المنبرالحر

الأسر / علي عبد الواحد محمد

قصدت في هذا العنوان " ألأسر " ، ليس المعنى المتداول فقط عندما يكون انسان اسيراً عند انسان آخر او عندما يكون الجندي أسيراً عند الجيش المعادي اثناء الحرب، وإنما المعنى المجازي الذي ضاقت به الحياة على سعتها . ولعل اسطع قول يمثل هذا المعنى المجازي هو ما قاله الفيلسوف الإيرلندي برنادشو " لا تجادل عاشقا ولا تجادل متعصبا فألأول قافل قلبه وفاقد مفتاحه ،والثاني قافل عقله على قضية واحدة ". فكلاهما واقع في اسر قفله .
وإطلاق صفة حالة الأسر على كل من يدين لفكر معين في حياته ، تؤدي بالضرورة الى أن يصبح كل إنسان اسيراً لفكره، وقافلا عليه ، وهذا يوقع العالم في فوضى ليس لها مخرج ، الا إذا كان صاحب الفكر المعين يتقبل فكر الآخرين ومنطقهم وربما يتبنى فكرة فولتير * التي اعلنها في يوم ما " قد تختلف معي واختلف معك ولكني على إستعداد ان أموت في سبيل ان تقول رأيك ". ولكن ويا الأسف ما زال الكثيرون لا يؤمنون بذلك ، بل ويصرون على إن أفكارهم وآراءهم هي الوحيدة الصحيحة في هذا الكون وتصلح في كل زمان ومكان مهما أختلفت الظروف وعلى الآخرين الأخذ بها سواء أقتنعوا بها ام لم يقتنعوا وإلا فالويل لهم .وهو ما نعاني منه ، وهو طامتنا الكبرى.
وتصبح الأمور اكثر قتامة عندما تسري العدوى الى المجتمع ،وتكون التقييمات النابعة منه ذات لون واحد وتفسيرا واحدا للظاهرة المعينة دون ظهور تفسيرات اخرى سواء بفعل الخوف او بفعل مسايرة المودة وحشر مع الناس عيد ، او عن قناعة ، وإذا كان احد هذه العوامل هو المسبب او جميعها ، ستكون النتائج كارثية بإمتياز. وتتجلى في بلادنا العراق هذه النتائج في الإصطفافات الطائفية التي اوشكت على جر البلاد الى الوغول في حرب طائفية مقيتة ، لولا تدارك العقلاء الأمر حينها ، ولا زالت حالة الأسر تعيد إنتاج الإحتقان بين حين وآخر وفي بيئات مختلفة، ومهما جرت الترقيعات هنا أو هناك او عمليات التقليل من شأن هذا الإحتقان .
الحق اقول إن مسألة تجنب الإحتقان والتخندق ، تكمن في التعايش ما بين الأفكار المختلفة ، وفي قبول المتضادين لبعضهم البعض ، وهذه العملية ليس مصدرها الصبر على الإختلاف فقط وليست من مكارم الأخلاق فقط ، وإنما تقرها قاعدة علمية مفادها " لا يستطيع احد ان يدّعي إنه لوحده يمتلك الحقيقة ، وإن المغايرين له مخطئون دائما ". هذه القاعدة تؤكدها وبقوة البحوث المتعددة عن الحقيقة ** حيث تشير البحوث الى الطابع المعقد للحقيقة والطابع المتنوع لها وعن تنوع معاييرها وفقاً للمدرسة الفلسفية التي تبحثها، وبالتالي يمكن الأتفاق على اسس معرفية مفادها ان ما يراه زيد من الناس حقيقة ساطعة قد يراه عمرو مجرد هرطقة والعكس بالعكس ، والحياة تسمح لتجاوز هذا الإختناق في العلاقات الإنسانية ، فالواقع مفتوح على كل الإحتمالات ، وليس اوضح من البحوث العلمية المختلفة في ذلك ، حيث تتحفنا المختبرات العلمية بين الحين والآخر ، بالنتائج المذهلة الخادمة للبشرية وتطورها ، من تجميع معلومات متناثرة هنا وهناك بما فيها المعلومات المتضادة ، وأخبار الفيزياء والكيمياء والطب زاخرة بالأمثلة الرائعة ، بلادنا العراق تحتاج الى الجميع لإنتشالها من حالتها التي لا تسر عدو ولا صديق بدون وضع المعرقلات والإشتراطات ، ليتسنى لشعبنا العراقي التنفس براحته .
* فولتير ، أسمه الحقيقي (فرانسوا ماري أرويه) (21 نوفمبر 1694) - (30 مايو 1778)، كاتب وفيلسوف فرنسي عاش في عصر التنوير، ذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الظريفة ودفاعه عن الحريات المدنية خاصة حرية العقيدة.
** رابط عن الحقيقة ومفهومها http://edorous.com/philosophie-567/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9