المنبرالحر

الحياة سياسة .. كيف يغير بسطاء الناس الشرق الاوسط؟ / د. رسميه محمد هادي

هذا هو عنوان كتاب للكاتب الايراني المبدع آصف بيات ، ويعد هذا الكتاب من اهم الكتب التي رصدت واقع مجتمعات الشرق الاوسط المعاصر. فالكتاب يؤسس لفرضية نظرية جديدة في دراسة الحياة اليومية للمجتمعات ، وتفاعلات هذه الحياة مع عالم السياسة بما فيه من تعقيدات نظامية وادوات قمعية ومع عالم المجتمع والثقافة بما فيه من تناقضات وتحولات .
ويركز الكتاب على موضوع واحد فحسب من الحياة اليومية للأفراد العاديين الا وهو صور النضال من اجل العيش ومن اجل التكيف مع معطيات البيئة الحضرية المعقدة ومع صور الاستبداد السياسي والهيمنة الاجتماعية والثقافية . ولقد استخدم الكاتب مفهوم اللاحركة لكي يجمع خيوط صور النضال وتنوعاته كلها .ويشير مفهوم اللاحركة الى صور النضال اليومي التي تتم بشكل فردي ، ولكنها تتحول الى سلوك جمعي ويجمع بينها جميعا انها تتجه الى استهلاك كل ما هو عام والحضور الفيزيقي الذي يخلق صراعا بين الأفراد وبين الدولة .
وتأخذ هذه الصور من النضال اشكالا عديدة تبدأ من صور احتلال الشوارع الجانبية والارصفة والميادين من قبل الباعة الجائلين وانتهاءا بصور نضال المرأة من اجل الحصول على حقوقها كاملة مرورا بسلوكيات الشباب التي تتحدى الاطر الثقافية القائمة .
ويؤدي بنا التحليل الذي يقدمه الكتاب لنضالات الناس في حياتهم اليومية - الشباب والمرأة والباعة والطلاب وحتى المتظاهرين في الميادين العامة الى رسم صورة للمجتمع لا يقتصر فيها الحديث على التفاعلات العادية للناس وانما يتطرق الى قضايا عامة مثل الدولة والتكوينات الطبقية والتحولات التي تطرأ على الممارسات الحياتية والبيئة الاجتماعية بشكل عام .
انها صورة تجعلنا ندرك الرسالة الاساسية من هذا العمل المهم ، وهي ان المهمشين والضعفاء يصنعون سياستهم الخاصة ، وانهم فاعلون ناشطون في الحياة وان ما يبدو على انه عادي في الحياة اليومية يحمل في طياته طاقات من النضال من اجل العيش اليومي .
ويشير الكاتب ان محتويات الكتاب تتعلق بالفعل والتغير في مجتمعات الشرق الاوسط الاسلامية ، تلك المجتمعات التي يحتل فيها الدين موقع الصدارة وبشكل اكثر تحديدا فإنها تركز على تشكل عملية التحول السياسي الاجتماعي الذي يظهر بناءا على قوى اجتماعية داخلية ، اي من خلال الافراد والجماعات .
ويركز الكاتب على الطرائق المتنوعة التي يحاول بها الناس العاديون ، اولئك الذين يعيشون على الهامش، فقراء الحضر والمرأة المسلمة والشباب المتعولم وجماعات اخرى من جماهير الحضر ، يحاولون بها ان يؤثروا على مسارات التغيير في مجتمعاتهم وذلك عبر رفضهم الخروج من الحلبة السياسية والاجتماعية التي تسيطر عليها الدول التسلطية والسلطة الاخلاقية والاقتصاديات الليبرالية الجديدة ، باحثين عن فضاءات جديدة يستطيعون من خلالها ان يجعلوا صوت رفضهم يسمع ويؤكدون من خلالها حضورهم في عمليات السعي نحو تحسين احوالهم المعيشية ، اما الطرائق التي يغير بها هؤلاء الأفراد العاديون مجتمعاتهم فأنها لا تدخل نطاق الاحتجاجات الجماهيرية او الثورات هذا على الرغم من ان هذه الاحتجاجات وتلك الثورات تمثل جانبا من جوانب الحراك الشعبي على العكس من ذلك فأن الناس هنا يلجؤون الى ما يطلق عليه الكاتب اللاحركات ، وهو مفهوم يشير الى المساعي الجمعية لملاين الفاعلين الذين لا تربط بينهم روابط جمعية ، والتي تظهر في الميادين العامة والشوارع الخلفية والمحاكم والمجتمعات المحلية ( كما سنوضح ذلك لاحقا ) . وفي ضوء ذلك فأن هذا الكتاب هو كتاب حول ما يسميه الكاتب فن الحضور او قصة الفعل الاجتماعي تحت وطأة الكوابح الاجتماعية .
وتشكل المقالات التي تكون هذا الكتاب جوهر تأملات آصف بيات خلال العقد الماضي حول الحركات واللاحركات الاجتماعية التي نظر لها من خلال الخصوصية التاريخية للشرق الاوسط الاسلامي . وهي مقالات تحاول في الوقت نفسه ان تتشابك بنائيا ونقديا مع النظرية الاجتماعية السائدة . ويشير الكاتب انه لا يحاول ان يقدم معرفة دقيقة حول التغير الاجتماعي في هذه المنطقة المعقدة ، بل يحاول في الوقت نفسه ان يشتبك ويساهم في النظرية الاجتماعية على نحو عام . ويقدم الكتاب اسهاما من منظور شرق اوسطي في المناقشات العلمية حول الحركات الاجتماعية والتغير الاجتماعي . وفي هذا الاطار نعرض مدخل اللاحركات الاجتماعية الذي طوره أصف بيات باعتباره الاكثر تعبيرا والاكثر قدرة على تحليل ما تشهده الدول العربية من حراك سياسي ويعد هذا المدخل من المحاولات الجادة في دراسة وتحليل توجهات الشارع وتفضيلاته ، ولكنه من المداخل التي لم تتم دراستها بصورة معمقة بعد واختبار مقولاته
ويقصد بمفهوم اللاحركات الاجتماعية الانشطة الجماعية التي يقوم بها فاعلون غير جمعيين فهم يجسدون ممارسات مشتركة لأعداد كبيرة من الناس العاديين الذين تؤدي انشطتهم المتشابهة والمتفرقة في الوقت نفسه الى احداث تغير اجتماعي كبير حتى وان لم تكن هذه الممارسات موجهة بأيديولوجية او بقيادات معترف بها او بتنظيمات . ان مفهوم الحركة يتضمن ان يتوفر في اللاحركات الاجتماعية عناصر ملائمة ومرتبة على الطريقة التي توجد بها في الحركات الاجتماعية ومن ثم فان اللاحركات الاجتماعية تشكل كيانات متميزة عن ( الحركات الاجتماعية ). ففي مجتمعات الشرق الاوسط تستغرق اللاحركات اجتماعية حراكا لملايين المهمشين الحضريين خاصة فقراء الحضر والمرأة المسلمة والشباب ، ان اللاحركات التي يقوم بها المحرومون من سكان الحضر والتي يصفها الكاتب بعملية ( الانتهاك الهادئ لكل ما هو معتاد ) ، احتوت على طرائق مختلفة وطويلة حاول بها الفقراء النضال من اجل البقاء ومن اجل تحسين ظروف معيشتهم عن طريق التأثير الهادئ على الطبقة المالكة والقوية وعلى المجتمع بشكل عام . انها تجسد الحراك طويل المدى لملايين الافراد البائسين والمهمشين والاسر التي تجاهد من اجل تحسين احوالها في جهد جماعي يستغرق الحياة برمتها وهو جهد ليس فيه من القيادة والايديولوجية والتنظيم المقنن الا النزر اليسير . وقد ذكر آصف بيات ثلاث ديناميكيات خاصة باللاحركات الاجتماعية تتمثل الديناميكية الاولى في الزحف البطيء . وتركز على العدد ، فقوة تأثير اللاحركات الاجتماعية ترتبط بتآلف سلوك اعداد كبيرة من البشر تدريجيا . حيث يقوم افراد لا يوجد ارتباط او اتفاق فيما بينهم بمجموعة من الانشطة والسلوكيات التي تكتسب نمطا معينا بمرور الزمن والتي تهدف للحصول على الضروريات الاساسية للحياة . وعادة ما يصاحب القيام بهذه الانشطة مخالفة هادئة للقانون اي ان الزحف البطيء لا ينطوي على استخدام العنف . وتستمد شرعية هذه الانشطة من جماعية السلوك لعدد كبير من البشر .
وقد حلل بيات في كتابه العديد من الامثلة التي تعبر عن هذه الديناميكية في المنطقة العربية خاصة في الحالة المصرية ومنها قيام سكان العشوائيات في المناطق الحضرية ببناء مساكن على اراض على نحو يخالف قانون الدولة واعتمادهم على انفسهم في الوصول الى المياه وخطوط التلفون وغيرها من وسائل المعيشة دون الرجوع الى سلطات الدولة، وهذه الظاهرة موجودة في العراق ايضا . كذلك قيام صغار الباعة ببيع البضائع على الارصفة وانتشار ظاهرة الباعة الجائلين في منطقة وسط البلد . ويفسر بيات هذا السلوك بانه محاولة من الفقراء في المناطق الحضرية للتعامل مع تأثير السياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة ، ومع فشل الدولة في تلبية احتياجاتهم بالاعتماد على انفسهم .
وتتمثل الديناميكية الثانية في الشبكات السلبية . وتعد هذه الديناميكية احد الملامح الرئيسية في تكوين اللاحركات ، وهي قد تأخذ اكثر من صورة تتمثل احدى هذه الصور في التواصل الفوري الذي يتم بين عدد صغير من الافراد وذلك بناء على ادراك ضمني بين هؤلاء الافراد بوجود قواسم مشتركة او هوية مشتركة تجمعهم . وذلك اما بشكل مباشر عبر الاماكن العامة او بشكل غير مباشر من خلال وسائل الاعلام . فعلى سبيل المثال ، وجد بيات ان شبكات الاتصال بين الباعة الجائلين تقوم على ادراكهم بوجود مشكلات مشتركة يعانونها ، وهو ما يحدث نتيجة ملاحظة احدهم للآخر بشكل يومي عبر زوايا الشوارع المختلفة ، وذلك رغم عدم معرفة احدهم للآخر ، او انها معرفة قائمة على مجرد تبادل الاحاديث . فالملاحظة المباشرة هي التي ولدت هذا النوع من التواصل في تلك اللحظة . ويشير بيات الى ان الذي يربط بين الشبكات السلبية والفعل الجمعي المحتمل هو وجود ادراك بتهديد مشترك ، يحاول هؤلاء الافراد مواجهته عبر هذه الشبكات . وهذا الوضع حدث في المراحل الاولى للثورة التونسية . فعندما اضرم محمد البو عزيزي احد الباعة الجائلين النار في نفسه احتجاجا على مصادرة احد افراد الشرطة التونسية عربة بيع الخضار الخاصة به .قام الباعة الجائلون في المنطقة التي يسكن فيها البو عزيزي بالتضامن معه ، الامر الذي تطور الى مسيرات حاشدة . وتنصرف الديناميكية الثالثة الى فن الحضور ، وترتبط هذه الديناميكية بمدى الشجاعة والابداع الذي يمكن ان تتحلى به هذه اللاحركات في تأكيد ارادتها الجمعية ، وذلك من خلال الاستفادة من كل ما هو متاح من امكانيات في اكتشاف مساحات جديدة تمكنها من ان تكون مسموعة ومرئية ويمكن الشعور والاعتراف بها. وهذه الديناميكية تساعد المجتمع من خلال سير الحياة اليومية فيها بتفاصيلها ، على ان يعيد تجديد نفسه وذلك عن طريق تأكيده قيمه التي تفرض وعيه الجمعي في نظام الدولة ومؤسساتها . فالمجتمع يستفيد من فكرة مفادها ان الانظمة الاستبدادية قد تكون قادرة على قمع الحركات المنظمة . لكن تظل قدراتها محدودة فيما يتعلق بقمع المجتمع بأكمله ، فالتحدي في هذه الحالة يكون موجها للقيم والقواعد والمؤسسات التي يتشكل منها نسيج المجتمع ككل *
* انظر ملحق مجلة السياسة الدولية عدد يناير 2012.