المنبرالحر

مع الذكرى الأليمة لجرائم الأنفال النص الديني كسُلَّم للجريمة .. الأنفال مثالاً. القسم الثاني . / د. صادق إطيمش

جواباً على السؤال المطروح في نهاية القسم الأول من هذا الموضوع، ولكي يقنع الطاغية هذا البعض بخلاف ما ذهب إليه ، توجه إلى سورة الأنفال هذه مرة أخرى ليجد فيها ضالته التي جاء بها من تأويل الآية :
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
ولم يأت هذا التحريض لشحذ الهمم بسبب قلة جيش الطاغية وكثرة جيش عدوه ، بل بالعكس فإن ميزان القوى عددياً كان إلى لصالح الطاغية. لقد جاء هذا التحريض مقروناً بالكراهية وممزوجاً بالتدني الأخلاقي الذي اراد به بلوغ عواطف تابعيه له وحقدهم وكرههم لأهل وطنهم لا لسبب آخر غير نفس السبب الذي إستخدمه بعد بضعة سنين ليس ضد الشعب الكوردي فقط ، بل ضد الشعب العراقي باجمعه حين قمع إنتفاضة آذار عام 1991. وحين جفف الأهوار في الجنوب بعد تسميمها.
فسورة الأنفال بما فسره الطاغية من محتوى تحريضي ضد معارضي سياسته القمعية العنصرية قدمت له التبرير الذي أراده في إرتكاب جريمته هذه إستناداً إلى تأويله وتأويل فقهاءه للنص القرآني.
وهكذا يستمر التفتيش هنا وهناك في هذه السورة التي أراد لها الطاغية ان تلبي ما يكنه في فكره من جريمة تلبس لبوس الدين ضد شعب بكامله . فيجد فيها : " وما النصر إلا من عند الله " (آية 11) أو " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم " (الآية 18) .
التاريخ الإسلامي يحكي لنا قصصاً كثيرة تشير إلى سعي بعض فقهاء السلاطين إلى الإختفاء وراء النص الديني حينما يضيق بهم الأمر ولا يجدون ما يحاورون به مَن إختلفوا معهم او ما يقاتلون به اعداءهم وليس لديهم مبرر لهذا القتال غير المبرر الديني . وربما ظلت مصاحف عمرو بن العاص من اشهر القصص في التاريخ الإسلامي التي جعلت من النص الديني بكامله معلقاً على رؤوس الرماح ليستصرخ عواطف مَن تعلقوا به : أن إحتكموا إلي ...وكلنا يعلم اليوم كيف وُظِفت نصوص القرآن لبلوغ هدف سياسي لا علاقة له بتعاليم الدين التي يقول عنها هؤلاء المؤمنون بها من الجبابرة بانها لا تلتقي والخديعة .
وتاريخ المسلمين مليئ بمثل هذه النماذج التي جعلت من الدين ُسلَّمآ للوصول إلى أهداف دنيوية ، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقيقة والمبادئ والأخلاق ، إذ أن مثل هده ألأمور لا تعني شيئآ بالنسبة للمتسلطين وفقهاءهم قدر ما تعنيهم السلطة والتحكم في رقاب الآخرين مستغلين صفاء النية وطيبة السريرة والإخلاص للمبادئ الدينية الأصيلة لدى كثير من الناس الذين سيقفون على حقيقة مثل هؤلاء يومآ ما طال الزمن بعروش الجبابرة وكروش هؤلاء الفقهاء ام قصر.
يحاول مستغلو الدين لأغراضهم السياسية والحزبية أن يوهموا الناس بتفسيراتهم للنصوص القرآنية على أنها تعاليم ومبادئ الدين الحقيقية ويطالبون ألإلتزام بها ويجعلون من مخالفتها مخالفة للاحكام الدينية وخروجآ على التعاليم ألإلهية، يتوعدون مَن يخالفهم الرأي بالويل والثبور ولا يتورعون من الإقدام على الجريمة لإنهاء المعارضين لهم ولتأويلهم للنصوص القرآنية . وهذا ما تبلور عنه تيار الإسلام السياسي الذي يسير اليوم في وطننا العراق على نفس ذلك المنهج الساعي لتخندق السياسة وراء الدين.
يقدم تيار الإسلام السياسي ذلك الجزء من الدين الإسلامي المرتبط بالعنف والتكفير وإنهاء الآخرين بالإرهاب والقتل فيبدو الإسلام أمام أبنائه وغير أبنائه بهذه الصورة التي لا تعرف الرحمة والتسامح ، وهذا هو دينهم ، إسلام الفقهاء ، فقهاء مروجي ألإرهاب والداعين له ، وقد لاقى أهل العراق ، كما لاقى غيرهم من المسلمين وغير المسلمين ألأمرين من فتاوى إسلام الفقهاء التي أحلَّت دمهم . متناسين ومتجاهلين تماماً تلك الجوانب من المبادئ الدينية التي يدعو لها إسلام السماء الذي يدعي هؤلاء الإيمان به، والتي تشير إلى الحكمة والموعظة الحسنة ، وترك الوصاية على الناس في أمور دينهم والتوجه من المبادئ التي تدعو إلى التسامح وسعة الصدر ونشر المحبة والتآلف بين الناس جميعآ ، فكيف بالأمر إذا كان بين المسلمين أنفسهم..؟
لا يقتصر ظهور هذا التيار على المجتمعات الإسلامية فقط ، بل ويمكن مراقبة هذه الظاهرة في مجتمعات اخرى أيضآ يلجأ فيها دعاة تسييس الدين أو تديين السياسة إلى أساليب مشابهة عند مواجهة خصومهم في الرأي . لقد أصبح التطرف الديني ظاهرة تعكس ما يتبلور عن المشاكل الإجتماعية بأشكالها وصورها المختلفة في اي مجتمع من المجتمعات، فألاسباب السياسية وهدف الوصول إلى السلطة أو الإحتفاظ بها يكاد يكون القاسم المشترك بين جميع هذه التيارات أينما وجدت ، أي الرغبة بالوصول إلى الحكم أو الدفاع عن الحكم وليس الدفاع عن الدين ، كما يدعون ، هو السبب الرئيسي الذي يدفع هذه التيارات لإرتكاب مثل هكذا جرائم كجرائم الأنفال .
لقد شاءت الصدفة أن أُولَدَ في بيت عربي إسلامي في جنوب العراق، ولا إرادة لي في ذلك ، كما بينت اعلاه . إن هذا الإنتماء اللاإرادي سيرتبط بانتماء إرادي مستقبلاً قد يتحرك في مجالات قد تختلف عن مجالات انتماء البداية . أي ان التربية العربية الإسلامية التي يتلقاها مَن يولد ويتربي في أجواء إرتبطت بنظام البداوة واستمرار العصبية القبلية في كثير من مفاصلها ولم نستطع التخلص منها لحد الآن بالرغم من تبجحنا بالقضاء عليها ، تفرض على المنتمي لهذا التراث طريقين اساسيين في حياته : فإما ان ينغمس في هذا التراث دون وعي يسعى إلى تغييره او تطويره على الأقل . أو أنه يبدأ بالنظر إلى هذا التراث نظرة نقدية فاحصة قد تؤدي إلى الإنقلاب على كل او بعض مفاهيمه ، وذلك رغبة في الإنسجام مع تغيير الواقع الحياتي الذي تؤكده الحياة كل يوم من خلال حركة المجتمع نحو الأمام دوماً . فكيف ينظر العربي العراقي ، خاصة المسلم ، او العربي غير العراقي إلى جريمة كجريمة الأنفال التي إرتكبها واحد من دعاة القومية العربية وأحد زعماء مَن يدعون إلى تحرر هذه القومية من السيطرة الأجنبية والساعين إلى وحدتها ، كما يزعم ؟ هل تنسجم هذه الأطروحات القومية العربية مع التصرف الإجرامي اللاإنساني تجاه القوميات الأخرى ؟ أي بمعنى هل يمكن لقومية او شعب يضطهد أو يقمع شعباً آخر ان يكون نصيراً وعاملاً على تحرر شعبه أو قوميته أو اي شعب او قومية أخرى ؟
ألأجوبة على هذه الأسئلة وغيرها قد يقودنا إلى توضيح صورة جرائم الأنفال في الوعي والفكر العربي.
إن محاولة التوضيح هذه تحتم علينا الوقوف أمام تفسير طبيعة ألإنتماء القومي وتعاملنا مع هذا الإنتماء وهل ينطلق من مقولة : إنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، بغض النظر عن تفسير الظالم هنا ، أو نتعامل مع هذا الإنحياز من وجهة النظر الداعية إلى تقييم الإنسان كإنسان اولاً ثم التحري عن هوياته الأخرى ، إن كان هناك ما يدعو إلى هذا التحري .
إلى أي مدى إنشغل الوعي العربي بتقييمه للقوميات الأخرى في المجتمعات التي يكون فيها العرب القومية الأكبر بين القوميات المتواجدة على نفس البقعة الجغرافية في دولة ما ؟ وإلى اي مدى اصبح الإنحياز القومي حاجزاً دون تقصي الخلل الذاتي وغَض الطرف عن حقوق المواطنة بالمقارنة مع حقوق القومية الكبرى ؟
هذه إستفسارات ينبغي علينا ، نحن العرب ، ان نعالجها حينما نفتش عن تفسير التجاهل الذي يكاد ان يكون عاماً ليس لدى الحكومات فقط ، بل وحتى داخل المجتمعات العربية والإسلامية ايضاً، لقضايا هي في صميم هذه المجتمعات وتشكل جزءً من وجودها ، والقضية الكوردية التي نحن بصددها هي واحدة من الأمثلة الكثيرة التي ينوء بها حاضرنا كامتداد لتاريخ مليئ بالظلام ظل يزحف عليه هذا الحاضر قاصداً المستقبل . فهل نملك من الجرأة وقوة الإرادة لأن نوقف هذا الزحف لكي لا يشمل ابناءنا واحفادنا في المستقبل ؟
ليس هناك مَن يؤاخذ إنسان ما حينما يتعلق هذا الإنسان بانتماءه القومي ويعكس ذلك على مشاعره وفي تصرفاته وعلاقاته مع الآخرين . إلا أن هناك مَن يؤاخذه على ذلك حينما يجعل من هذا الإنتماء وسيلة لتجاهل الآخر وطريقاً لفرض ما يريد ، واضعه فوق الإنتماء الإنساني ، لا على بقعته المحدودة فقط ، بل وعلى إمتداد الجغرافية البشرية على بقاع لم يشترك مع ساكنيها إلا بانتماءه الإنساني الذي يجب ان يكون الفيصل في مسار حياته .
إن مَن ينطلق من توجه الأكثرية والأقلية ، باعتباره توجهاً ديمقرطياً ، في تحديد علاقته مع بني جنسه سواءً كان ذلك التوجه قومياً أو دينياً فإنه لم يع اساساً مفهوم أنسنة الديمقراطية المبني على اساس الوعي في تطبيق هذا المفهوم وينطلق في هذه العلاقة بين الديمقراطية والقلة أو الكثرة كذاك الذي ينطلق من إعتبار الإنتخابات بغض النظر عن الأسلوب الذي تمت فيه كأساس للديمقراطية المعزولة عن الوعي والمعرفة .
فإذا ما إنطلقنا نحن العرب في اوطاننا من مبدأ القومية الكبرى الآمرة الناهية ، فإننا والحالة هذه سوف نقدم لأجيالنا القادمة تلك المواد الإنشائية التي أراد أو يريد بها المتعصبون قبلياً ودينياً ان يستمروا في بناء الجدار الذي يحجز بينهم وبين أقرانهم من البشر ، لتصبح هذه الأجيال صم بكم عمي لا يفقهون ما يدور حولهم من جرائم يقترفها الحاكم المتسلط بحق الإنسان الذي ينتمون إليه .
لقد تخلف الوعي العربي كثيراً عن محاكاة واقعه محاكاة تنطلق من التحرك ضمن هذا الواقع فعلاً . وإن اردنا تقصي اسباب ذلك فسنجد اثر الأنظمة السياسية بما تبنته من تشذيب للفكر وتعتيم على الحقيقة وإذلال للمواطن بالوسائل التي تراجع امامها هذا الوعي مكرهاً على ذلك لا راغباً به ، إذ انني مقتنع تماماً بعدم وجوذ تلك الأمة أو ذلك الشعب الذي يسعى بقدمه راغباً للتخلف . فهل بوسعنا ان نجعل الوعي العربي في حالة يتجاوز فيها هذه الوسائل ليجعل من مجتمعات اجيالنا القادمة مجتمعات تكف عن ترديد : لنا الصدر دون العالمين او القبر ، او ما شابه ذلك من العنجهية الجوفاء التي تبعدنا دوماً عن تفعيل مقولة : حتى يغيروا ما بانفسهم ( الآية 53) التي تضمها سورة الأنفال ايضاً والتي لم يعرها مجرمو الأنفال اي إهتمام وكأن مفهوم الآية 85 من سورة البقرة :
ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوَهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
ينطبق عليهم تماماً .
الرياح العاتية التي بدأت تهب منذ اعوام على مجتمعاتنا العربية والتي تشير إلى التغيير لا محالة ، مهما كان نوع هذا التغيير، تشير إلى انتقال الخوف من بيوت الفقراء إلى قصور الأمراء وإن بعض تباشير هذا الخوف ستجعلنا لا نفقد الأمل في حياة افضل لأجيالنا القادمة . وما على جيلنا اليوم إلا الخروج عن سكوته ومواقفه المتفرجة التي ظلت الأنظمة السياسية القمعية تحيطه بها . وليعمل كل من موقعه ، حتى بعد ان إشتعل الرأس شيبا ، على ان يحقق مبدأ الإنسان أخ الإنسان في كل مفاصل حياته.