموضوع.

إن تجربة انتفاضتنا في عام 1991 كانت مدعومة بتأييد شعبي ومشاركة الاغلبية في كافة مدن جنوب العراق وشماله وخاصة من المقهورين منهم والذين يمثلون غالبية شرائح المجتمع العراقي.

وكما اسلفنا في الجزءالماضي رقم 2 أن التفاوض بشأن اتفاقية وقف اطلاق النار وتقديم التنازلات في خيمة صفوان الذليلة اجبرت صدام أن يذعن لوقف اطلاق النار بعد هزيمته النكراء واندحاره في حرب تحرير الكويت. والاسباب الاخرى التي ذكرتها سابقاً اضافة الى ان جميع هذه الاحداث المهيئة للثورة قد رافقتها أسباب اخرى تحفز الناس و تشجيعهم على القيام بثورة شعبية وهو اسقاط طائرات التحالف الاف المنشورات تحرض الشعب على التحرك اضافة الى اذاعات المعارضة التي كانت تبث اخبارعن تنظيم جيش عراقي معارض جديد يقوده حسن النقيب سيتقدم الى بغداد بدعم دولي. وما يسند صحة ادعائي هو تصريحات ادلى بها ا للواء توفيق الياسري في مقابلة تلفزيونية والذي كان احد المشاركين في الانتفاضة في الديوانية حيث قال: "أن الامريكان هم من اشعلوا فتيل الانتفاضة، فالأمريكان اسقطوا الاف المنشورات وألاف الرسائل وسخروا عدد كبير من وسائل الاعلام والاذاعات من خلال توجيه النداءات الى الشعب العراقي للثورة". كانت تصريحات الغرب وخاصة امريكا على لسان جورج بوش الأب تشير الى ان المجتمع الدولي يؤيد انقلابا عسكريا او ثورة شعبية وسيدعمها اذا اتجهت الامور بهذا الاتجاه.

أما على الأرض فالأخبار الجديدة التي وردت من اصدقائي في الشطرة وهم يؤكدون عليها أن معلومات جديدة بدأت تصلنا من شهود عيان من الجنود وضباط االجيش المكسور القادمين من الكويت مشياً على الاقدام مروراً بمدن الهور، هو ان أهل الهور بدأوا يأخذون اسلحة هؤلاء الجنود ويتركونهم احرارا، وما نسمعه من هذه القصص مؤشر جديد لتسليح ابناء الهور لغرض ما!!

ربما يكون اهتمامي بالوضع السياسي وما يجري في العراق يجعلني اتذكر واسجل الاحداث بدقة. ففي صباح يوم الخميس 28 من شهر شباط عام 1991 استيقضت مبكراً لكي اذهب الى الناصرية حيث كان لي زميل معي في شعبة الحسابات التي اعمل بها من آل جويبر وهم عشائر كبيرة تتمركز في اقضية ونواحي جنوب الناصرية اسمه رحمن، وهذا الرجل يثق بي ثقة كبيرة كما يثق بي زميل اخر اسمه ابو ايهاب حيث نتبادل المعلومات السرية عن الوطن فيما بيننا، كما نهتم دائماً بتبادل الاخبار السياسية السرية حول التنظيمات والحراك السياسي المعارض للنظام في تلك الفترة.

التقيت بزميلي رحمن، والذي وجدته ينتظرني متلهفا ليخبرني أن يوم امس الاربعاء المصادف 27 من شهر شباط سمعنا في اذاعة المعارضة ان جندياً يقود دبابته باتجاه مدينة البصرة فأطلق قذيفة على صورة للطاغية صدام في منطقة الحيانية بالقرب من ساحة سعد..وخرج ابناء الحيانية بمظاهرة تأييد له، لكن ازلام النظام الصدامي عالجوا الأمر بالقمع فسيطروا على الوضع.

هذا الخبر سمعته تكرر في اذاعات المعارضة انذاك وصحفها فتحريت عنه من قبل اصدقائي من اهل الحيانية، لكن الغريب انهم لم يؤكدوه، فحاولت ان اسأل الكثير غيرهم ولكني ولم اجد اي شخص منهم يؤكده، فأهل الحيانية يعرفون بعضهم جيداً، والغريب بالأمر أن المعارضة العراقية في المهجر اعتبرت هذا الحادث هو لحظة انطلاق الانتفاضة. وانا هنا اسجل شهادتي للتأريخ ان هذا الخبر لم يكن دقيقاً، لكن اشاعته قد لعبت دورا في تحفيز الناس الذين سمعوا فيه واشعلت فتيل الانتفاضة في داخل صدورهم. متمنياً ان يؤكد لنا احد المشاركين في هذا الحادث اذا كان صحيحاً لكي نوثقه.

كان صديقي رحمن مستمرا بحديثه وذكرلي ايضاً أن عشائرهم جميعها تتبادل الاحاديث عن ما يجري في العراق وانهم غاضبون لما يحدث من دمار وإذلال. كنت ارى في وجهه وهو يتحدث اشراقة امل ان الايام القادمة حبلى بالتغيرات فادركت انه يعرف معلومات لا يريد البوح بها. لكنه اشار الى ان عشائرهم كباقي العراقيين ممتعضين بسبب ما يجري في العراق.

والى هنا أكتفي بهذا القدر من يوميات منتفض املين متابعتنا ليوم الاول من اذار و الخامس عشر من شعبان هو اليوم الاول لانطلاقة الانتفاضة. مع التحية لكل الاحرار بذكرى اليوبيل الفضي لإنتفاضة العراق الشعبية 1991.

المجد و الخلود لشهادءنا الابرار

المجد للعراق.. وطننا، و لأهله ..شعبنا

و الله ولي التوفيق